خيرة طارة (باريس): هذا العمل، خلطة سحرية من الواقع والخيال، في سرد إبداعي، عوّدنا عليه الكاتب في كل مؤلفاته. يخاطب العقل البشري و يسائل التاريخ الانساني، من خلال قصص انسانية مشبَّعة بالارث العالمي، لهذا الانسان حيثما وُلد وحيثما نشأ. يتنقل فيه بعذوبة ماهرة من الميكرو الى الماكرو و كأن شخصيات الرواية عيِّنة ممثلة للمجتمع البشري. يستحضر الماضي و التاريخ الانساني لانقاذ انحرافات الحاضر.
الرواية عبارة عن يوميات، يدوِّنها(Alec sander) "الكسندر"، الشخصية المحورية في هذا العمل الروائي. وتدور أحداثها، في جزيرة صغيرة، تكاد لا تُرى في شساعة المحيط الأطلسي، ضمن ارخبيل الشيرون. كان قد اشترى والد "الكسندر"، الجزء الأكبر منها، ليمضي فيها أخر أيامه. لكنه مات دون تحقيق ذلك. فرأى فيها الابن المكان الجميل و الطبيعة الملهِمة، بعيدا عن ضوضاء المدينة و المدَنية. "ألكسندر"، بالاساس، رسَّام كاريكاتور كندي الجنسية، معروف بشخصيات رسوماته ذات الشهرة العالمية. و مع تطور تكنولوجيا الاتصال، وإمكانية العمل عن بعد، جاء للانعزال في هذا المكان و مواصلة عمله. فلا حاجة له سوى للحبر وبعض الأوراق ذات الجودة، وتدفُّق عال للأنترنت. يبيع رسوماته الى العديد من المنابر الاعلامية. غادر الواقع، اذن، وبقيت له المواقع، كخيط يربطه بعالم الأحداث يستلهم منها مواضيع رسوماته المشهورة.
بعد سنوات، ظلَّ فيها الساكن الوحيد، جاءت الكاتبة، (Eve st gil) لتقيم في الجزء المتبقي من هذه الجزيرة، و الذي ورثته هي الاخرى من والدها البحَّار المغامر. "حواء"، و قد اراد الكاتب، بهذا الاسم، أن يشحن الشخصية بالبعد الانساني المطلق والجامع، كاتبة كانت قد عرفت في شبابها المجد والشهرة بكتابها الوحيد "المستقبل لا يسكن بهذا العنوان" وعاشت بريق النجومية، فصارت مثلا لجماهير الشباب الباحث عن القدوة في عالم بلا معايير. ولكن مع الصيت والباع، أخذت جرعتها، أيضا من النقد اللاذع والإهانة والإقصاء. فقررت قطع صلتها بهذا المجتمع الشرِس، وجالت لسنوات عديدة في أنحاء المعمورة ، وحين أعياها التوهان، حطَّت رحال حياتها، في هذه الجزيرة الفردوسية للراحة وللكتابة.
العزلة و الانعزال:كلاهما، إذن، منعزل في هذا الركن المنسي من الكرة الأرضية، و لكليهما أسباب عزلته الذاتية. أراد "ألكسندر" بهذا الانعزال، أن يتراجع ويبتعد ليُجدِّد نظرته للعالم، ويعيد شغفه بالبشرية. يتابع الأحداث بنظرة خارجية، من خلال ما يصله من صديقه ،"مورو" مستشار في الرئاسة الامريكية والمطلِّع على كواليس ما يجري هناك. و انزوت "حوّاء"، في هذا المكان نابذة ورافضة ومخذولة من البشر، و من كوارث الحضارة الانسانية وشراسة الناس. تعيش في هذا المكان خارج الأٌطر الاجتماعية، تنام نهارها وتمضي ليلها في كؤوس السكر ثملة بلا نديم، غائبة وغير معنية بالبشرية، تدير ظهرها وتكسر، في نمط عيشها، كل القوالب الاجتماعية، وغير قادرة على الكتابة من جديد.
