لا تزال مسألة علاقة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بالدين ، تثير جدلا حادا ، اتسعت رقعته عندما إعتمد الاسلاميون على تزييف الوقائع ،مثلما  فعلوا مع ما سمي بخطاب الدعوة الى افطار رمضان ، حيث نشروا في أدبياتهم أن الزعيم تحدى إيمان التونسيين بشرب كأس عصير في نهار يوم رمضاني والناس صيام ، في حين أن الخطاب كان قبل الشهر الفضيل بثلاثة أسابيع ، وقد ألقاه يوم 5 فيفري  1960أمام عدد  من المسؤولين الحكوميين ومفتي الجمهورية في ذلك الوقت محمد العزيز جعيط ، في وقت كان فيه بورقيبة يقود مشروعا وطنيا لبناء الدولة ومواجهة تحديات التنمية في ظل إنتشار الفقر والبطالة والأمية والمرض والتخلف الحضاري.

ومنذ ذلك التاريخ ، استعمل الاسلاميون الخطاب في تشويه صورة الزعيم الخالد وتقديمه للعالم الاسلامي على أنه عدو الدين وعابث بعقيدة المسلمين ، مع أضافة أكاذيب متعمدة كالقول بأن بورقيبة ألقى ذلك الخطاب في شهر الصيام ثم شرب كوبا من العصير متحديا مشاعر شعبه ، رغم أن الخطاب لم يلق في رمضان ، كما روجوا أن الإمام الطاهر بن عاشور رد على بورقيبة على شاشة التلفزة ، بينما يعرف الجميع أن تونس لم تكن بها قناة تلفزية في تلك الفترة ، 

في خطابه المذكور قال بورقيبة أن "هناك عراقيل كثيرا ما يعتبر التونسيون أنّ مرجعها إلى الدين والدين براء منها، فالدين خلو من الأوهام القديمة التي يعبر عنها بسطاء الناس: "بالمكتوب" فيقولون: "كل حدْ وقسمُهْ" و"ربّي ما يخلق نفس كان ما يخلق قسمها". 

وأضاف « نحن اليوم على أبواب رمضان لا يفصلنا عنه إلاّ ثلاثة أسابيع. ومسألة صوم رمضان درستها طويلا ومن واجبي أن أبسطها هنا بكلّ صراحة بحضور مفتي الديار التونسية الذي اجتمعت به قبل اليوم وتحادثت معه مرّات متكرّرة بشأن هذا الموضوع» مردفا إن « التعبئة التي ندعو إليها والعمل المتواصل المتحتّم والضروريّ تعترضه عقبات يعتبرها الشعب ذات مصدر ديني، فيقول الناس: أقبل رمضان ولا عمل فيه والأمر لا ينازع فيه منازع ، هذا هو الحدّ الذي وصل إليه الأمر … ويقولون: هل أسمى لدى المرء من دينه؟ ويرون أنّ صيام رمضان قد يؤدّي بالمرء إلى الإمساك عن كلّ عمل ولا جناح عليه. وعندما تريد أن تحاسبه عن تكاسله يتذرّع بالصوم ويتمسك برمضان » 

وتابع بورقيبة قائلا « إنّ أمّة بأكملها تسعى ما وسعها لتنمية الإنتاج القومي، وتبذل جهد طاقتها في ذلك السبيل، وبين عشية وضحاها ينهار إنتاجها ويكاد يضمحلّ تماما وتسأل عن السبب فيجيبك بأنّه رمضان ،وتلتفت حولك فلا ترى إلا متثائبا أو مستسلما للنوم ، وهذا أمر لا يمكن أن يستمرّ لأنّه ليس من الدين في شيء وهذا أقوله هنا بحضور مفتي الديار التونسية الذي سيخاطبكم مباشرة في الموضوع بعد يوم أو يومين، وأكرّر القول بأنّه ليس من الدين، وإنّه إسراف في فهم الدين »

