*

"إذن، لا ترحموا الموت ولا تستروا حموه، فالأمر مقضي بيننا وبينه، فهو عدو لدود، لا صلح معه ولا أمل فيه، فلا ترحموه ولا تتخاذلوا أمامه، فهو لن يرحمكم، مهما تخاذلتم، واستسلمتم، فهو يرفض المصالحة أصلا، وليس من طبعه التعايش السلمي.

لقد قتل إخوتي في عمر الزهور، لقد جوع أسرتي حتى أجبرها على السفر إليه، وأغرى إخوتي باللعب معه في المستنقعات، فسقاهم سم هود فقتلهم!!

أربعة أولاد وابنتين، ثم دخل في معارك طاحنة مع أبي الشجاع، وجاء في حملة(مياني) إلى القرضابية، وتقمص أزياء الجنود الطليان والإرتريين.

كل ذلك من أجل أن يقتل أبى، أبى الذي بدأ يقاومه بشراسة بعد أن قتل اخوتي. أبى قرر الانتقام من الموت، ومن أجل ذلك قتل العديد من جنود العقيد(مياني) الذين تقمص الموت ملابسهم، حتى أصبح كل واحد منهم هو الموت ذاته.. وكم كانت شدة حيرة أبى عندما يرى استمرار سقوط شهداء الموت يمينه ويساره دون توقف!؟

على أنه في كل طلقة يعتقد أبى أنه قد قتل الموت، حتى أفرغ رصاص نطاقه وصاح: هل من رصاص لأقتل لكم الموت؟ فأجابه شاب منبطح في خندق قريب منه: ها هو نطاقي ملآن بالرصاص، ففرح أبى وأسرع لأخذ مزيد من الذخيرة، ولكن الموت كان أسرع منه، فما إن وصل أبى إلى الشاب، حتى وجده قد فارق الحياة!!

إذن، الموت يسمع ويرى، ولكن أبى كان مقاوما شرساً مثل الموت، أخذ نطاق الشهيد وداوم على مقاتلته، حتى أظمأه العطش، فطلب من عمه(خميس)شربة ماء ليواصل القتال، فهجم عمه على بغل الطليان المحمل بالماء بين صفوفهم، ليأتيه بشربة منه..

ولكن الموت كعادته كان الأسرع فأطلق رصاصته القاضية على (خميس) فأصابته فوق حاجب العين اليمنى، حتى الدماغ، فتبعثر مخه على جسمه، وسقط شهيدا..".......  

  ...... من قصة الموت للكاتب معمر القذافي

سرعان ما بدأ الليل يدبر تدريجًا وماحت النجوم نحو مغاربها واقبل الفجر فاصلاً خيطه الأبيض عن خيط الليل الأسود .. واقبل الصبح يتنفس في وسط جوف الصحراء وعلى امتداد أفقها اللامتناهي وتحركت ريح القبلي الصحراوية منذرة بيوم صحراويا بامتياز.

تحركت, أنا. من مكاني لاقترب أكثر من العقيد ونفسي ترتجف وسط لحظات التوجس والترقب مخافة الوداع واكتمال الحوار.. هذه النهاية المرتقبة لطالما أثقلت كاهلي وأنا أطارد اللحظات الجانحة بضعف وهوان.. فلم تقوى نفسي يوم على الرحيل ولا تعرف مقاومة النهايات وان زينها لنا القدر فأسميناها "نهايات جميلة".. ولكن كون لكل بداية لابد من نهاية وجب الإذعان والتسليم رغم انف الجراح فكيف اذن يكون وقعها إذا كانت نهاية حواراً مع رجل انتهت الحياة بكل معانيها غداة رحيله..

لحظة سأسعى جاهدا لمقاومتها بكل ما أتيت من سبل..