تمضي سنوات على هذه الجيرة الغريبة، وقد التزم "ألكسندر" بعدم الاتصال بجارته، بعد محاولة وحيدة، مبادرة للترحيب بها في بداية اقامتها. حينها قوبل بالبرودة ورفض الوصال. وبدا له أنه أزعج الجارة المنعزلة، لم يحْظَ بالاستقبال اللائق. فقرر عدم معاودة ذلك.
وصار كل واحد يعيش خلوته وفق معاييره. يراقب "الكسندر" العالم من بعيد و يتفاعل معه عن طريق رسوماته. و تغرق "حوّاء" في كؤوسها.
كل شيء يمضي بهذه الوتيرة في هذ البقعة المنعزلة والمنفردة بجمال طبيعتها. الممر الوحيد لأقرب قرية للصيادين هو معبر (Gouay) الذي يتيح للساكِنَين الذهاب للتقضِّي أو استلام مشترياتهم في حال هبوط مستوى البحر. مسلك صعب تغمره مياه البحر في غالب الوقت. يعبره "ألكسندر" على دراجته الهوائية، كلما اشتاق لمحادثة البشر بين الحين والآخر، ملتزما بتقرير الأرصاد الجوية وخريطة تحدد ساعات صعود وهبوط البحر. وتستقدِم "حواء" مستلزمات عيشها او استمرار بقائها على قيد الحياة. يقوم على حراسة هذا المعبر، السيد "أغام" وهو تصغير لاسم ذي اصول إغريقية١ (Agamemnon) والشخص نفسه ذو ملامح غريبة لا توحي بانتماء محدد، و كأنه نتاج زواج مختلط . تعوّد "الكسندر" التوقف عنده للدردشة أحيانا في ذهابه وإيابه. فهو رجل وفير الثقافة و قارئ مدمن، يلتهم الكتب بشراهة.
في هذه الرتابة والهدوء وفي ليلة من ليالي نوفمبر العاصفة والباردة، يُسمع دوي انفجار هائل ينقطع الكهرباء على إثره وتتعطل كل وسائل الاتصال والتواصل. ويجد الجاران نفسيهما في عزلة تامة عن العالم . ينقطع تدفق الانترنيت و تتوقف أجهزة الإرسال اللاسلكي بل وحتى أجهزة التدفئة والتبريد، لم تعد تبث القنوات الإذاعية والتلفزيونية غير الصفير والخواء.
يقرر في اليوم الموالي، بعد ليلة مضطربة أمام الصمت الكلّي والظلام المخيَّم، الذهاب لقرية الصيادين لمعرفة حقيقة ما جرى. يحمل تساؤلاته التي أرّقته، لعله يجد عندهم الأجوبة المقنعة.
لكنه وجد رواد الخان من الصيّادين، الثرثارين في العادة، و كأن الطير على رؤوسهم. مأتم بلا ميت. الصمت والخوف مخيم على الجميع. بدا روّاد الخان كمن ينتظر الموت القادم مع غيوم الإشعاع النووي. وكانت في نظراتهم تساؤلات تنتظر الأجوبة حين ظهر "الكسندر". فيكتفي هذا الاخير، باحتساء كأسه و العودة قبل ان يغمر البحر معبره الوحيد لجزيرته. و يتوقف كعادته أمام منزل " اغام" حارس المعبر. بث فيه القليل من السكينة، دون تمكينه من الاجابة الشافية.
الاشعاع الفكري في مواجهة الاشعاع النووي:في غياب الأخبار الموثوقة تبدأ التكهنات ترسم معالمها في ذهن "ألكسندر"، قد يكون انفجارا نوويا، أتى على الانسانية وستدركه الغيمة المشعَّة قريبا. وربما سكان الجزيرة هم آخر الأحياء على وجه المعمورة. أو ربما هجوم إرهابي ضخم.
يحمل الغموض والقلق، ويقرِّر الرسَّام التوجه لجارته الوحيدة على هذه الجزيرة، قد تكون بحاجة للمساعدة و المؤانسة كحاجته أيضا.
