وضع السيّد علي العريّض رئيس الحكومة التّونسيّة مساء اليوم 9 يناير/كانون الثاني 2014 رسميًا إستقالته على طاولة رئيس الجمهوريّة المؤقّت المنصف المرزوقي تنفيذًا لبنود خارطة الطّريق التي وضعها إتّحاد الشّغل بمعيّة باقي مكوّنات الرّباعي الرّاعي للحوار الوطني في تونس الذي كان إفرازًا للجهود الرّاميّة لإحتواء الأزمة السياسيّة التي دخلتها البلاد صبيحة إغتيال المعارض و عضو المجلس الوطني التأسيسي محمّد البراهمي في 25 يوليو/تمّوز 2013و التي جاءت أصلاً لتعميق أزمةً قديمة بدأت مع بلوغ المجلس التأسيسي عامه الأوّل في 23 أكتوبر/تشرين الأوّل 2012 و الذي فتح النّقاش واسعًا حول "الشّرعيّة الإنتخابيّة" حيث تقول المعارضة أنّ الإتفاق كان يقضي بأن لا تتجاوز الفترة التأسيسيّة العام واحد في حين أصرّت حركة النّهضة الإسلاميّة و شركاؤها في الترويكا الحاكمة على أنّ هذه الشّرعيّة مرتبطة بالإنتهاء من صياغة الدّستور المهمة الأساسيّة التي من أجلها أنتخب المجلس الوطني التأسيسي ,لتتعمّق الأزمة بعد ذلك أكثر بعد إغتيال المعارض و القيادي في الجّبهة الشّعبيّة شُكري في 6 فبراير/شباط 2013 .

و قد جاءت خارطة الطّريق لتفك الخناق حول العمليّة السياسيّة التي تعطّلت بسبب إنسحاب نوّاب المعارضة من المجلس التأسيسي و إصرارهم على رحيل حكومة السيّد علي لعريّض الأمر الذي جعل الشّارع التّونسي منقسمًا في حالة إستقطاب حادة ترجمتها التحرّكات الشّعبيّة الموالية و المعارضة للحكومة مما وضع البلاد على حافة وضع خطير إستلزم إقتراح المبادرة تلو الأخرى لتجنّب سيناريوهات كان من الممكن ان تذهب بالبلاد إلى مصير مجهول .

و بغضّ النّظر على الطّريقة التي غادرت بها الحكومة التي تقودها حركة النّهضة الإسلاميّة ذات المرجعيّة "الإخوانيّة" الحكم ,فإنّ السّؤال الذي يُطرح الآن و بالتّزامن هو حصاد و حصيلة هذه التّجرب التي خاضتها الحركة في الحكم بعد عقود طويلة من المعارضة التي كانت في معظمها مريرة نتيجة الملاحاقات الأمنيّة و المحاكمات و السّجون و المنافي التي عرفها جلّ قيادات الحركة .

إختلاف في التقييم :

و لئن تُصرّ حركة النّهضة على تقييم تجربتها بالنّاجحة خاصة مع الإتّفاق اليوم على تشكيل الهيئة الإنتخابيّة التي ستُشرف على إجراء الإنتخابات القادمة و مع قرب الإنتهاء من صياغة الدّستور الجديد الذي من المنتظرة ان يكون "هديّة" للشعب التّونسي في الذّكرى الثالثة الثّورة في 14 يناير/كانون الثاني من هذا العام كما صرّح رئيس المجلس الوطني التأسيسي سابقًا ,و أنّها قد حققت كل أهداف المرحلة الإنتقاليّة بضلعيها التّأسيسي و الإنتخابي ,فإنّ المعارضة ترى أنّ هذه الحكومة لم تنجح في أيّ ملف إقتصادي أو إجتماعي أو الأمني و لم تحقّق أيّ إنجاز ملموس ينعكس إيجابًا على حياة المواطن أو يستجيب لأهداف الثّورة التي كانت كلّها ذات علاقة بالتشغيل و التنمية و العدالة الإجتماعيّة .

