منذ اندلاع الأزمة في العام 2011، ظلت مدن الجنوب الليبي تعاني من عدم الاستقرار، بسبب التهميش الذي طال مرافقها الأساسية والفرعية، وابتعادها جغرافيا عن مناطق صنع القرار. وغرقت المنطقة المنسية في بحر من الأزمات التي عصفت بكل مناحي الحياة اليومية للمواطنين هناك.
ويأتي التعليم في طليعة القطاعات المتأثرة بشكل كبير بالأوضاع المتردية في البلاد، حيث تعمقت أزماته تدريجياً، بسبب ما لحق بالبنية التحتية من أضرار بالغة، وإرجاء الدراسة أكثر من مرة بسبب غياب الأمن، الأمر الذي وصفه البعض بالمعظلة الكبرى التي من شأنها أن تؤثر على الأجيال المقبلة.
فقبل نحو عامين، شهدت ليبيا ذروة حادة من أعمال العنف والشغب والدمار التي طالت المدارس والمؤسسات المسؤولة عن توفير المستلزمات الدراسية والكتب، ولهذا السبب تعطلت الدراسة على 1.2 مليون تلميذ وتلميذة في ليبيا، وتوقفت ما يقارب 600 مدرسة من أصل 4200، وهذا وفقًا لمنظمة اليونيسف.
ويدفع قطاع التعليم ثمن الفوضى التي انتشرت في البلاد، مع تواصل أعمال العنف التي تستهدف العاملين فيه. فآخر ضحايا غياب الأمن كان أحد أفراد الشرطة التابعين لمديرية أمن سبها، والذي قتل مؤخرا خلال تأمينه لجنة امتحانات للشهادة الثانوية أمام مدرسة خديجة الكبرى وسط المدينة.وأوضح مصدر أمني لقناة ليبيا، أن المغدور كان على وشك الدخول للمدرسة التي يعمل فيها على تأمين مراقبة امتحانات الشهادة الثانوية منذ بدايتها، قبل أن تتجه نحوه سيارة ويتم إطلاق النار عليه من قبل أشخاص مجهولي الهوية.
يذكر أنه وفقاً لخطة من وزارة تعليم الوفاق يتم تأمين امتحانات الشهادة الثانوية بالتعاون مع وزارة الداخلية.وتتولى جامعة سبها مسؤولية مراقبة امتحانات الشهادة الثانوية لهذا العام عبر مراقبين وملاحظين موزعين على 11 لجنة داخل نطاق البلدية.
ويشهد الجنوب الليبي منذ فترة توترا أمنيا كبيرا، لا يمكن حصره بأنه صراع قبلي، خاصة بعدما ظهرت مليشيات إفريقية وأجنبية تقاتل إلى جانب بعض القبائل. ففي ظل الفراغ الذي يضرب مفاصل الحياة في ليبيا، وغياب دولة القانون والمؤسسة العسكرية والأمنية، ولكونها منطقة منسية من طرف الحكومات المتعاقبة، أصبحت منطقة جنوب ليبيا بؤرة لتهديدات خطرة ومستدامة تطال ليبيا وأجوارها.
وشهدت مدينة سبها، الواقعة على بعد 660 كيلومتراً، جنوب العاصمة الليبية طرابلس، اقتتالاً واسعاً، منذ مطلع فبراير (شباط) الماضي، على أكثر من مستوى، بين قبيلتي أولاد سليمان العربية والتبو، امع دخول العصابات الأفريقية على خط المواجهة، في اشتباكات دامية خلّفت قتلى وجرحى، ونزوحاً جماعياً قسرياً لعشرات الأسر.
ودفعت هذه الأوضاع الأمنية المتردية إلى تعطيل إنطلاق الدروس، ففي مارس الماضي، أعلن مكتب مراقبة التعليم بمدينة سبها تأجيل الدراسة، الذي جاء بسبب تردي الأوضاع الأمنية في المدينة التي شهدت معارك عنيفة، إلى جانب وقوع بعض المدارس في مواقع الاشتباكات ونزوح بعض العائلات إلى بعض المدارس.
وفي يونيو الماضي، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، إن المعارك في ليبيا أجبرت نحو260 ألف طالب ليبي على مغادرة 480 مدرسة بسبب إغلاقها جراء أعمال العنف في الشرق والجنوب.وأضافت المنظمة في بيان أن أعمال العنف أجبرت العديد من المدارس على الإغلاق في مدينتي درنة في شرق البلاد، وسبها في جنوب غربها.
وتسبّب اشتداد الصّراع في عدة مناطق في خسائر جسيمة في الأرواح وفي تهجير العديد عبر البلاد كما تضرّرت البنى التحتيّة الحيويّة ممّا عطّل الخدمات الأساسيّة مثل توزيع المياه والصّرف الصحّي في المدارس، وهو ما بات يمثل تهديدا كبيرا على حياة التلاميذ بسبب تفشي الأمراض والأوبئة.
وفي أغسطس الماضي، كشفت دراسة قامت بها منظمة اليونيسف وبالشراكة مع المركز الوطني لمكافحة الأمراض في ليبيا عدم كفاية وسوء نوعية مياه الشرب ومرافق الصرف الصحي في 54% من المدارس التي تم تقييمها في غرب وشرق وجنوب ليبيا، مما يعرض الطلبة لخطر المشاكل الصحية، ولا سيما الأمراض المنقولة عن طريق المياه، ومطلع سبتمبر الماضي أعلنت وزارة التعليم بحكومة الوفاق الوطني التي تتخذ طرابلس مقرًا لها، توزيع ما يزيد على 7 مليون دينار ليبي من ميزانية الطوارئ لصالح دعم وتهيئة المدارس لاستقبال العام الدراسي الجديد 2017/2018، غير أن هذا المبلغ لم يكن كافيًا لترميم ما خلفته الحرب.
