للمرة الثالثة خلال عامين، أعاد رئيس الحكومة المغربية عبدالإله بن كيران، وهو في ذات الوقت أمين عام حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، التأكيد على أن حزبه غير مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين المصرية، ولا بفكرها؛ ولكنه هذه المرة ذهب أبعد، حيث نفى أن يكون هناك إخوان في المغرب، وفق ما نشرته اليوم صحيفة العرب.

أن يكون هذا الكلام قد قيل من العاصمة القطرية أمر له دلالته، ذلك أنه يكشف عمق التحول الذي حصل في الخارطة الفكرية للعالم العربي خلال الأيام الماضية.

فالظاهر أن المنطقة العربية، بما في ذلك الإسلاميون الذين وصلوا إلى الحكم في بعض بلدانها، قد بدأت تغادر المناخ الفكري والسياسي الذي أطلقته دينامية ما سمّي بالربيع العربي قبل قرابة خمسة أعوام.

وقد عبر بن كيران عن هذا التحول، حينما أطلق في المنتدى المشار إليه تسمية “الخريف العربي” على الربيع، الذي كان وصول حزب العدالة والتنمية المغربي نفسه إلى السلطة ثمرة من ثماره السياسية.

تصريحات ابن كيران تظهر أن حزب العدالة والتنمية بات واعيا بضرورة الانتقال من مرحلة الأيديولوجيا إلى البراغماتية السياسية، والتخلي عن الشعارات المشحونة التي طبعت أداءه في العامين الأولين لوجوده داخل الحكومة.

وهو يفعل ذلك اليوم ببراعة من يدرك بأن الخطاب السياسي لتيار الإخوان لم يعد يتمتع بالشعبية التي كانت له قبيل وصوله إلى السلطة عقب أحداث الربيع العربي؛ ومن أجل ذلك لا يريد التفريط في موقعه السياسي، ويفضل الوقوف مع الرابح.

من يعرف إسلاميي المغرب، وحزب العدالة والتنمية، يعرف التأثير الفكري والدعوي لجماعة الإخوان المصرية عليه. فقد تغذت حركة التوحيد والإصلاح، التي ينتمي إليها ابن كيران وتعد الذراع الدعوية والأيديولوجية للحزب، من أدبيات الجماعة منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما كان ابن كيران شابا يسعى إلى الحصول على جزء من الإشعاع السياسي الذي كان لحركة الشبيبة الإسلامية، بعد مغادرة زعيمها عبدالكريم مطيع المغرب إثر مقتل أحد الزعماء النقابيين لليسار عام 1975، وحصول مرحلة انتقالية شهدت تدافعا بين أبناء الحركة لامتلاك مشروعية تمثيلها، جعلت الكثيرين يرتمون في أحضان الدولة للحصول على التزكية السياسية.

ورث أبناء حركة الشبيبة الإسلامية ثقافة سياسية راديكالية، اكتسبوها بفعل قراءة أدبيات الإخوان، وخاصة سيد قطب؛ وكان كتاب “معالم في الطريق” أحد الكتب الرئيسية التي أثّرت على البنية الفكرية للحركة وساهمت في منحها الطابع الانقلابي، مضافا إلى ذلك المناخ العام لليسار المغربي الذي كان ذا نزعة انقلابية، الأمر الذي جعل الطرفين، المتخاصمين وقتها، يغذيان تطرف بعضهما البعض.

بيد أن كتاب “معالم في الطريق” ظل بمثابة منارة فكرية تقود جل التيارات الصغيرة التي خرجت من معطف الشبيبة بعد تفككها وفرار زعيمها خارج البلاد، ومنها الجماعة التي أنشأها بن كيران في بداية الثمانينات، وهي “الجماعة الإسلامية” التي ستصبح فيما بعد “حركة الإصلاح والتجديد”، قبل أن تذوب عام 1996 في “حركة التوحيد والإصلاح” الحالية، مع “رابطة المستقبل الإسلامي”، كما ظل الاحتفاء بسيد قطب حاضرا بقوة.

ولذلك، فإن ثقافة الإخوان ظلت تسري في مختلف أدبيات الحركة الجديدة، بل إن الجماعة بقيت مرجعية لا يمكن الاستغناء عنها. صحيح أن الحركة لجأت فيما بعد إلى تنويع مصادرها، وهذا بسبب عدم النضج الفكري وغياب القدرة على نحت نوع من الخصوصية لفترة طويلة، إذ انفتحت الحركة على أدبيات حركة النهضة التونسية، وجماعة الإخوان المسلمين السورية والأردنية، بيد أن ذلك التنويع ظل مرتبطا بفكر الإخوان نفسه.

