لا شك أن انعقاد القمة الأفريقية الأوروبية الرابعة في بروكسل يومي 2،3 أبريل 2014 يعبرعن دلالات متعددة ويطرح في نفس الوقت أكثر من تساؤل واحد، ففي أعقاب الدورة الثالثة للقمة التي سيطر عليها العقيد الليبي الراحل بحضوره الطاغي والتي عقدت في طرابلس الليبية عام 2010 طرأت تحولات جسام أعادت تشكيل بنية الشمال الأفريقي بفعل ثورات الربيع العربي، بل إن رحيل نظام القذافي نفسه وتداعياته الأمنية والجيواستراتيجية على منطقة الساحل والصحراء مثل أحد التحديات الكبرى التي دفعت الأوروبيين إلى أن يولوا وجوههم شطر أفريقيا مرة أخرى، لم يكن بمستغرب أن يطرح الرئيس الفرنسي هولاند في قمة بروكسل مبادرة إقامة تحالف أوروبي أفريقي لمواجهة الأخطار والتحديات المشتركة للجانبين.

       ولئن كانت أفريقيا قد تغيرت بعد القمة الثالثة في طرابلس فإن أوروبا نفسها تغيرت بفعل أزمة شبه جزيرة القرم وضمها للاتحاد الروسي، إذ تحدث بعض الكتاب على أن القواعد التي تحكم لعبة الأمم في السياسة الدولية بعد دراما "القرم" سوف تختلف لا محالة عن تلك التي كانت سائدة قبلها ولاسيما منذ نهاية الحرب الباردة، إذن نحن أمام تغيرات كبرى في ميزان السياسة والقوى الدولية، فهل حقا يعبر شعار قمة بروكسل "الاستثمار في الأشخاص من أجل السلم والازدهار" عن نوايا حقيقية لشراكة أوروبية أفريقية أم أنه يسعى لاعادة تثبيت أقدام أوروبا،القارة العجوز كما وصفها الراحل جمال حمدان، في أفريقيا، القارة البكر، التي تعاني من معارك "التكالب الثالث" عليها؟

القمم الافريقية الاوروربية: مصالح واهداف

   ولعل القمم الأفريقية الأوروبية، قياسا على خبرة المنتديات والقمم الأفريقية مع الصين والهند واليابان، قد عانت من هيمنة الصور الذهنية والمدركات السلبية المتبادلة، وربما يعزى ذلك إلى الخبرة الاستعمارية الأوروبية السابقة في أفريقيا. لقد ظلت قضية التمثيل وتركيبة الوفود الأفريقية المشاركة محور مفاوضات وجدل كبير يبتعد في معظم جوانبه عن قواعد الايتيكيت والقوانين الدبلوماسية. ويمكن في هذا السياق أن نطرح مثال مشاركة الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي الذي مثل دائما أحد المشكلات الكبرى التي تواجه الاعداد للقمم الأفريقية الأوروبية، وقد عبر مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي صراحة عن استيائه الشديد لهذا الاستعلاء الأوروبي في التعامل مع أفريقيا وعدم التخلي عن العقلية الاستعمارية السابقة حينما أصدر توصية واضحة للزعماء الأفارقة بضرورة مقاطعة قمة بروكسل، وقد برر المجلس، وهو أقوى منظمة داخل الاتحاد الأفريقي، هذه التوصية بأنها احتجاج على ازدراء الأوروبيين لأفريقيا من خلال تحديدهم من يحق له المشاركة في القمة من الجانب الأفريقي.

     وقد قاطع رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما قمة بروكسل احتجاجاً على مسألة التمثيل والاملاءات الأوروبية بهذا الشأن، يقول زوما: "إن علينا تجاوز العصر الذي نظر فيه إلينا على أننا مجرد رعايا، لقد قيل لنا من ينبغي عليه الحضور ومن يتعين عليه عدم الحضور، لم يحدث قط عندما نجتمع في أوروبا أننا قد حسمنا مسألة الحضور والتمثيل في القمة. إنه أمر خطأ يؤدي إلى أمور مؤسفة لا لزوم لها على الاطلاق".

     لكن السؤال الأبرز هنا يتمثل في ما الذي تريده أوروبا من أفريقيا؟ أو بعبارة أخرى ما هي المصالح الأوروبية في أفريقيا والتي تدفع بالاتحاد الأوروبي إلى بناء استراتيجية بعيدة المدى  تجاه القارة الأفريقية؟

لعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو الدور الأوروبي في معارك التكالب على أفريقيا، إذ كان التكالب الأول من أجل السيطرة والاستحواذ على الثروات الأفريقية في نهاية القرن التاسع عشر أوروبيا خالصا، ولعل مؤتمر برلين 1984-1985 الذي قسم القارة الأفريقية بين القوى الأوروبية الكبرى يجسد هذا المعنى.