وأشار الى َ« إنّ من يكون صائما وقائما بواجبه الديني حسبما يفرضه عليه الإسلام ثمّ يدرك أنّ ضعف بدنه لا يسمح له بالعمل فيستمرّ في الصوم تاركا العمل .. إنّ من يكون هذا شأنه لا يقرّه الدين عليه حسبما يراه مفتي الديار التونسية. وسيشرح لكم ذلك بنفسه ، إن الله جعل الدين يسرا لا عسرا، وقد خفّف على عباده جميع الفروض التي تشقّ عليهم وينالهم التعب في أدائها، والصيام أشقّ هذه الفروض على النفس لم يفرضه الإسلام باعتباره ضربا من ضروب تعذيب النفس البشرية. والتعذيب الذي تقرّه بعض الأديان لا يقرّه الإسلام ولا يعتبره موجبا للجزاء بالجنّة أو أداة للتكفير عن الذنوب» 

التخلص من الانحطاط كفرض جهاد 

وقال بورقيبة « هناك أناس يفرضون الحرمان على أنفسهم وينزعون عنهم أثوابهم ويلوذون بالفقر ويلبسون بعض أكسية صوفية ويقنعون بكسرة من خبز تسدّ رمقهم. والذين يبلغون تلك الدرجة من التصوف ويتعبدون على تلك الصورة لا يقرّهم الإسلام في ذلك » معتبرا التخلّص من الانحطاط كفرض الجهاد وإنّ ديننا دينٌ جميع فروضه قائمة على العقل والمنطق وغاياتها معروفة يتناولها التدريس.. وهي تمرين وتجربة وتطهير ، ولكن ما يتعارض منها مع ضرورة الحياة وما تقتضيه الحياة والكفاح من أجل الحياة فإنّها تسقط بطبيعتها ويصبح المسلم في حلّ منها ،فالله سبحانه وتعالى أعفى المسافر من الصوم نظرا لما كان يلاقيه من بعض الأتعاب، فكيف لا يعفيه عندما يتعلّق الأمر بشغله الذي لا عيش له بدونه.

ولا يملك أن يقتات ويكسب تلك الكمية الضئيلة من الدقيق التي تكفل له قوت أطفاله إلاّ عن طريق الشغل، زد إلى ذلك أن الشغل ضرورة يفرضها السعي لخروج الأمة الإسلامية عن طور الانحطاط والتخلف، فتونس البلاد الإسلامية تعاني درجة من الانحطاط تجلب لها العار في نظر العالم، ولا سبيل لأن ترفع هذه المعرّة عن جبينها إلا بالعمل الدائب المتواصل والشغل المثمر المجدي، والتخلص من هذا الانحطاط فرض وجهاد حكمه كحكم جهاد السيف. ولذلك فإنه لا يمكن أن يعرقل جهادها أو يعطله أو يوقف انطلاقه أو يقعدها عنه فرض الصوم، فالصوم يحطّ من إمكانيات الفرد ويجعله لا يقوى على واجب هو ليس واجبا شخصيا بل واجب نحو أمّته ونحو دينه. 

وأوضح بورقيبة « هذا ما يتعيّن عليكم إدراكه حقّ الإدراك دون أيّ التباس قد يركبه خصومنا الكثيرون مطيّة للتهجّم علينا وحملنا محمل الكفر والعياذ بالله. إني لا أدعو الأمّة إلى ترك الصيام بل إنّي أقول أنّ تعبا يقعدهم عن شغل حيويّ يكسبكم قوتكم وقوت ذويكم ويوفر لكم سببا من أسباب رفع هذا الدين إلى المستوى اللائق به .. إذا خفتم أن يحول بينكم وبين هذا العمل المطلوب منكم لبلوغ هذه الأهداف السامية، فإن فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط يقول لكم إنّ الدين يجعلكم في حلّ من الصيام على أن تؤدوا صيام الأيام التي فطرتم فيها عندما يتيسر لكم ذلك، يوم تحالون على التقاعد مثلا أو عندما تكون الظروف مواتية، ليس هناك مانع ديني يمنع من ذلك» وأردف « أما اليوم فإننا نواجه تعبئة عامّة يتعيّن فيها أن يكون العمل متواصلا لا يعرقله معرقل ولا يوقف اندفاعه شيء.

