فرض الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا نفسه عالميا بفضل أعماله المترجمة في أكثر من أربعين دولة واشتهر على الخصوص بنيله جائزة كتاب السنة عام 2008 عن روايته ce que le jour doit à la nuit الممنوحة من طرف مجلة lire الفرنسية ، لكن ثلاثيته الشهيرة les hirondelles de Kaboulوles sirènes de Baghdâd و l’attentat حاقت به بعيدا في سماء العالمية.وإذا كان الروائي يبتعد كثيرا عن "سحل" النظام الجزائري لاعتبارات مختلفة يتفاوت في مقاربتها النقاد فإن إعماله ، غالبا ، ما تطرق مواضيع وإشكاليات فكرية وفلسفية كبرى من قبيل العبث والإرهاب الفكري والعلاقات الإنسانية المعقدة والتاريخ المنسي والسياسة المنفلتة من عقالها ، وكلها –أي أعماله تجعله رمزا من رموز الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية ( جيل ما بعد الاستقلال على وجه الخصوص).

في روايته l’équation Africaine * يسافر بنا محمد بومسهول ( اسمه الحقيقي بدل اشتهاره باسم زوجته) إلى أدغال إفريقيا حيث لا صوت يعلو على صوت المدافع وحيث حينما يغيب الأمن ولا يستتب تتشكل الجماعات الإرهابية لاحتراف النهب والقرصنة وسن "نظام داخل النظام" عنوانه الهامش وقوامه العنف والاختطاف ولو كان ذلك على حساب الأبرياء أو من قادتهم رحلة استكشاف مصادفة إلى أفريقيا. سائحان ألمانيان ( رجل أعمال منخرط عن اقتناع بالعمل الإنساني وطبيب بفرانكفورت) يتم اعتراض طريقهما واحتجازهما في مكان تنعدم فيه أقل الشروط في انتظار مقايضتهما لتتحول الرحلة التي خطط لها بهدف التخفيف عن النكسة النفسية للطبيب الذي فقد زوجته المنتحرة إلى مأساة بإمكانها أن تصنع أشخاصا آخرين وبطبائع أخرى وبتفكير وسلوك جديدين ...

في الرواية –كما في الرياضيات – طرفان على الأقل ، نوعان من الخطاب ، نظرتان من زوايا مختلفة : يجسد الطرف الأول زعيم جماعة القراصنة الملقب ب "جوما" والذي ينظر إلى ضحاياه نظرة دونية ومتعالية في آن ، إذ يعتبر كل أجنبي ( غربي ، أشقر ، ذو عيون زرقاء ، ذو البشرة غير السمراء ) جاسوسا ووجها جديدا للاستعمار الذي يبعث بمخبريه قصد التغلغل في المجتمعات الأفريقية تحت غطاء المساعدات الإنسانية وقصد إخضاعها والتخطيط لنهب خيراتها . يلجأ المختطف (بكسر الطاء) إلى أسلحة مادية ومعنوية قصد تدمير المختطف (بفتح الطاء) ووأد إنسانيته "المزعومة" . "جوما" لا يقهر عند مقارعة الحجة بالحجة لأنه نهل نصيبه من الثقافية المحلية والكونية ويستشهد بمقولات الفلاسفة والمفكرين ويقرض الشعر أيضا لكن حين يعوزه الخطاب الحجاجي يلجأ إلى لغة العنف والتنكيل والسحل وتكميم أفواه مخاطبيه واستمراره في احتجازهم وتجويعهم وتعريضهم لأقصى المخاطر بما فيها الموت. لا ضير في أن يموت أي كان ليستأسد الزعيم لقاء البحث عن موارد تضمن التسلح ومزيدا من الغزوات والغنائم ...

أما الطرف الثاني من المعادلة الأفريقية فيبقى ذلك الكيان الممزق والغارق في الجوع والمرض والجهل والجفاف ...وضع يسوء يوما بعد يوم ولا يحمل أية إشارة لقرب انتهاء المأساة لأن العناصر المذكية للوضعية لا تنتفي اللهم ذلك البصيص من الأمل والرضا ب"قدرية" محتومة تنتصب كثقافة تعلمت الانحناء للعواصف تعصف بمن تعصف وتحصد ما تشاء .