أما التكالب الثاني على أفريقيا فقد حدث بعد الاستقلال في أعوام الستينيات وهيمنت عليه أجواء الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية. ولعل خير تعبير عن الضرر الذي أصاب الأفارقة من قبل هذا الصراع المحموم في المرحلة الثانية من التكالب الدولي على أفريقيا هو المثل الأفريقي القائل: " إذا تصارع فيلين فإن الضرر يقع على الأعشاب من تحت أقدامهما".

وفي أعقاب نهاية الحرب الباردة شهدت أفريقيا معارك جديدة دشنت لمرحلة التكالب الثالث على مواردها وثرواتها الطبيعية مع دخول قوي دولية صاعدة جديدة أبرزها الصين، ولعل الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الغرب بعد نهاية الحرب الباردة هو تبني سياسة الاملاء على النخب الأفريقية من خلال الترويج لرؤية ليبرالية جديدة تقوم على تحريرالأسواق واجراء الانتخابات. أما الصين التي انتهجت سياسية هيمنة مرنة من خلال قوتها الناعمة فإنها احترمت سيادة الدول الأفريقية ولم تتدخل في شئونها الداخلية،وهو الأمر الذي جعل نفوذها الاقتصادي والسياسي يتعاظم في أفريقيا، حتى أنها أضحت في عام 2009 الشريك التجاري الأول مع أفريقيا، عندئذ شعرت أوروبا بالخطر من قدوم التنين الصيني  ومدى تأثيره على نفوذها التقليدي في محيطها الاستراتيجي الأفريقي القديم .

يعني ذلك أن الدعم الأوروبي لأفريقيا ومشروعات الاتحاد الأوروبي الانسانية إنما تستبطن مصالح حيوية لأوروبا في البلدان الأفريقية، فالاهتمام الأوروبي بقضايا الأمن الأفريقي، حيث برز مثلا في قمة بروكسل الصراع في أفريقيا الوسطى، يهدف ضمان استمرار تدفق النفط والموارد الطبيعية الأخرى، والتحكم في الهجرة غير الشرعية، ومكافحة تطرف الراديكالية الاسلامية المتزايدة في كثير من أنحاد أفريقيا.

     افريقيا: والاستراتيجيات الاوروبية

     ومن الواضح أن ذلك كله دفع إلى تبني أوروبا استراتيجيات جديدة تجاه أفريقيا. وعلى سبيل المثال تعتبر النخب الفرنسية أفريقيا بمثابة" chasse gardée" أرض صيد خاصة بهم، ألم يقل الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران صراحة "إن فرنسا بدون أفريقيا لن يكون لها تاريخ في القرن الحادي والعشرين؟، ولعل ذلك يفسر لنا سر حماسة الرئيس هولاند ودعوته بإقامة تحالف قاري ثنائي يجمع بين أوروبا وأفريقيا، والذي يعبر في أحد جوانبه عن الخوف من تصاعد النفوذ الآسيوي، ولا سيما الصيني، في أفريقيا.

    ويمكن تفهم هذه الاستراتيجية الأوروبية الجديدة تجاه أفريقيا من خلال التركيز على جانبين هامين هما الأمن والاقتصاد، من الواضح تماما انخراطالأوروبيين إلى حد كبير في مسائل التدريب العسكري والامداد بالمعدات كما حدث في شمال مالي ومناطق الساحل والصحراء، فثمة مخاوف أوروبية من تحديات الارهاب والقرصنة البحرية والجريمة المنظمة وشبكات الاتجار في البشر وتهريب المخدرات والأسلحة وانعكاسات ذلك كله على الأمن الأوروبي، أما فيما يتعلق بالتجارة فإن الاتحاد الأوروبي يحاول جاهدا الضغط على الدول الأفريقية من أجل التوقيع على اتفاقيات شراكة اقتصادية جديدة. وتواجه المفاوضات مع أفريقيا صعوبات جمة بسبب أن هذه الاتفاقات لا تتماشي مع توجهات منظمة التجارة العالمية من جهة، فضلا عن عدم مراعاتها للأولويات التنموية الأفريقية من جهة أخرى.

أزمة القرم والعلاقات الاوروبية الافريقية

     لعل ذلك كله يدفعنا إلى طرح موضوع تأثير تحولات النظام الدولي في أعقاب أزمة "القرم" على العلاقات الأوروبية الأفريقية، فهل يعني ذلك عودة أجواء الحرب الباردة وانعكاسها بشكل سلبي على الواقع الأفريقي. في 22 مارس 2014 نشرت الايكونومست على غلافها صورة للرئيس الروسي فلاديمير بوتن وهو يقود دبابة بينما كان عاري الصدر وكتبت عليها متساءلة نظام عالمي جديد؟، لا شك أن ذلك يدفعنا إلى التساؤل أيضا عن نمط النظام الدولي السائد قبل الأزمة الأوكرانية، وأي نوع من النظام نبحث عنه ونريده. الاجابة بالقطع هي أن نظاما دوليا أكثر عدالة وانسانية يلتزم بالقواعد القانونية والأخلاقية في التعامل مع الدول هو ما نبحث عنه ونريده، بيد أن ما أثبتته تطورات الأحداث منذ أزمة الخليج عام 1991 هو أن السياسة الخارجية للدول الكبرى تحركها تصورات ومدركات مصالحها الحيوية الخاصة، وليس الالتزام بقواعد القانون الدولي كما تطبقه منظمة الأمم المتحدة، فالمنطق الجيواستراتيجي السائد اليوم يفضي إلي دوامة من الصراع العنيف والمتصاعد.

