لم يعش طويلاً، لكنه أثر كثيراً في تاريخ ليبيا المعاصر. يستقر الصادق النيهوم، اليوم مرتاحاً في قائمة عظماء ليبيا المعاصرة. في بلاد كانت دائما خارج اهتمام النخب والأحداث، وخارج حسابات التاريخ، ارتبطت ليبيا بالصادق النيهوم أكثر مما ارتبط بها. كان مع القذافي يحيلان إلى ليبيا رمزاً وإيحاءً، اتفقنا معهما أم اختلفنا. ولعل العلاقة بين الرجليين قد أخذت فيما بعد مسارات غير متوقعة بين حاكم ومثقف متمرد، وتلك قصة أخرى، تصلح أن تكون موضوع مقالة مستقلة.
مسيرة النيهوم التي بدأت من ساحات النقد الأدبي وصولاً إلى الرواية والعراك على أعمدة صحيفة "الحقيقة" البنغازية، مع المجتمع والتقاليد والسلطة الملكية ورفاق الأمس في سوق الحشيش، مرتع الطفولة والصبي، أخذت منعرجاً خطيراً، مذ ولج الرجل مجال الفكر، وتخصص في الدراسات الدينية من زاوية نقدية، متسلحاً بمناهج علمية صارمة تعلمها في مهد الفلسفة الحديثة ألمانيا، المغترب البارد والقاسي.
ونشر النيهوم خلال هذه الفترة الناضجة من مسيرته القصيرة عمراً، الغزيرة انتاجاً، دراسات وكتب عالجت إشكاليات تتعلق بالدين وبالنص الديني والسلطة الدينية، منها "محنة ثقافة مزوّرة: صوت النّاس أم صوت الفقهاء" و "إسلام ضد الإسلام" و"الرمز في القران". وألقى من خلالها أحجاراً ضخمة في برك الفكر الخرافي الساكن والمستريح في دائرة الجهل المقدس. وقد استفاد النيهوم من تكوينه الديني الأساسي وبئته الاجتماعية شديدة المحافظة، كي يلج بسهولة مجال الدراسات اللاهوتية ويفك رمزها ويكسر الاحتكارات المعرفية التي ضربت عليها مؤسسة الفقه والفقهاء طوقاً وحولتها إلى أوقاف لمصلحتها، فاحتكار المعرفة الدينية مكن هذه المؤسسة منذ قرون من السيطرة على المجتمع وكسب نصيب من السلطة وحظوة لدى السلطة السياسية واغتنام شبكة مصالح اقتصادية هائلة.
تفطن النيهوم إلى هذه السلطة الوهمية وميكانزيمات تشكلها عبر التاريخ، عبر ما يسميه "تزييف الوعي". بالموازاة، كان نزعة مقاومة الوعي الزائف لدى النيهوم، قد تحولت إلى منهج، يتجاوز نقد المؤسسة الدينية إلى نقد أي فكر تسليمي، أو ما كان سميه بــ"الفكر الجاهز" الذي يقدم للناس كمسلمات لا تقبل التجاوز أو إعادة التفكر فيها أو التفكير.
والرأسمالية كدين وعقيدة سائدة في عصر النيهوم وعصرنا اليوم، ليست استثناءً. فالفكر الرأسمالي الذي شن حرباً فكرية وإعلامية ضد كل مناهج العدالة الاجتماعية منذ القرن التاسع عشر وإلى اليوم، لا تقل ضراوة عن حروب الدبابات والصواريخ، التي مازالت قائمة، لم يكن ذلك الفكر المحبب إلى عقلية وروح كاتب وفيلسوف متمرد ضد السائد، كالصادق النيهوم. رجل ولد اشتد عوده في حي شعبي في بنغازي في ذرة صعود الاشتراكية والمد اليساري في العالم وفي العالم العربي خصوصاً، استوى رجلاً متعلماً في ذروة صعود حركات التحرر الوطني وما أفرزته من فكر وأدب ما بعد استعماري.
تتجلى يسارية النيهوم ونزوعه إلى الاشتراكية بشكل واضح في مقالة أعاد نشرها في كتابه "محنة ثقافة مزوّرة: صوت النّاس أم صوت الفقهاء" دافع فيها على كارل ماركس، وفكره ونفى تهماً ساذجة كانت الناس يتلقفونها من أفواه النخب اليمينة والدينية ومن صفحات الجرائد والمجلات الموالية للملكيات السائدة ومن بينها ليبيا في العهد الإدريسي، عصر سيطرت الشركات الأجنبية والقواعد البريطانية على المملكة الطرابلسية.