ولا تنتهي الأزمات المتعلقة بالتعليم في ليبيا، ولعلّ غياب الكتاب المدرسي في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى واحدة منها.في مناطق ليبية نائية، تلجأ إدارات مدارس كثيرة منذ ثلاثة أعوام تقريباً إلى آلات نسخ المستندات لتوفير بدائل عن الكتاب المدرسي، نتيجة عجز حكومات البلاد عن توصيله إليها لأسباب لوجستية.
وتعاني منظومة التعليم في ليبيا كباقي القطاعات، من الانقسام السياسي الحاد، الذي أدى إلى وجود وزارتين في البلاد، الأولى تتبع حكومة الوفاق الوطني، في طرابلس، والثانية للحكومة المؤقتة في مدينة البيضاء (شرقا) مما ترتب عليه نقص في المخصصات المالية، والكتب الدراسية وخاصة في الجنوب الليبي.
وفي مارس الماضي، وصف وزير التعليم الليبي المفوض بحكومة الوفاق، عثمان عبدالجليل، فى حوار لصحيفة "اليوم السابع"، وضع التعليم في الجنوب الليبي بأنه سيء للغاية. وقال الوزير، "بعد استلامي لمهام الوزارة بشهر كان أحد أهم أهدافي زيارة مدن الجنوب بالكامل، وأعتقد أنني الوزير الوحيد الذي يزور مدن الجنوب الليبي بالكامل في 13 يوما إلى حدود تشاد والنيجر والجزائر".
وأضاف، "وقفت بنفسي على كل مدرسة والوضع سيء للغاية والبنية التحتية منهارة في ظل اختراقات أمنية وأولياء الأمور يعانون وينقصهم الكثير من المعدات وهو بالنسبة إليّ شىء مؤلم، وعندما عدت طرحت مبادرة على رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج، لحل تلك الأزمات وتطوير التعليم في الجنوب ووافق على تخصيص صندوق لتطوير التعليم وسيعمل الصندوق على توفير احتياجات الجنوب من تطوير مدارس وتطوير قطاع التعليم، والقول ليس كالفعل ومستمرون في إعطاء الجنوب الليبي كل شيء ودعمهم فى قطاع التعليم لأنهم يفتقدون الكثير".
وكان صندوق تحقيق الاستقرار في ليبيا، قد ساهم مؤخرا في سدّ الشقوق والثقوب وتغيير الأبواب والنّوافذ وتجديد الفضاءات المتضرّرة في ثلاث مؤسّسات تعليميّة في مدينة أوباري.ويعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتمويل مشترك من الاتحاد الأوروبي على دعم حكومة الوفاق الوطني والسّلط المحليّة على تحسين الخدمات لفائدة السكّان.يساعد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حكومة الوفاق الوطني على تفعيل صندوق استقرار ليبيا وهو مبادرة تؤمّن بسرعة تهيئة البنى التحتيّة وتسليم المعدّات ودفع القدرات المحليّة بما فيها مهارات تسوية النّزاعات.
يذكر أنه في يناير الماضي، تعهد رئيس المجلس الرئاسي، خلال لقائه بوفد بلدية القطرون، بأن يحظى الجنوب الليبي بما يستحقه من اهتمام، خصوصاً في مجال التعليم.وأشار السراج إلى أن الانقسام السياسي أثر سلبا على أداء مؤسسات الدولة، مضيفا أن الحكومة تتعامل مع الواقع، وتعمل على تقديم الخدمات للمواطنين وفقا للأولويات وما هو متاح من إمكانيات.
وأعلنت وزارة التعليم بحكومة الوفاق، مطلع سبتمبر 2017، عن توزيع ما يزيد عن 7 مليون دينار من ميزانية الطوارئ لصالح دعم وتهيئة المدارس لاستقبال العام الدراسي الجديد 2018/2017، لكن ذلك لا يبدو كافيا للنهوض بالقطاع الذي تحتل فيه ليبيا المراتب الأخيرة مغاربيا وإقليميا ، إذ لم تتمكن السلطات الليبية طيلة السنوات الماضية من وضع خطة تعليمية محكمة تتبعها وتعتمدها كأساس تبني عليه للقيام بنقلة نوعية في وضع التعليم في البلاد.
ولا تزال ليبيا تعاني من الانقسام السياسي والمؤسساتي بين حكومتين وبرلمانين وعمليات صراع واحتراب أهلي مستمر، أنهك الشعب والدولة في ليبيا، وجعلها عرضة للتدخلات الخارجية، بل المراهنة على أن تدفع سوء الأوضاع المعيشية وغياب الأمن قطاعات من الشعب الليبي إلى الترحيب بالتدخل الدولي لإنهاء مآسيها.
واختلت منظومة التعليم في ليبيا، وشهدت هزات عنيفة طيلة السنوات الماضية، حيث غرقت في الفوضى الناجمة عن الانتشار الواسع للسلاح، وبروز الأجسام والجماعات والميليشيات المسلحة. ويرى مراقبون أن أزمة قطاع التعليم في الجنوب الليبي تبقى رهينة تحقيق تسوية سياسية شاملة في البلاد، حيث تتوحد مؤسسات الدولة وتكون قادرة على إنهاء الفوضى وتحقيق الاستقرار.