بعد مذبحة مانشستر عام 2017... أجل وبعدمذابح كل مننيس، وباريس، والموصل، وأبو غريب، وهجوم لندن 7/7 ومجزرة "حديثة" في العراق (لنتذكر أولئك المدنيين الـ 28 -بمن فيهم الأطفال- الذين قُتلوا على يد مشاة البحرية الأمريكية، والذين كان عددهم أكبر بأربعة ضحايا مقارنة بمجزرة مانشستر ومع ذلك لم تُقم دقيقة صمت لأرواحهم) إضافة إلى أحداث 11 سبتمبر بالطبع ...
وللتذكير فقط فإنّ العنف الموازي ليس حلا بطبيعة الحال، فمادمنا نقصف منطقة الشرق الأوسط بدل السعي إلى العدالة هناك، فإننا سوف نتعرض للهجوم أيضًا. ومع ذلك علينا أن نركز -وفقًا لترامب "المتوحش"- على الإرهاب، الإرهاب، الإرهاب ، الإرهاب، الإرهاب، والخوف، والأمن الذي لن نحصل عليه مادمنا نروّج للموت في العالم الإسلامي، ونبيع الأسلحة إلى دكتاتورييه: آمن بـ "الإرهاب"وستنتصر داعش، آمن بالعدالة وستُهزم داعش.
ومن هنا أعتقد أنه قد حان الوقت لاستحضار طيف رجل يُعرف باالأمير عبد القادر : مسلم،صوفي، شيخ، محارب شرس، إنساني، حامي لشعبه ضد البربريَّة الغربية، وحامي المسيحيين ضد البربرية الإسلامية، كان شجاعا إلى درجة أن الدولة الجزائرية أصرّت على استرجاع رفاته من حبيبته دمشق ، وكان نبيلا إلى درجة أنّ "آبي لينكولن" أهداه زوجًا من مسدسات كولت (Colt pistols)، كما قلده الفرنسيون وسام الصليب الأكبر لجوقة الشرف. أحب الأمير عبد القادر التعليم، وأُعجب بالفلاسفة اليونانيين، وحرّم على مقاتليه إتلاف الكتب، وكان يعتنق دينًا يؤمن- كما يعتقد - بحقوق الإنسان.
يتعيّن علينا أن نفكر في الأمير عبد القادر الآن أكثر من أي وقت مضى، فهو لم يكن "معتدلاً" لأنه قاتل بضراوة احتلال فرنسا لأرضه، ولم يكن متطرفًا في الوقت ذاته لأنه تحدّث في سجنه في شاتو أمبواز (Chateau d’Amboise) عن المسيحيين والمسلمين باعتبارهم إخوة، وحصل على تأييد فيكتور هيغو واللورد لندن ديري، ونال احترام لويس نابليون بونابرت (لاحقًا نابليون الثالث)، كما دفعت له الدولة الفرنسية معاشًا قدره 100000 فرنك، وقد كان يستحق كل ذلك.
عندما غزا الفرنسيون الجزائر، دخل عبد القادر بن محي الدين الجزائري (عبد القادر بن محي الدين الجزائري 1808-1883م لأولئك الذين يحبون التدقيق) في حرب عصابات ناجحة ضد واحد من أفضل الجيوش المجهزة في العالم الغربي، وانتصر فيها. أقام دولته الخاصة في غرب الجزائر – دولة مسلمة لكن كان يعمل بها مستشارون مسيحيون ويهود - وأنشأ دوائر منفصلة (الدفاع والتعليم ، إلخ) والتي امتدت إلى الحدود المغربية، وكان لهذه الدولة عملتها الخاصة تسمّى "المحمدية". أبرم هدنة للسلام مع الفرنسيين الذين خرقوها بغزو أراضيه مرة أخرى. طلب الأمير عبد القادر كاهنًا لخدمة أسراه الفرنسيين،حتى أنه كان يطلق سراحهم عندما لا يجد طعاما يكفيهم. اقتحم الفرنسيون المدن الجزائرية التي استولوا عليها في مائة حادثة لقمع مقاومة الأمير عبد القادر، وعندما انهزم أخيرًا ، استسلم بشرف - وسلم فرسه كمحارب – في مقابل وعد بنفيه إلى الإسكندرية أو عكا، ولكن الفرنسيين خانوه مرة أخرى، ووضعوه في السجن في تولون (Toulon)ثم نُقل إلى داخل فرنسا.