والخطر كل الخطر أن يتكسّر الاندفاع وأن يتعطل شهرا أو شهرين بدعوى أن صوم رمضان هو السبب » مؤكدا « إننا في غمرة مشاكلنا ومعاركنا السياسيّة لم نجد وقتا كافيا لدرس السيرة النبويّة بإمعان. ولقد اطلعنا عليها وعلمنا منها الكثير ولكن جوانب منها لم نهتد إليها. وقد أرشدني فضيلة الشيخ محمد العزيز جعيط في مجلس جمعنا مع فضيلة الشيخ الطاهر بن عاشور إلى حادثة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم دلتنا على رأيه واتجاهه وعلى تصرّفه لو بقي صلى الله عليه وسلّم حتّى اليوم.

يقول فضيلة مفتي الديار التونسيّة إن رمضان أدرك المهاجرين والأنصار وهم يسلكون طريقهم بقيادة النّبي الكريم إلى فتح مكّة فصام بعضهم وأفطر آخرون، فأراد صلى الله عليه وسلّم أن يشجعهم فأفطر ومع ذلك تمسك البعض منهم بالصوم فأمرهم بالإفطار وقال لهم :"أفطروا لتقووا على ملاقاة عدوّكم"، حديث شريف وسنّة نبويّة كريمة كانت مجهولة منا والحال أنها جديرة بأن تلقى كل يوم جمعة في الجوامع والمساجد، وأن تظفر بما هي حرية به من درس وتحليل لقد كان صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى جنود الإسلام ليقهر بهم أعداء الدين، وماذا يفيد الدين يا ترى إذا تمسكوا بالصوم ثم اندحروا أمام قريش » 

الافطار للاستقواء على العدو

وأضاف « إنّ جميع رجال الدين الحاضرين في هذه القاعة يعلمون أن الإسلام يحضّ على الإفطار في رمضان ليقوي المسلمون على أعدائهم وأعداء المسلمين اليوم: الانحطاط والخصاصة والذل والمهانة. إن الدين يأمركم أن تقووا على أعدائكم كي لا تبقوا في مؤخرة الأمم، وإذا اردتم أن يكتب الله لكم ثوابا في الدار الآخرة فما عليكم إلاّ أن تعملوا بضع ساعات إضافية خير لكم من صوم لا عمل فيه يدفعكم إلى زيادة التقهقر ،وهذه السنة النبوية كشفت القناع عن حقائق دينية كانت مجهولة لا يتعرض لها الفقهاء خشية من بساطة الناس. 

وهناك واقعة أخرى في السيرة النبوية حدثنا عنها أساتذتنا عندما كنا تلاميذ بالمدرسة الصادقية، وهي أن النبيّ صلي الله عليه وسلم التقى في طريقه برجل يتعبّد في صومعة يقضي ليله ونهاره مصليا، وقيل له أنه زاهد في الدنيا، فسال عمن يطعمه فقيل له إنه أخوه، وكان حاضرا، فالتفت إليه رسول الله وقال له: إنك أفضل منه لأنك تعمل من أجل إطعامك وإطعامه أو كما قال ،وتابع بالقول :هذا هو ديننا الحنيف الصالح لكل زمان ومكان والمساير لجميع الظروف، والبلاد التي تدعو فيها الحاجة إلى الشغل والعمل والجهاد في منطقة معينة لا يمكن أن يقعدها الدين عن ذلك، لاسيما وهو دين يدعو إلى الجهاد.