وسط هذا التفكير المحموم حاولت تحريك بقايا النار بعود بالٍ من العوسج من اجل ارغامها على الاستمرار في الاشتعال لإطالة امد هذا المجلس, ولكنها سرعان ما استسلمت لهباء الكانون وهشيم الحطب وأخذت تخمد تدريجيا, بينما كانت نيران أخرى تستعر بداخلي وانا استحضر سؤالي له عن قصة "الموت -التي كتبها العقيد ذات يوم- سألته وانا أعي عمق الإيماءات التي أرادها العقيد وهو يصور لنا صراع الحياة الإيجابي مع الموت المتربص و الذي وصفه العقيد في قصته "بالجبان"، دون ان يبدئ لنا مشاهد الشفقة او الانكسار او الاستسلام امام هادم اللذات وقاتل البنين والبنات ومفرق الجماعات!

استحضرت كيف تداول سفهاء الأحلام معاني العقيد العميقة وقدموها في قوالب من التهكم والسخرية تماماً كما قابلت أقوام الغابرين الرسالات السماوية وحتى الاعمال البشرية الخالدة، تذكرت كيف قدمت إحدى القنوات وثائقيا ساخراً حول ما أسمته "القذافي يفسر الموت ذكراً ام أنثى" ليتماهى معها بالسخرية "عمائم فوق رؤوس بهائم" سخر الله منها تماما مثلما فعلت قناة أخرى حين قدمت ما اسمته '' اضحك مع الكتاب الأخضر''...هذا العمق الإنساني في التفكير واستشراف المستقبل لا ينبغي للإعراب الذين قال فيهم الله تعالى "وأجدر الا يعلموا حدود ما انزل الله" لجهلهم وضعف حجتهم وقسوة قلوبهم فهم لا يختلفون عن بعضم الا في درجة سفاهة التفكير وحجم التأمر التاريخي على الامة.

تنفست الصعداء وقلت له وقد استقويت نفسي بجرعة من نشوة المجلس.. يا سيدي قد نبأتنا عن عصر الفيروسات الذي سياتي بعد عصر الجماهير وأخبرتنا ان الموت قد يكون حتى فيروساً يأتي أحيانا ذكراً فنواجه بجسارة وقد يأتي أنثى فيرغمنا على الاستسلام تماماً كم ذكرتم في قصة الموت! فما جنسه وما علة ذلك بل ما قيمة هذا الطرح الذي يثير الدهشة ويدفع السذج الى التمادي في الشطحات؟

أمسك العقيد بذراعي ولَم يأبه لما قلت وبدأ كأنه أشفق عليً وقد سرت بجسدي تلك القشعريرة التي آلفتني ثم قال: لا تخف ان العاجز هو من يستسلم للتأويلات والخزعبلات والخوف مما هو أَت.. فالموت لن يستثني أحد منكم ومنهم.. ولكن الفارس الشجاع هو الذي يقارع بإرادته، جبروت الموت حتى وهو يعي حقيقة حتمية انتصار الموت عليه يوماً ما!

لقد كان لي مع الموت ملاحم كبرى امتدت لأربعين عاماً ويزيد، تقمص فيها الموت ملابس المارينز وقبعات الكاي بوي وقلنسوة العم سام وحتى دسائس الخونة والعملاء والزنادقة وكنت في كل مرة اقهره وانا موقنا بعودته ولكنني لم استسلم له يوماً.

أربعون عاماً والموت يلاحقي ولَم اعيره اَي اهتمام! حتى انني رسمت له خط في عرض البحر واتفقت مع أسماك المتوسط ان تنال منه لو فكر في تجاوز حدوده! ثم ذهبت اليه في عقر داره ومزقت كل مواثيقه وذهبت اليه في روما واجبرته على الانصياع امام ارادتي والاعتذار عن مقتل اخوتي الستة وجدي -خميس- وكل شهداء الوطن! الموت الذي تخافون منه جاء اليً في سنة 1986 وترك خلفه كل البيوت والقصور والملاجئ التي اختبي فيها بعض الرفاق.. ترك الجميع ورمي كل حممه فوق بيتي الصامد ومع ذلك رجع مهزوما ثم أعاد الكرة في سنة 2011 متقمصا اكبر ترسانة حربية عرفتها البشرية ومع ذلك دحرته واثخنته ولولا كم الخيانات لأجًل موعده معي الى اشعار أخر..