ذلك الدوخان الفكري عاشته مختلف الحركات الإسلامية المغربية، ولم تكن حركة التوحيد والإصلاح استثناء، ما عدا جماعة العدل والإحسان التي استطاع مؤسسها الراحل عبدالسلام ياسين اجتراح نموذجه الخاص، دون أن يعني ذلك عدم استفادته من تراث الإخوان خاصة كتابات حسن البنا.

غير أنه، وبسبب الازدواجية التنظيمية، يصر عبدالإله بن كيران على الحديث باسم حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه، ضاربا عرض الحائط بمواقف وأدبيات الحركة التي ينتمي إليها، والتي كان أحد مهندسيها الرئيسيين.

فهو حين يؤكد على ابتعاد الحزب عن جماعة الإخوان المصرية، يتناسى أنه عضو فاعل في حركة تردد مواقف الجماعة، وتشارك في عدد من اللقاءات التي تعقدها، وتعتبرها الحركة الأم التي تربت على أدبيّاتها.

هذه الازدواجية التنظيمية هي التي تفسر ازدواجية المواقف من الأحداث في مصر، منذ وصول محمد مرسي إلى الحكم في مصر عام 2012. ففي الوقت الذي انخرطت فيه حركة التوحيد والإصلاح في التهليل لفوز الجماعة، وأصدرت بيانا بذلك خلافا لما حدث في بلدان عربية أخرى، ترددت مواقف حزب العدالة والتنمية بين الترحيب الخجول والاحتفاء المبالغ فيه.

الترحيب الخجول لأن الحزب يقود حكومة ما بعد الربيع العربي ويحاول النأي بنفسه عن المواجهة مع القصر من جهة والفرقاء السياسيين من جهة ثانية، ثم الاحتفاء المبالغ فيه لأن الحزب يريد مجاملة قواعده التي توالي حركة التوحيد والإصلاح، وتعتبر الحزب مجرد واجهة سياسية لها.

وعلى سبيل المثال، حرص ابن كيران، خلال افتتاح الملتقى التاسع للجناح الشبابي لحزبه بالدار البيضاء يوم 25 أغسطس 2013 على التلويح بالشارة التي كان يرفعها متظاهرو ساحة رابعة العدوية، في محاولة للتقرب من قواعد حزبه وعدم التضحية بشعبيته.

«بسبب الازدواجية التنظيمية، يصر عبدالإله بن كيران على الحديث باسم حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه، ضاربا عرض الحائط بمواقف وأدبيات الحركة التي ينتمي إليها»

وفي خطوة متزامنة، وفي مسعى لتدويل الموقف، عمد برلمانيو حزب العدالة والتنمية إلى محاولة جمع توقيعات على عريضة أطلقوا عليها اسم “برلمانيون ضد الانقلاب”، لحشد التأييد للإخوان المسلمين. بيد أن العديد من نواب الأحزاب في غرفتي البرلمان رفضوا التوقيع، ولم ينجح الإسلاميون سوى في جمع ما يقارب الـ140 توقيعا من بين 665 عضوا، وهو عدد يتجاوز بقليل عدد نواب الحزب في كلتا الغرفتين المشكلتين للبرلمان المغربي.

في ما يتعلق بحركة التوحيد والإصلاح، فقد وجهت رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة والدول الخمس دائمة العضوية ودول الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، تطالب فيها بـ”إدانة الانقلاب العسكري على الشرعية في مصر، والتعبير عن موقف واضح من التطورات الأخيرة بمصر، باعتبارها انقلابا عسكريا مخالفا للشرعية القانونية والدستورية ولكافة المواثيق والإعلانات واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية”.

يمكن القول اليوم بأن تصريحات عبدالإله بن كيران، التي يؤكد فيها عدم تبعية الحزب للإخوان المسلمين، تبدو كأنها محاولة لتأكيد التمايز بين الحزب والحركة.

لقد فهم رئيس الحكومة أن التحولات في العالم العربي أصبحت تحتم الانتقال من النزعة الأيديولوجية إلى النزعة البراغماتية، لإدراكه بأن ورقة الإخوان أصبحت خاسرة، بما في ذلك لدى بعض البلدان العربية التي كانت تراهن عليها في إطار الرغبة في التأثير على التوازن الإقليمي لفائدتها.