وإذا ما قال قائل إن الدين يقعد بالمسلمين عن التطور والتقدم فإنّي أردّ عليه بأنه يستحيل أن يكون الدين سببا في تأخّرنا وفي ضعفنا ،والأمر لا يدعو إلى اجتهاد كبير، بل يكفي أن نراجع كتب السيرة التي لا تترك مجالا للتردد في الإمساك عن الصوم حالما يشعر المرء بخطر يهدد بدنه أو شغله أو إنتاجه، أو ينال منه في القيام بواجبه في هذه الدنيا وفي سعيه ليحظى بعيش الكرامة وفي مساهمته لتخليص بلاده من التخلف والانحطاط. 

وقال بورقيبة : إن الدين والحالة تلك لا يطالب بالاستمرار في الصوم ويراه غلوا ولا غلوّ في الدين. ولكنه الجهل جعل الناس يعتقدون أمورا ما أنزل الله بها من سلطان عن حسن نية ، وقد تكونت عادات وتقاليد ارتبطت برمضان، لعلها السبب الرئيسي فيما أصابنا من انحلال عزائمنا في ذلك الشهر، فقد ألف الناس أسماره الطويلة ومآكله الدسمة وخلاعة ملاهيه وغير ذلك مما يأباه الدين ويجرّ إلى النكبات وفقد الثروات، وكثرة المأكل تؤدّي إلى تأزم الأمراض بل هي التي تثيرها. 

وتابع : كل هذا يجب أن يوضع له حدّ وأن يتوقّف السهر عند حدّ معقول، لأنه هو الذي يحول بين الرجل وبين القيام بواجبه في الغد، فتتكون عادات جديدة وتتبدل المواعيد وينحزم كل نظام وتشحب سحنات وتصفرّ وجوه، ولا يعود أيّ كان يستطيع أن يقوم بعمل منتظم مثمر، وكلٌّ يشكو رمضان وتعب الصيام.

ولعل أكثر الناس شكوى من رمضان اولئك الذين يفطرون ولكنهم يتأخرون عن مواعيد العمل أكثر من سواها وعليه، فابتداء من هذا العام تقرّر منع جميع هذه التصرّفات المخلّة بالكرامة والمفسدة للأخلاق، فلا تتغير أوقات العمل في المصالح الإدارية، ولا يتجاوز السهر منتصف الليل، ولا تقام الحفلات الراقصة في المقاهي وغير ذلك من الأمور المزرية، ولنا الكفاية في أعيادنا الدينية والوطنية لنتّعظ ونعتبر، ولا داعي لتواصل عيدنا شهرا كاملا وأن يمتدّ إلى شهر قبله وشهر آخر بعده، فكفانا استهتارا بالقيم والأخلاق والدين في آن واحد. إنّنا في حاجة إلى القوّة وهذه الدولة بما عرف عنها من حزم ونكران ذات واخلاص وحبّ للخير جديرة بأن تلقى من الشعب الامتثال والطاعة والعمل المثمر رغم العادات الماضية. 

ولقد اندحرنا وتقهقرنا ودعانا داعي الجهاد المتواصل فما ضرّنا لو تخلّصنا من جميع العادات الوبيلة وانكببنا على العمل واتخذنا لنا أفراحا معقولة واضحة المعالم مثل الأفراح الوطنية والدينية، بدون أن نتذرّع بها للاستهتار والتفسّخ أو لإثارة الخصومات والخلافات والانزلاق إلى التصارع وتبادل اللكم في سوق العصر والباب الجديد متذرّعين بأنّ ذلك هو تأثير رمضان. 