سكت العقيد برهة ثم أضاف.. ان الموت لم يستطع ان ينال من المعتصم بالله وهو يقود الجبهات المكشوفة دون أي غطاء الا غطاء الشجاعة.. المعتصم الذي قاد اكبر مطاردة في تاريخ الحروب امتدت من الوادي الاحمر حتى مرسى مطروح.. كما فزع الموت من "خميس" وهو يلتف حول الدافنية وشارع طرابلس رغم أنف الأباتشي ولَم يقوى الموت ان يلاحقه الا تحت جنح الظلام فوق جبال ترهونة ليسلم انفاسه في ارض الاجداد- الرصيفة- فلماذا تتمسكون بالعجز وتتحصنون بالهوان وأنتم الاقوى!

كيف نكون الاقوى يا سيدي ونحن رضخنا شعوباً وامماً للموت وقد أطل علينا ذكراً في شكل "فيروس" مستخفا بكل مناحي حياتنا معطلاً لكل حركة وذاهباً بكل سكون ثم حشر الشعوب وكشف عن قرونه فإذا هو أنثى تسعى تسمت "بكورونا".

أحاط وأحاطت بِكوكبنا رغم أنف الذين سخروا من رؤاك فالموت الذي غيبك عنًا يأتي اليوم لينصفك كما أنصفك في بنغازي ودرنة ومصراتة وغريان وتخوم طرابلس وصحراء فزان وطوابير الغاز والمصارف والماء والكهرباء والخبز والدواء. بل حتى محمود جِبْرِيل تقمصت له تلك الأنثى كورونا فأردته صريعا ولازالت تتربص بجلود واصحاب حوانيت الوهم والنضال الفيس بوكي وجبهات النارجيلة والنرد والمرد بين الرجمة و بوستة.

تنفست الصعداء مجدداً وانا أدرك ان الرجل يطغى على جميع لغات العجز كما يطغى على القلوب ويأسر الألباب.. لم انتظر منه جواب فالمواجهة التي صورها العقيد في شخص ابيه وعراكه مع الموت انتقاما لأبنائه ولشهداء القرضابية هي مقصد الرجل الذي جعل من الاب مثالاً للنضال وعلى الابن ان يسلك مسلك ابيه الذي انتصر على الموت في مواضع كثيرة قبل ان بهب له نفسه موقناً بحتميته يوم أزفت ازفة الرحيل.قال لي العقيد وهو يرمقني كعادته بتلك النظرة الثاقبة والتي وان أعتدها نسبياً الا انها لازالت تربكني، قال، ان الرحيل وان كان حقيقة حتمية لا يمكنه إيقاف عجلة الحياة وان الموت فقط للعاجزين حتى الثورة.. عاندت طغيان حضوره مجدداً وقلت له نعم الموت للعاجزين حتى الثورة- ولكن مات العاجزين ولَم تقع الثورة! مات العاجزين دون قضية ولَم تقع الثورة ومات العاجزين حياة وحياء وحتى بقلة الحياء ولَم تقع الثورة.. مات العاجزين كلهم واصحاب الدكاكين وكل السماسرة والمرابين ولَم تقع الثورة.. مات الكثير من شيوخ القبائل وأصحاب مواثيق العهود والمبايعات ولم تقع اية ثورة..