يداهم خلوتها، دون طلب استئذان، ويحظى هذه المرة بحرارة اللقاء، رغم البرودة التي حلّت، بعد انقطاع الكهرباء وتوقف المدافئ وكل الأجهزة عن أداء مهمتها. يحاول الجار الزائر، هزم الصقيع، بإشعال مدفأة الحطب وبعث نوع من الحرارة في الجو وفي المشاعر و يُعلنَ، بذلك، عن ميلاد صداقة قوية بينهما.
زر الشلل الكوني:أول الأجوبة على التساؤلات كانت برجوع وامِضٍ للبث التلفزيوني وعبره خطاب الطمأنة لرئيس امريكا "المتخيَّل" والاعلان ان هناك هجوما من مجموعات روسية وراء دوي الانفجار. و يعلن عن تدخل قوة خارجية، باتت تتحكم في الوضع. ولكن كل شيء تحت السيطرة. خطاب من خطابات الرؤساء في كل الأزمات. "الوضع مسيطر عليه. الخطاب الرسمي الكلاسيكي. القوى الخارجية حسب إدلاءات الصديق "مورو" المستشار بالرئاسة، الذي تمكن أخيرا من الاتصال به في ومضة بارقة لعودة التيار والبث، تتمثل في شخص قادم من عالم مجهول يدعى "ديموستان". قادم لوقف الرد المناسب الذي وعد به الرئيس الأمريكي، إثر الانفجار الذي تبنته قوى روسية وسُمع دويه في الجزيرة. الردّ المبرمج، كان سيؤدي الى فناء الإنسان والكون من حوله. القادمون والممَثَلون في شخص واحد، بامكانيات سلمية مذهلة. لا حاجة لها للجيوش ولا للأسلحة، هو من رفقاء يعتمدون على سياسة التحكم في الاتصالات. السلاح الوحيد الذي يضع أمريكا أمام خيار واحد فقط وهو السماح لهم بمراقبة التجهيزات النووية في كل مكان ومنع تفعيلها للرد على الهجوم. وأمام رفض الرئيس ذلك يعاد توقيف وسائل الاتصال وتجميد الكون. وكأنه يقول لهم: إن القوة الحقيقية ليست في وسائل التدمير.
ولا يجد الرئيس الامريكي وهو المريض المصاب بسرطان ميؤوس من شفائه، إلاَّ القبول والإمتثال لطلب "ديموستان" ممثل أصدقاء "امبيدوكلوس" الاغريق. الذين قدِموا لإنقاذ البشرية وتوقيف جنون الإنسان. ومقابل استسلام الرئيس لطلبهم. يعرضون عليه معالجته. هدية رفضها، حفاظا على كرامته وخوفا من ردود فعل شعبه وردود فعله من هذا الاستسلام. و لكنه سرعان ما قبلها تحت ضغوطات زوجته التي اعتمدت على مساندة الجماهير الشعبية لها .أقنعته بالعلاج على أيدي القادمين.
بشفاء الرئيس و استرجاع قوته وشبابه، و بفضل أطباء المستشفى العائم ، الآتين من أماكن1 مجهولة. تطالب الجماهير هي الاخرى بحقها في العلاج في المستشفيات المعجزة. وينبهر الجميع من القدرات الطبية والعلاج السحري من كل الأمراض. وترسو المستشفيات العائمة في كل البقاع. وتختفي كل المطالب الأخرى، أمام رغبة الشعوب في العلاج والقضاء على الشيخوخة ومختلف الأمراض وحتى الموت إن أمكن.
رسالة قوية من الكاتب أن المرض وحده هو العدو الحقيقي للإنسان. و أنَّ المعارف والعلوم هي تراكمات انسانية و استمرارية و لا حق للريادة فيها لأحد على الإطلاق. وأنَّ القوى الخارجية قادمة من الماضي. وان اشعاعها مستمد من حضارات تراجعت أمام جنون الانسان.