بل و يذهب بعض الملاحظين و الخبراء الى توصيف هذه التّجربة بالفاشلة على مستويات عدّة ,فرغم ما تنشره الإحصائيات الرّسميّة حول إرتفاع نسبة النّمو و إنتعاش طفيف للسياحة مقارنة بالعام الأوّل للثّورة ,فإنّ إرتفاع الأسعار و إرتفاع نسبة التضخّم و تخفيض التصنيف الإئتماني لتونس أكثر من مرّة ,و غياب حلول ملموسة لمشاكل التّنميّة و البطالة و الإضطراب الأمني الكبير و العمليات الإرهابيّة و الإغتيالات السياسيّة و محاولات التضييق على الإعلام و تطويع القضاء و التعيينات على أساس الولاء الحزبي في مفاصل الدّولة ,و التأخير في فتخ ملف العدال الإنتقاليّة و المحاسبة ,إضافة إلى ما إعتبروه فشلاً ديبلوماسيًا لم يحسن إستثمار صورة "تونس الثّورة" و ذهب أكثر من ذلك -في نظرهم-من خلال إنتاج أزمات ديبلوماسيّة و صفوها بالمجانيّة مع كثير من البلدان مما أثّر على السّمعة الدّيبلوماسيّة التّونسيّة التي كانت تحضى بإحترام كلّ البلدان و المنظمات الإقليميّة و الدّوليّة ,و هذه كلّها المؤشّرات تجعل من التّجربة "الإخوانيّة" في تونس حسب رأيهم تجربة فاشلة .

أسباب الفشل بين الذّاتي و الموضوعي :

و حول سؤال أسباب الفشل يرى الملاحظون أنّ الأمر مرتبط بسبيبن أوّلهما ذاتي مرتبط بكفاءة القيادات "النّهضويّة" و خياراتها الإقتصاديّة و المجتمعيّة و برنامجها السّياسي ,و الثاني موضوعي مرتبط بالوضع العام للبلاد و الظّرف الدّولي و الإقليمي .

فعلى الصّعيد الأوّل يرى الملاحظون أنّ غياب التّجربة و الإفتقاد لخبر التسيير و السّلطة عند قيادات الحركة التي كانت في مجملها إمّا في السّجون او في المنافي و غياب البرنامج الإحتماعي النّاجع القاطع مع سياسة التّهميش و التفاوت الجهوي التي تعيشها المناطق الدّاخليّة مع تبنّي نفس الخيارات الإقتصاديّة التي كان يعتمدها النّظام السّابق و القرارات "اللاشعبيّة" في الميزانيّة العامة للبلاد هي أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى هذا الفشل و إلى الإحتقان الشّعبي الكبير الذي شهدته البلاد في محطّات عدّة آخرها إحتجاجات أصحاب السيّارات الفلاحيّة على "الأتاوة" الجديدة المفروضة في ميزانيّة 2014 و التي تحوّلت الى أعمال عنف كبيرة في كثير من مناطق البلاد إستهدفت مراكز أمن ومقرات لحزب حركة النّهضة الحاكم و قطع للطّرقات ,و قد كان السيّد علي لعريّض يغادر مقر قصر الحكومة بالقصبة الى قصر قرطاج لتسليم إستقالته في اللّحظة التي كانت الإحتجاجات تجتاح مناطق البلاد الدّاخليّة من تطاوين إلى القصرين .

و في ما يتعلّق بالاسباب الموضوعيّة يذهب المحلّلون إلى القول بأنّ المرحلة التي تمرّ بها تونس من ضعف للدّولة المركزيّة و تخلخل مؤسّساتها الحيويّة نتيحة التحوّل السياسي العميق الذي شهدته البلاد بعد "ثورة 14 جانفي" ,إضافة إلى الوضع الإقليمي المتأزّم و عدم إستقرار دول الجوار كليبيا و مصر و الظّرف الدّولي الذي يشهد حالة من إعادة تغيير الخرائط و الأزمة الماليّة العالميّة التي لم يشفى العالم من اعراضها بعد كلّها عوامل يقول البعض أنّ أي حزب سياسي مهما كانت كفائته لن يكون قادرًا  على تفادي تأثيراتها السّلبيّة .

وبغضّ النّظر على الإختلاف في تقييم التّجربة بين رضا النّهضة و بين إصرار معارضيها على وصفها بالفشل,فإنّ الشيء المتّفق عليه هو إرتياح الجميع لنجاح كلّ الأطراف في عبور الأزمة بأخف الأضرار و في جوّ من "التوافق الوطني" الذي سينتقل بالبلاد من خانة "الشّرعيّة الإنتخابيّة" إلى خانة "الشّرعيّة التّوافقيّة" التي عرفتها تونس من قبل في العام الأوّل للثّورة و مرت منها بنجاح كبير .