ومات الفرسان الشجعان ولم تقع الثورة.. حتى بوزيد الهلالي الذي مُكن له ما لم يمكن لغيره والذي ملأ ارض الأساطير شجاعة ورهبة وفرسنة مات هو الاخر بعد أرعبه (طير وحيش بدون ريش) فقال بوزيد مذعوراً (سبحان من قال بوزيد منك يعيش) فذهب بوزيد الى مجلس العياشة والتحق بركب العاجزين ومات معهم ولَم تقع الثورة.. وتبعه بنو هلال كلهم عّن بكرة ابيهم في تغريبه خارج مضاربهم وتركوا يونس في سجنه لم تبكيه الا "عزيزة الزناتية ابنة الزناتي خليفة".. وتركوا يحيى يلاقي مصيره منفرداً مع أفعى رقطاء نفثت كل سمومها في جسده النحيل ولَم يفزع له خاله "بوزيد" ولَم تبكيه الا أمه "شيحة" دون دموع.. رحل بنو هلال ضاربين عرض الحائط بصيتهم الرفيع فماتوا عجزاً امام الجنجاويد و الفرنسيس والأحباش ومرتزقة سوريا وبعض الإنكشاريين من احفاد قرصان البحار خيرالدين بربروس الذي احال ام السرايا ذات يوم الى مدًنة مثلما يفعل حفيده اردوغان اليوم.

ومع كل هذا العجز والموت لم تقع اية ثورة. يا سيدي قد ماتت النخوة.. وسهل الهوان علينا.. ومات الحب وشبع موتاً.. وانتحرت جميع الأشواق.. وتكسرت الأحلام.. وتبخرت الآمال.. واغتيلت جميع التطلعات ولَم تقع الثورة بعد..

يا سيدي ان الذين هتفوا لك في حضورك قد ماتوا كلهم ولَم تقع الثورة.. وحتى الذين حملوا صورك بعد رحيلك سرعان ما لبسوا قوالب جاهزة وأسموا الوطن بغير مسمياته.. وماتوا كلهم ذلاً وهواناً ولَم تقع الثورة!

قد مات العاجزين والعاجزات ولَم تقع الثورة.. حتى نسوة المدينة ونسوة البدو نقضن غزلهن من بعد قوة انكاثا وقطعن ايديهن خوفا ورهبة.. بل حتى تلك الطفلة البريئة التي توشحت بالأخضر وصبغت اسمك على كف يدها بالحنة ماتت معهم عجزاً بعد ان اغتالوا فيها كل امل وجعلوا من أكبر احلامها الوصول الى نهاية طابور في مصرف او الحصول على جرعة من تغطية هاربة.. ومع هذا الانحسار في الاماني لم يقع بداخلها الا القهر والهوان!.

قال لي العقيد بنبرة هادئة اسمع يا ابني.. وكم القت كلمته من طمأنينة في نفسي- ان إرادة الإنسان لها مجالها وقدرتها على برهنة قوته حين يسهم في صناعة الحياة حتى إذا كان خصمه هو الموت اليقين.. وان أصحاب الارادات المشلولة لا يصنعون تاريخ ولا يحققون نصر..

قلت له وقد بدأ ضياء الشمس يزيل العتمة ونفسي تتوق للتشبث باستماتة استمرار الحوار : وهل لي ان ارافقك في نهار الصحراء ايضا؟.. يا سيدي ان جعبتي لم تفرغ بعد.. فقل لي كيف كانت رحلة ال 4000 يوم؟ ولا تنسى سؤالي عن عائلة يعقوب التي استوجب لعنها ومع علاقة ذلك بالخونة؟.. وهل انت رسول الصحراء! وكيف نرد عليهم؟..

يا سيدي قد قلت لهم من أنتم! وها انا أتجرأ و أسألك من انت؟ وكيف استطاع شطيب الكراعية في واد غير ذي زرع -وادي جارف- صناعة كل هذا التاريخ؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*هذا الجزء السادس من سلسلة حوارية كتبها الدكتور خميس الزناتي الكاتب الصجفي، والأكاديمي المتخصص في القانون الدولي، وهي سلسلة تتكن من عدة إجزاء، وستقوم بوابة افريقيا الإخبارية بنشر بقية الأجزاء تواليا.