وإختتم بورقيبة خطابه بالقول أنه يجب  أن نتمسك بجادّة العقل وأن نتبيّن الهدف الذي نسعى لإدراكه، وعندها تهون علينا التضحية بالعادات والسهرات مما يعود علينا بالضرر من جميع الوجوه وما كل هذا إلاّ توفير لأسباب النجاح في معركة البناء والتشييد وفي التشغيل المستمر، والأمر يعود إلى التفكير وإعمال الرأي ،والعاطلون الذين نشغّلهم يجب أن يقتنعوا بأننا لا نبغي تمكينهم من الأجور فقط، بل نروم توفير ثروة البلاد والخروج من طور الانحطاط الذي يصمنا بوصمة عار باعتبارنا تونسيين وعربا ومسلمين ،وإذا ما تحقق هذا الهدف ولقينا من الشعب الحماس والامتثال والعمل والعزوف عن العادات البالية والمعتقدات الدينية الخاطئة، وإذا ما واصلنا السير جنبا إلى جنب يدا واحدة، فإننا منتصرون في معركتنا الكبرى؛ معركة بناء دولة حرّة وأمّة مسايرة لمقتضيات العصر في مقدّمة الشعوب الحيّة. 

فتوى الشيخ جعيط 

في يوم 13 فيفري 1960 بثت الإذاعة الوطنية نص فتوى شيخ الاسلام المفتي محمد العزيز جعيط ونشرتها  جريدة « الصباح » في اليوم الموالي وجاء فيها : 

" بسم الله الرّحمان الرّحيم 

والصّلاة و السّلام على أشرف المرسلين 

الفتوى رقم 20 :الأعذار المبيحة للفطر في رمضان 

السؤال :ما هي الأعذار المبيحة للفطر في رمضان؟ 

الجواب: أوّل ما يلزم معرفته أنّ الله تعالى أمر المسلمين كافّة أن يقوموا بصوم أيّام هذا الشهر، أي يمسكوا عن شهوتي البطن والفرج من الفجر إلى غروب الشمس، واهتم بأمر الصوم فجعله من دعائم الإسلام ونصّ على فرضه القرآن والسنّة وانعقد الإجماع على وجوبه واشتهر ذلك فصار من المعلوم من الدين بالضرورة يخرج منكر وجوبه من حظيرة الإسلام ويستحقّ المعتقد وجوبه المتخلّف عن أدائه لغير عذر شرعيّ عقاب الله في الدار الآخرة ذلك هو الخسران المبين. 

والأعذار الشرعية المبيحة للفطر في رمضان هي المرض والسفر بنص القرآن المبين قوله تعالى: 

" ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر "البقرة 185 . 

وأمّا المرض المبيح للفطر في رمضان فهو المرض الذي يتسبّب الصوم في زيادة آلامه وتأخّر البرء منه، أمّا إذا بلغ المرض حدّا يكون الصوم معه وسيلة لهلاك النفس فإنّه يجب الفطر منه ويحرّم الصوم. ويجب الصوم على الأصحّاء أصحاب الأشغال اليدوية الشّاقة المضطرين للشغل للقيام بشؤون حياتهم وحياة أهليهم، وإذا عرض لهم أثناء الشغل في نهار رمضان عطش شديد أو دوار أو إغماء أو غير ذلك من الأمور المبيحة للفطر، يباح لهم الفطر في ذلك اليوم ويقضونه في بقية الأشهر ولا يلزم الشغّالين ترك العمل خيفة عروض ما يفضي إلى الفطر. 

وهنا أنبّه الصّائمين إلى أن ما يشعرون به من الفتور أثناء الصوم متولّد في غالب الأحوال من مواصلة لسهر الليل كلّه أو جلّه فيصبح الصائم لقلّة النوم فاترا عاجزا عن القيام بعمله على الوجه الأكمل، وليس ناشئا عن الإمساك عن الطّعام والشراب بضع ساعات إذا لم يكن الإنسان معتلا. وهذا ما يدعوني إلى التنويه بما أعلنه الرئيس الحبيب بورقيبة على تحجير فتح دور اللّهو في ليالي رمضان هذا الشهر المبارك وعلى وجوب إغلاق الدولة المقاهي في الأوقات المعتادة في أشهر الفطر، الأمر الذي يعين على القضاء على السهر بالقضاء على أسبابه وبذلك نحفظ للجسم صحّته وتوفّر نشاطه وتصان الأخلاق من التدهور." 

