لم ينتظر الليبيون كلمة من فائز السراج أو تحذيرا من الممثلة الأممية الوقتية ستيفاني وليامز، ليعرفوا حجم الصعوبات التي يعيشها اقتصاد بلادهم وما يمكن أن يعيشوه مستقبلا. الصورة اليوم، كما هي الصورة قبل أكثر من 9 سنوات؛ تراجع في الاحتياطي، فوضى إجرائية وتنظيمية، نفط تحت رحمة السلاح، فساد بلا رقيب، شبكات للتهريب تعتبر جزءا من المعادلة الاجتماعية وحتى السياسية، ثم جاءت الحرب في طرابلس بكل تبعاتها وأزمة فيروس كورونا لتضيفا ضربة قاسية لاقتصاد لم تشفع في إنقاذه الإمكانيات الكبيرة للبلاد.
الحرب في طرابلس تجاوزت عامها الأول. لا رابح فيها أبدا، والخاسر الدائم هو الشعب الليبي، الباحث منذ سنوات عن استقرار يعيد له الأمل في حياة كريمة. ما خلفته الحرب ليس حياة مئات الشباب فحسب، بل أيضا حالة اقتصادية أشبه بالخراب، وهذا طبيعي في كل مناطق الصراع في العالم. ما دامت رحى الحرب يُسمعُ صداها، فسيكون الاقتصاد الأكثر تأثرا، وسيكون المواطن أول الخاسرين، في أعماله وفي رواتبه وفي وظائفه.
ومع اشتداد المعارك في ضواحي العاصمة طرابلس، وفي ظل أزمة سياسية وعجز محلي وخارجي عن إيجاد مخرج لها، يبقى الوضع الاقتصادي معقدا، حيث تشير بعض التقارير إلى أن الخسائر في مجملها منذ بداية المعركة في أبريل 2019، تتجاوز 20 مليار دولار بين بنية تحتية وتوقف المبادلات وانخفاض حركة التوريد وخاصة توقف إنتاج النفط في نهاية يناير الماضي حين قرر رجال قبائل موالون للجيش الليبي الاعتصام في الحقول بسبب اعتماد حكومة الوفاق على عائدات النفط في تمويل قواته وخاصة في استقدام مرتزقة سوريين بالتعاون مع الحكومة التركية التي بدأت مشاركتها مكشوفة أملا في حماية حليفها فائز السراج والأطراف الإسلامية الداعمة له.
توقف إنتاج النفط في ليبيا بنسبة تفوق 90 بالمئة، ومن خلال آخر بيانات المؤسسة الوطنية للنفط، فإن الخسائر تجاوزت 4 مليار دولار، وتسببت في تكبد الخزانة العامة تكاليف إضافية لتغذية العجز في المصادر المحلية، الأمر كلّف عجزا في إيرادات النقط الأجنبي بـ1.6 مليار دولار تمت تغطيتها من احتياطي النقد، وزعت كلها على الاحتياجات الأساسية للمواطنين من مخصصات المصارف إلى حصص أرباب الأسر إلى تكاليف خارجية للعلاج وغيره.
وقد فرض العجز على مؤسسة النفط توجيه نداء ب"ضرورة رفع الحصار المفروض على منشآتها النفطية واستئناف انتاج النفط والغاز من أجل النهوض بالاقتصاد الوطني ". كما قال رئيس المؤسسة مصطفى صنع الله في تهنئة عيد الفطر إن قطاع النفط يعيش أزمة كبيرة لم يعرفها منذ اكتشاف النفط في البلاد عام 1961، مؤكدا أن هناك مدخرات مالية ضاعت إلى الأبد ومشددا "على ضرورة وقف الحرب وعودة العمل والإنتاج". وأضاف أن تبعات الإقفال قد لا تظهر نتائجها الواضحة حاليا، لكنها ستظهر في المراحل القادمة، وستكون كارثية بعد تآكل الاحتياطي المالي للبلاد.
من جانبه أشار رئيس حكومة الوفاق في تصريحات له في فبراير الماضي إلى أن "استمرار إغلاق المنشآت النفطية سيؤدي إلى أزمة مالية وستخفض الى مستوياتها الدنيا"، محاولا تحميل المسؤولية إلى الجيش الليبي باعتبار أن المعتصمون من مواقع الإنتاج هم من الموالين له.
في منتصف مايو الجاري أصدرت الأمم المتحدة تقريرا حول الوضع الاقتصادي الليبي بين 15 يناير و05 فبراير، أظهرت فيه أن إغلاق المنشئات النفطية، وعدم ضبط ميزانية الدولة، أثرا على مختلف النواحي، من خلال العجز في الحصول على النقد الأجنبي وتأخر الرواتب وارتفاع الأسعار، خاصة بعد قرار حكومة الوفاق اتباع سياسة تقشفية ورفع الدعم عن المحروقات بالإضافة إلى قرارها بخفض 20 بالمئة من رواتب الموظفين في الدولة، وهي إجراءات تسعى من خلالها حكومة الوفاق إلى تخفيف الضغط عن نفسها لكنها في المقابل تعمقه على المواطن.
فيروس كورنا بدوره كان جزءا من أزمة الاقتصاد الليبي. فليبيا وضمن السياق العام في العالم من حيث حركة التصدير والتوريد، وفقدان الوظائف، لن تكون مستثناة من التأثيرات. وقد قالت وزارة العمل بحكومة الوفاق إن الفيروس تسبب في بلوغ نسبة البطالة 18 بالمئة، كما أن تداعياته تهدد 120 ألف عامل بالبطالة، بسبب تعطيل الحركة الاقتصادية في البلاد"، خاصة أن قطاعا كبيرا من الليبيين يعيش مما توفره لهم المؤسسات الصغرى أو العمليات التجارية الفردية التي أوقفها إغلاق الحدود.أوقفت كل تلك العمليات وبقية مقتصرة إلا على العشرات وعبر شروط معقدة لا يمكن توفرها عند الجميع.
وتعتبر المبادلات التجارية خاصة مع مصر وتونس من أعمدة الاقتصاد الليبي، حيث تساهم في نسبة تشغيلية هامة، بالإضافة إلى توفيرها الاحتياجات الأساسية للمواطنين، لكن التطورات التي فرضها الفيروس
بالنسبة إلى ليبيا أصبح الحديث عن الحرب، هو جزء من اليومي للناس. كأنهم طبعوا معها وأصبحت قدرا يجب التأقلم معه، لكن ما يقلق الناس هو الاقتصاد، الجميع راضون بالقدر الذي وجدوا أنفسهم فيه لكن في حدود حاجتهم وحاجة أبنائهم. والحاجة لا يمكن توفرها إلا بتوفر شروطها وعلى رأسها الأمن. عندما يوجد الأمن في حدّه الأدنى ينتعش الاقتصاد أيضا في حدّه الأدنى، لكن المتابع لما يجري يعرف أن الجراح عميقة وتضميدها يحتاج شجاعة وحكمة قد لا يتوفران الآن عند أطراف النزاع التي تفكّر ضمن عدّة حسابات. وما دام الحال كما هو اليوم فإن اقتصاد البلاد سيكون تحت رحمة ظروف ليس للشعب رأي فيها إلا الدعاء بالانفراج القريب.