في انتظار الذي يأتي أو لا يأتي ، يتوقع الأهالي الأسوأ في القادم من الأيام ...وضع تتلمس فيه الأنظمة القائمة ( وهي أنظمة العسكرتاريا في الشكل الأعم) طريقها لأجل تثبيت سلطها والاستمرار في الاستفادة من المساعدات الإنسانية وحفظ الأمن في مناطق محدودة ...وضع ما بين المنزلتين ، فذات الأنظمة لا تمتلك رغبة حقيقية في استئصال الظاهرة الإرهابية لأنها تلجأ في أحايين كثيرة إلى التستر على الجماعات المنشقة لقاء اقتسام الغنائم ( لا ترى هذه الأنظمة إلى المساعدات الدولية هدفا في حد ذاته بقدر ما يهمها الاستمرار في تحكم رقاب الأهالي ودوام تدفق المساعدات) . في هذه الحمأة ، يستغل الطبيب فرصة الهروب من المخيم/ المعتقل رفقة فرنسي آخر جرب أفريقيا لعقود طويلة ليجد نفسيهما في مخيم للصليب الأحمر يربط الاتصال بقنصليات وسفارات ألمانيا وفرنسا وتلوح بذلك علامات الانفراج بعد أسابيع طويلة من الاحتجاز. رحلة دامت لأيام مديدة كلفت الهاربين انهيار جسديا لا يوصف في حين يعود رجل الأعمال في صندوقه الخشبي المصقول جثة غربلتها رصاصات الطيش واللامبالاة ....

سيعود الطبيب إلى ألمانيا ويفشل في الاندماج من جديد في حياته الخاصة والمهنية ، بل سيتحول إلى شخص آخر أثثت صوره الذهنية نظرات الأطفال الأفارقة الشاردة والجثث المترامية والأنات المتواصلة والتمسك بالحياة ( صورة أفريقي يحمل أمه العجوز ويصل بها إلى المخيم رغم تنبيه الأطباء إلى كونها حالة ميئوس منها ) ...سيعود إلى بلده جسديا ( توهم أنه سيسعد لاستعادة حياة الرفه ) لكنه ، في واقع الأمور ، بقي مسكونا بأفريقيا...بقيت خياشيمه ممتلئة بذرات الرمل اللامتناهي وبروائح الجثث النتنة ...لقد فهم أخيرا – كما يفهم الغرب دوما متأخرا- أن الإنسان في أفريقيا لا يضرب القوانين والأعراف عرض الحائط حبا في التمرد وفي العيش على الهامش وفي الاقتتال والدم والمال ، الإنسان الأفريقي ضحية لوجوده في قارة إن لم تدفع ذويها إلى تجاهل ذواتهم ونسيانها وتجاهلها والرضوخ لمصير مأساوي ( ليس حتميا بالضرورة) فإنه –أي الوجود الأفريقي- يصنع متطرفين يبحثون عن موقع قدم في ظل الفوضى المتنامية حتى لو تطلب منهم ذلك إبادة إخوانهم من أجل معزة لا يوجد تحت وبرها سوى هيكل عظمي متهرئ...

رواية ياسمينة خضرا ، وعلى النحو المعالج ، دعوة إلى عدم اختزال أفريقيا في البشرة السمراء أو في عالم السحر والشعوذة والدجل ولا في الجوع والجهل المستشريين ...إنها ثقافة يجب الخوض فيها وفهمها والتقرب منه ( لا حلول تنموية طرحت كبديل) يمثل البعد الثقافي في الرواية ديوان شعري لزعيم السفاحين Joma عثر عليه في أغراضه بعد وفاته تقول إحدى قصائده :

لدي أحلام تشبه أحلامك

أحلام ممنوعة أحفظها لنفسي

خوفا من أن تموت في الهواء الطلق

أنا مجموع جرائمك

أنا الصندوق الجنائزي لصلواتك

أنا الروح المطرودة من جسدك

أنا صنوك التوأم الذي تنفي وجوده

ما أنا إلا مرآة متآكلة

تبدو فيها صغيرا

وتمني النفس كي تبدو كبيرا ( الترجمة بتصرف من الصفحة 292 )

 

*نقلا عن هسبيريس