     وفي هذا السياق نسمع من يتحدث عن بوادر تشكل حرب باردة ثانية بكل ما تنطوي عليه من مخاطر التهديد أو استخدام الأسلحة النووية.ومن العجيب أن كتاب الواقعية في العلاقات الدولية لا يجرؤون على الحديث عن نزع السلاح النووي باعتباره الوسيلة الأنجع التي يمكن أن تساهم إلى حد كبير في تجنب مستقبل كارثي للبشرية في القرن الحادي والعشرين.

وعليه فإنه إذا تجاوزنا أحداث أزمة القرم وانضمامها لروسيا باعتبارها علامة على ولادة نظام عالمي جديد فإن كل الدلائل تشير إلى استمرار النظام العالمي القديم منذ انهيار حائط برلين، إنه النظام الذي شجع بشكل مستفز على انتهاك القواعد الأساسية للنظام الدولي، كما حدث في كثير من حالات التدخل الانساني في أفريقيا (ليبيا، ساحل العاج، الصومال)، يبدو أن الذي تغير في عالم ما بعد "القرم" هو قواعد لعبة الأمم في السياسة الدولية، وهو ما ينعكس سلبا على طبيعة العلاقات الدولية السائدة في أفريقيا. فأفريقيا ظلت لعقود طويلة بعد الاستقلال تؤمن بمبدأ "قدسية الحدود"، أي عدم تغيير الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري. فماذا يعني تفسير الرئيس فيلاديميربوتن لمبدأ حق تقرير المصير وتطبيق ذلك على أفريقيا التي تعاني من وجود حالة من الفسيفسياء العرقية والدينية واللغوية. إننا أمام احتمال ظهور " أكثر من بوتن" أفريقي يسعى إلى تغييرالحدود وفقا لتأويل مصلحي لمبدأ حق تقرير المصير. ويمكن في ظل تغير قواعد الممارسة الدولية كما عبرت عنها أزمة القرم أن ينجو بفعلته. ولعل تأثير ذلك هو بالغ السلبية على الخريطة السياسية السائدة في أفريقيا.

    إن سؤال الشراكة بين أوروبا وأفريقيا لا يبدو في ظل التحليل السابق منطقيا ولاسيما من خلال فهم الدوافع الأوروبية وتطورها التاريخي على حساب أفريقيا من جهة وتحولات القواعد الحاكمة للعبة الأمم في أفريقيا من جهة أخرى، وعليه فإن التوصيف الصحيح للتجمع الأوروبي الأفريقي هو نوع جديد من الهيمنة وإن اتخذ صفات أو ألقاب جديدة. يدفع ذلك إلى البحث في محددات العلاقة ومستقبلها بحيث تتحول من حالة الهيمنة إلى حالة الشراكة المتكافئة.

    نستطيع أن نشير إلى ثلاثة قضايا محورية، أولها تجاوز مواريث التاريخ الاستعماري بما ينطوي عليه من نزعة استعلائية أوروبية غير خافية، ولن يتأتي ذلك إلا من خلال إعلان أوروبا عن مسئوليتها الأخلاقية والمادية عن سنوات الاستعمار وكيف أنها أسهمت على حد تعبير والتر رودني في تخلف أفريقيا، ثانياً الكف عن سياسة الاملاء والتدخل الأوروبي في الشئون الأفريقية بحجة الترويج لنموذج الليبرالية الجديدة والتي قدتتعارض مع القيم والمواريث الأفريقية التقليدية، ويمكن أن نشير في ذلك السياق إلى الضغوط الأوروبية والأمريكية على الدول الأفريقية التي فرضت قوانين مناهضة لممارسة الشذوذ الجنس، ثالثاً السماح للأفارقة باستخدام قوتهم التفاوضية من أجل تحقيق التنازلات من قبل الاتحاد الأوروبي لأخذ الأولويات التنموية الأفريقية بعين الاعتبار.

    إنه على الرغم من حضور قمة بروكسل أكثر من ثمانين وفدا بينهم (61) من رؤساء الدول وكبار المسئولين والتزامهم باعلان خريطة طريق 2014-2017 التي تحدد الأولويات الاستراتيجية في خمسة مجالات هي الأمن والسلام، والديموقراطية والحكم الرشيد وحقوق الانسان، والتنمية البشرية والتنمية المستدامة والنمو والتكامل القاري، فإنها سوف تظل شعارات لا يرجى من ورائها نفع ما لم يتم التعامل مع التحديات والمعوقات التي تعترض اقامة شراكة حقيقة بين أوروبا وأفريقيا، وذلك هو التحدي!

* "معهد العربية للدراسات"