يقول النيهوم: ثقافتنا العربية المعاصرة لا تعرف كارل ماركس، تعرف ما سمعته عنه من اعدائه الرأسمالين وحدهم . وهم طرف منحاز في أصل القضية، كان ماركس يحرض على الثورة ضدهم، وكانوا أصحاب مصلحة ملحة في تشويه أقوله، وقد تولوا تقديمه الى ثقافتنا العربية المعاصرة، موصوما بثلاث تهم، كل تهمة منها مختلفة عمداً، لإدانته امام العرب بالذات.
التهمة الاولى: ان ماركس ينادي بإلغاء المؤسسة الدنية، ويعتبر الدين مجرد افيون، وهي تهمة تتجاهل ، ان المؤسسات الدينية التي يعنيها ماركس، هي المؤسسات المسيحية واليهودية، وأن هذه الفكرة ليست ماركسية اصلا، بل اسلامية، سجلها القرآن منذ أربعة عشر قرناً، في آيات منها، قوله تعالى في الآية 5 من سورة الجمعة (مثل الذين حملوا التوراة، ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل اسفاراً) وهي صورة أكثر وضوحاً – من أقوال ماركس أن الدين أفيون الشعوب.
التهمة الثانية: أن الاتحاد السوفيتي هو الدولة الماركسية التي أقيمت على نظرية الحزب الماركسي، وهي فكرة تتجاهل ان لينين – وليس ماركس –هو صاحب هذه النظام الحزبي. أما ماركس شخصيا، فقد استعمل التي تعنى الجماعة، لأنه يشترط مبادئ دستورية في نظامه منها: كلمة COMMUNE. إن السلطة في يد الأغلبية ومنها انهاء الإقطاع، بتسريح الجيش المستديم، ومنها تحريم الربا، بتأميم وسائل الإنتاج، وهي مبادئ لا يتبناها الاتحاد السوفيتي، ولم تعرفها إدارة اخرى في التاريخ، سوى نظام الشرع الجماعي في الاسلام، الذي ماركس ينقل عنه، من دون أن يدري.
التهمة الثالثة: أن كارل ماركس، ينادي بإلغاء دور الفرد، ويعتبره مجرد مسمار في آلة كبيرة، هي فكرة مقلوبة رأساً على عقب، فالذي يعتبر المواطن مجرد مسمار في آلة كبيرة، هو رأس المال وصاحب الاحتكارات الموجهة لتكديس الربح. اما ماركس، كان ينادي بتحرير الادارة من سيطرة رأس المال، لأنه كان يهدف الى تحرير المواطن من وظيفة المسمار بالذات. وقد عرض المنهج في اعماله، قبل أن يكتب (رأس المال) بثلاثين سنة على الأقل، لكن خصومه الرأسمالين، لم يختاروا أن يعرضوا هذه الأعمال المبكرة للتداول، ولم يهتم أحد بترجمتها عن أصولها الألمانية، إلا منذ سنوات قليلة، عندما نقلت الى اللغة الإنكليزية بمجهودات افراد مثل الكاتب أريخ فروم، فيما تأخر الروس في ترجمة هذه الإعمال الأساسية حتى الآن.
إن كارل ماركس، لا يتكلم لغة رأس المال، بل يتكلم لغة أخرى ذات مصطلحات خاصة، تبث الرعب في قلب كل ادارة رأسمالية، مثل (تأميم وسائل الانتاج إلغاء الطبقية، والثورة المسلحة، وحقوق العمال، وهي مصطلحات لا تعادي الله والناس إلا في تفسيرات الرأسمالين وحدهم. أما في ارض الواقع، فإنها مصطلحات مترجمة عن كتاب الله نفسه، فالثورة العالمية المسلحة هي فريضة الجهاد، والغاء نظام الدولة، هي قيام الشرع الجماعي. وتأميم وسائل الإنتاج، هو تحريم الربا. وتحرير المجتمع من الطبقية، هو المجتمع الذي يدعو اليه الاسلام كل سنة في مكة، بجمع الناس على اختلاف طبقاتهم والوانهم في بيت عالمي واحد، وتحت سماء واحدة. ولعل كارل ماركس، لم يكن يعرف انه ينقل عن الاسلام، لكن مجمل نظريته القائمة على حتمية سقوط الرأسمالية، مجرد ترجمة حرفية، لما سمعه المسلمون منذ القرن الرابع، في قوله تعالى (والذين يكنزون الذهبة والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم) "سورة التوبة، الآية 34".
ان ثقافتنا المعاصرة، لا تجهل كارل ماركس فحسب، بل تعاديه أيضا، لأنها ثقافة مترجمة من وجهة نظر معلمها الرأسمالي المنحاز، وهو موقف، لا مكسب من ورائه، سوى ان يخسر الاسلام شاهدا جديدا على أن شرع الجماعية الذي دعا اليه القرآن في القرن السابع، ليس نظرية بل قانون، يمكن اكتشافه بوسائل الاستقراء العالمي، مثل قانون الجاذبية نفسه.