إفطار رمضان في عهد الرسول 

إعتمد بورقيبة في دعوته للإفطار على  اجتهاد في فهم الدين من وجهة نظر ترى أن الإستقواء على الفقر والمرض والجوع والفاقة والتخلف كالإستقواء على العدو الظاهر في ساحات النزال ، فقد ورد أنَّ معركة بدر وفتْح مكَّة كانتا في شهر رمضان؛ فروى التِّرمذيُّ، عن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنْه قال: "غزوْنا مع رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم غزوتَين: يوم بدْر، والفتْح، فأفطرْنا فيهِما" 

وعنِ ابن عبَّاس رضي الله عنْهما: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم خرج من المدينة ومعه عشَرة آلاف، وذلك على رأْسِ ثَمانِ سنين ونصفٍ من مَقْدَمه المدينة، فسار بِمن معهُ من المسلمين إلى مكَّة يصومُ ويصومون، حتَّى إذا بلغ الكديد - وهو ماءٌ بين عسفان وقديد - أفطَرَ وأفطَروا، وإنَّما يُؤْخَذ من أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بالآخِر فالآخِر" (متَّفق عليْه)، والحديث ظاهر في أن النَّبيَّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم وأصحابه أفطروا قبل لقاء المشركين.

وعن أبي سعيد رضي الله عنْه قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليْه وسلَّم إلى مكَّة ونحن صيام، قال: فنزلْنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "إنَّكم قد دنَوْتُم من عدوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكُم"، فكانتْ رُخصةً، فمنَّا مَن صام ومنَّا مَن أفطر، ثم نزلْنا منزلاً آخَر، فقال: "إنَّكم مصبحو عدوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكم، فأفطِروا"، فكانت عزمةً فأفطرْنا، ثم لقد رأيتُنا نصومُ بعد ذلك مع رسولِ الله صلى الله عليْه وسلَّم في السَّفر" ( أحمدُ، ومسلم، وأبو داود).

وأخرج مسلمٌ عن جابر: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم خرج عام الفَتْحِ في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ كراعَ الغميم وصام النَّاس، ثُمَّ دعا بقدحٍ من ماء، فرفعَه حتَّى نظر النَّاس ثُمَّ شرب، فقيلَ له بعد ذلك: إن بعض النَّاس قد صام، فقال: أولئِك العُصاة". وفي رواية له: "إنَّ النَّاسَ قد شقَّ عليْهِم الصِّيام، وإنَّما ينظرون فيما فعلْت، فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر" الحديثَ؛ (رواه البخاريُّ).

وروى أبو داودَ، عن بعضِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال: "أَمَر النَّاسَ في سفرِه عامَ الفتح بالفِطْر، وقال: "تقوَّوْا لعدوِّكم"، وصام رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم" (صحَّحه الحاكم، وابنُ عبدالبر، والألباني). وقد دلَّت تِلك الأحاديثُ وغيرها على: أنَّه يَجوزُ لِلمُجاهِدين في سبيل الله الفِطْرُ في رمضان؛ تأسِّيًا بِرسول الله صلى الله عليْه وسلَّم وأمْرِه للصَّحابة بذلك.

قال الشَّوكاني في "النَّيْل" عند قولِه صلَّى الله عليْه وسلَّم: "إنَّكم قد دنوْتُم من عدوِّكم، والفطرُ أقوى لكم": "فيه دليلٌ على: أنَّ الفِطر لِمن وصلَ في سفرِه إلى موضعٍ قريب من العدوِّ - أوْلى؛ لأنَّه ربَّما وصل إليهم العدوُّ إلى ذلك الموضع، الذي هو مظنَّة مُلاقاة العدوِّ؛ ولهذا كان الإفطارُ أوْلى، ولَم يتحتَّم، وأمَّا إذا كان لقاء العدوِّ متحقِّقًا، فالإفطار عزيمة؛ لأنَّ الصائم يضعُف عن مُنازلة الأقران، ولاسيَّما عند غليان مراجِل الضِّراب والطِّعان، ولا يَخفى ما في ذلك من الإهانة لِجنود المحقِّين، وإدْخال الوهَن على عامَّة المُجاهدين من المُسلِمين"