ورغم ذلك فقد كان الأمير في منفاه الفرنسي يدعو إلى السلام والأخوة، ودرس اللسان الفرنسي، وتحدث عن حكمة أفلاطون وسقراط وأرسطو وبطليموس وابن رشد، وكتب لاحقًا كتاب"ذكرى العاقل وتنبيه الغافل، والذي يجب أن يكون متاحًا على كل منصات وسائط التواصل الاجتماعي، بالمناسبة كتب أيضًا كتابًا عن الخيول وهو ما يثبت أنه كان عربيًا يعتلي صهوة جواده. ‘إلا أن شجاعته ظهرت مرة أخرى في دمشق عام 1860 حيث عاش منفيا مكرما، إذ لما انتشرت في تلك الفترة الحرب الأهلية المسيحية-الدرزية في لبنان وامتدت إلى دمشق وجد السكان المسيحيون أنفسهم محاصرين من طرف الدروز المسلمين، الذين وصلوا بوحشية تشبه وحشية داعش، يُلوّحون بالسيوف والسكاكين لذبح أعدائهم، فأرسل الأمير عبد القادر حرسه المسلمين الجزائريين - مليشياته الشخصية – يشقون طريقهم عبر الجماهير، يرافقون أكثر من 10000 مسيحي إلى دولته، وعندما وصلت حشود الدروز بسكاكينها عند بابه، استقبلهم بخطاب لا يزال يتلى في الشرق الأوسط (على الرغم من تجاهله تماما هذه الأيام في الغرب)، فقد صرخ قائلا: "أنتم مخلوقات بائسة! .... هل هذه هي الطريقة التي تكرمون بها النبي؟ سيعاقبكم الله! عار عليكم .. عار! سيأتي اليوم الذي ستدفعون فيه ثمن ذلك ... لن أقوم بتسليم مسيحي واحد، إنهم إخواني ..اخرجوا من هنا وإلا سأسلط عليكم حرسي".
ويزعم المؤرخون المسلمون أن الأمير أنقذ 15000 مسيحي، وهو ما قد يكون مبالغًا فيه بعض الشيء، ولكن يبقى أنه كان رجلا يقتدي به المسلمون ويحبه الغربيون، عبّر عن غضبه في تلك الكلمات التي لابد أن تُستخدم اليوم ضد جلادي خلافة داعش الطائفية. بطبيعة الحال كان على الغرب "المسيحي" أن يكرمه في ذلك الوقت (على الرغم من أنه من المثير للاهتمام أنه تلقى رسالة ثناء من الزعيم المسلم للشيشان المستقلة)، كما أنه كان رجل "الحوار بين الأديان" الذي أرضى البابا فرنسيس.
دُعي الأمير عبد القادر إلى باريس، وتمت تسمية بلدة أمريكية باسمه (Elkader)"القادر"في مقاطعة كلايتون بولاية أيوا، والتي مازالت موجودة إلى اليوم وعدد سكانها 1273 نسمة، تأسست في منتصف القرن التاسع عشر، كان من الطبيعي أن تسمي بلدتك باسم هذا الرجل.. أو لم يكن يحتفي بحقوق الانسان التي دعا إليها إعلان الاستقلال الأمريكي والثورة الفرنسية؟ ... تعامل الأمير عبد القادر مع الماسونية على سبيل التسلية- يعتقد معظم العلماء أنه لم يأخذ بها - وأحب العلم إلى درجة أنه لبّى دعوة لافتتاح قناة السويس، والتي كانت بالتأكيد مشروعًا إمبراطوريًا أكثر منه مشروعًا علميًا في المقام الأول، والتقى الأمير دي ليسبس (De Lesseps) هناك. كان يعتبر نفسه، رجل النهضة الإسلامية، ورجل جميع المواسم .. مسلما لجميع الناس .. نموذجا لا قديسًا ... فيلسوفًا لا كاهنًا.
غير أن الجزائر مسقط رأس الأمير هي بطبيعة الحال جارة ليبيا التي قدمت منها عائلة سلمان عبيدي، كما توفي الأمير في سوريا التي كان الهجوم بالطائرات الأمريكية عليها- بحسب أخت العبيدي - هو السبب في ذبح الأبرياء بمانشستر. وهكذا تنكمش الجغرافيا ويتلاشى التاريخ، لتصبح جريمة العبيدي في الوقت الحالي، أكثر أهمية من حياة الأمير عبد القادر برمتها وتعاليمه ونموذجه. أما بالنسبة إلى سكان مانشستر، سواء كانوا يمارسون الوشم على الجلد أو يشترون الورود فحسب، فلماذا لا يدخلون إلى مكتبة مانشستر المركزية في ساحة القديس بطرسويطلبون كتاب المحارب الرحيم(The Compassionate Warrior)لإلسا مارستن (Elsa Marstenr) و"القائد المؤمن"(Commander of Faithful) لجون كايزر (John Kiser)الذي تم نشره قبل بضعة أشهر فحسب، أو كتاب مصطفى شريف" الأمير عبد القادر: رسول الأخوة (L'Emir Abdelkader: Apotre de la fraternite)، وهي كتب لا تمثل ترياقا للحزن أو الحداد ، لكنها تثبت أن داعش لا تمثل الإسلام، وأن بإمكان المسلم أن يكسب احترام العالم.