بشرية الأنوار و بشرية الظلال:تقول الجارة الكاتبة "حواء": في يوم من الأيام، في غابر العصور، انقسمت البشرية الى قسمين. جزء منها هاجر ورحل الى أماكن أخرى لبناء مدائن أخرى. والبعض الآخر بقي. من يومها، هناك بشريتان متوازيتان. واحدة تعيش في النور و تحمل في طياتها العتم. وأخرى تعيش في العتمة، ولكنها حاملة للنُّور. كل واحدة تسير على وتيرتها وفي مسارها."
الإخوة القادمون من الظلال، أرادوا بقدومهم مع ما يحملون من معارف وحضارة، أن يعلِّموا سكان المعمورة أن الحضارة هي تراكمات معرفية تساهم فيها الأجيال. وأن المعارف نتاج الشعوب منذ الأزل وفي كل الأصقاع، وأن العالم بحاجة لمن ينقذه من كوارثه و أمراضه و ليس بحاجة لمن يقوده.
يطرح الكاتب مثل هذه الإشكاليات ضمن ثنائيات أرهقت البشرية. الحياة والموت، الحاضر والماضي، اولوية المعارف والعلوم، اسبقية العلاقات الانسانية على المناورات السياسية التي تقوم على الغاء الآخر. ليبقى السؤال المحوري بين إنقاذ الانسانية من أنانية الإنسان وحبِّه للسيطرة. بتدخل "أصدقاء أمكيدلوكس" تعاد جدولة الاولويات. ويصبح القضاء على الأمراض أهم ما يجب أن يطمح إليه الانسان.
لم يعتمد الكاتب على مخلوقات قادمة من الكواكب الأخرى. ولم تكن هذه المرة الصين أو روسيا أو ايران، الأعداء الكلاسيكيون، لغطرسة أمريكا. هم بشر مثلنا، إنهم بقايا حضارة الإغريق، أولى الحضارات الانسانية . أولئك الذين انسحبوا و ظلّوا في الخفاء يطورون معارفهم ويراقبون جنون الانسان و تدمير نفسه الذاتي. وجاء تدخلهم حين صارت البشرية قاب قوسين من الدمار الشامل. و كان يكفي أن يضغطوا على زر التواصل ليتجمَّد كل شيء. و تنهار قوة أمريكا الوهمية.
الرواية مليئة بالرموز والرسائل المشفرة. كأن يكون حارس المعبر واحدا من "أصدقاء امبيدوكليس" القادمين لانقاذ الانسان من نفسه. وكأن تنتهي القصة ببشائر إنجاب "الكسندر و حوّاء" الطفلة والاتفاق على اعطائها اسم احدى ملكات أصدقاء "امبيدوكليس".
الأمراض وحدها تستحق العداوة:رغم أن أمين معلوف نفسه صرّح، أن الرواية سابقة لتفشِّي جائحة كورونا، فإن لاحداثها صدى لما يعايشه العالم أمام عدو فيروسي متنامي في الصغر، شلَّ الكرة الارضية باسرها. ومع ذلك ما زالت القوى العالمية تضارب وتناور لاستحقاق الريادة في الاستفادة من الجائحة وابتزاز الشعوب المغلوبة على أمرها.
الكاتب يرى أن الحضارة الإنسانية اليوم قد وصلت إلى المأزق الذي يتطلب معجزة حقيقية لمنع الغرق. وأنه يجب الاعتماد على المعارف. وإلقاء النظر على الماضي لمعرفة أين وقع الانحراف في السيرورة الانسانية. ومتى صارت ردّة الإنسان عن إنسانيته.
ويظل أمين معلوف، أمينا في مساءلته للعقل البشري دون تمييز لانتماءاته العرقية والجغرافية، ولا حتى العقائدية.
رواية اعتمدت على الخيال المستلهَم من واقع سيرورة الإنسان إلى حافة انهيار حضارته أمام حمّى السيطرة والقيادة بدل التعاون و الشراكة.