وقال الحافظ في "الفتح": "وهذا الحديثُ نصٌّ في المسألة، ومنْهُ يُؤخذ الجواب عن نِسبته صلَّى الله عليْه وسلَّم الصائمينَ إلى العِصيان؛ لأنَّه عزَم عليْهِم فخالَفوا، وهو شاهدٌ لِما قُلناه من: أنَّ الفِطْر أفضلُ لِمَن شقَّ عليه الصَّوم، ويتأكَّد ذلك إذا كان يَحتاجُ إلى الفطر للتقوِّي به على لقاء العدوِّ". قال أبو العباس القرطبي في "المُفْهم": "فيه دليلٌ على: أنَّ حفظ القوَّة بالفِطْر أفضلُ لِمن هو منتظِرٌ للقاء العدوِّ"

وقال  ابن القيِّم في "زاد المعاد": "وكان -يعني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم- يأمُرُهم بالفِطْر إذا دنَوْا من عدوِّهم؛ ليتقوَّوا على قتالِه، فلوِ اتَّفق مثلُ هذا في الحضَر، وكان في الفطْرِ قوةٌ لهم على لقاء عدوِّهم، فهل لهم الفِطْر؟ فيه قولان، أصحُّهما دليلاً: أنَّ لهم ذلك، وهو اختِيار ابن تيمية، وبه أفتى العساكرَ الإسلاميَّة لمَّا لقُوا العدوَّ بظاهِر دمشق، ولا ريب أنَّ الفِطْرَ لذلك أوْلى من الفِطْر لمجرَّد السفر؛ بل إباحةُ الفطر للمسافر تنبيهٌ على إباحته في هذه الحالة، فإنَّها أحقُّ بِجوازه؛ لأنَّ القوَّة هناك تختصُّ بالمسافر، والقوَّة هنا له وللمُسلمين، ولأنَّ مشقَّة الجهاد أعظم من مشقَّة السفر، ولأنَّ المصلحة الحاصلةَ بالفطر للمجاهد أعظمُ من المصلحة بفطر المسافر، ولأنَّ الله تعالى قال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، والفطرُ عند اللِّقاء من أعظَم أسباب القوَّة...

ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم قال لِلصَّحابة لمَّا دنَوْا من عدوِّهم: "إنَّكم قد دنوتُم من عدوِّكم، والفطر أقوى لكم"، وكانت رخصةً، ثُمَّ نزلوا منزلاً آخَر، فقال: "إنَّكم مصبحو عدوِّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطِروا"، "فكانت عزمةً، فأفطرنا"؛ فعلَّل بدنوِّهم من عدوِّهم، واحتِياجهم إلى القوَّة التي يلقون بها العدوَّ، وهذا سببٌ آخَر غيْر السَّفر، والسَّفر مستقلٌّ بنفسِه، ولم يذكرْه في تعليله، ولا أشار إليه. وبالجملة؛ فتنبيهُ الشَّارع –وحِكمته– يقتضي: أنَّ الفطر لأجْل الجِهاد أوْلى منه لمجرَّد السَّفر، فكيف وقد أشار إلى العلَّة، ونبَّه عليْها، وصرَّح بحكمها، وعزم عليهم بأن يُفْطِروا لأجلها". 

 وقال المناوي في "فيض القدير": "فلو وافاهم العدوُّ في الحضر، واحتاجوا إلى التقوِّي بالفطر - جاز على ما قيلَ؛ لأنَّه أوْلى من الفِطْر بِمجرَّد السَّفر". اهـ. وممَّا سبق؛ يتبيَّن: أنَّ المسلمين كانوا يُفْطِرون في رمضان في الجهاد؛ من أجْلِ التَّقوِّي على لقاء العدوِّ، كما ثبت في غزوة فتْح مكَّة وهي من آخِر ما غزَوْا في رمضان،