أصدر مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، في شهر يونيو 2014، دراسة تناول فيها بالتحليل التحديات الأمنية التي يواجهها إقليم فزان في الجنوب الليبي، كما حاولت الباحثة فاليري ستوكر إبراز المخاطر التي تحيط بهذه المنطقة الحدودية على خلفية الجريمة والتهريب و"الجماعات الجهادية".

وبينت الباحثة أن سقوط نظام القذافي في سنة 2011 فتح المجال لصعود جماعات مسلحة عديدة تتنافس على الأرض والسلطة، وبعد أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الثورة، يهدد عدم الاستقرار ليس فقط المسار الانتقالي الديمقراطي، ولكن أيضا الأمن في منطقة شمال إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي، وتبقى طرابلس في قلب الصراع على السلطة بين مختلف الفصائل السياسية، أما بنغازي فهي ساحة للعنف السياسي، الذي يهدد الآن بوقوع البلاد في حرب أهلية، وهناك أيضا إقليم فزان في جنوب غرب ليبيا، أين تتصاعد عمليات الاتجار بالبشر والتهريب وينتشر "الجهاديون".

ولم تقم الحكومة الليبية بالتعامل بشكل مناسب مع أي من هذه المشاكل، حيث قوضت المواجهات السياسية عمل المؤتمر الوطني العام وشلت السلطة التنفيذية، ونظرا لعجزها عن فرض احتكار القوة، تركت الحكومة مهمة توفير النظام والقانون للقوات شبه الحكومية، وهو ما أبطل فعالية الجهود المبذولة لنزع سلاح الثوار السابقين، كما تفاقم الإحباط العام  جراء بطء الإصلاح وبناء الدولة، الذي تفاقم نظرا لتزايد الفساد وتآكل القيادة الوطنية.

وبينت الباحثة أن إقليم فزان يعتبر حاليا نقطة محورية في النقاشات حول استقرار ليبيا والمنطقة على نطاق أوسع، فمن وجهة نظر أمنية، يمثل النقص في مراقبة الحدود المشكل الرئيسي، وتشير الأبحاث الميدانية إلى أنه من بين أسباب عدم الاستقرار، ضعف البنية التحتية السياسية والاقتصادية، ويتمثل التحدي الأكبر في التعامل مع مطالب الأقليات بطريقة تخفف التوتر بين الجماعات العرقية والقبلية.

تعريف الإقليم

إقليم فزان هو أحد الأقاليم الثلاثة التي شكلت ليبيا بعد استقلالها الرسمي سنة 1951، وتم بعدها تقسيمها إلى وحدات إدارية أصغر ذات صلاحيات محدودة، وبسبب تموقعه في الصحراء، يشكل موقع فزان مصدر تحديات كبيرة، ويمثل عدد سكان الإقليم أقل من 10 بالمائة من مجمل سكان ليبيا – 6 ملايين نسمة – وهم مصنفون بين عرب وطوراق وتبو.

وفيما يتميز الطوارق والتبو بهوية جماعية قوية، ينتشر العرب بين القبائل، أما السكان الذين لا ينتمون إلى هذه الجماعات فتتم مناداتهم بـ"الفزانة" أو الأهالي.

وفي الوقت الذي يحافظ فيه البعض من سكان الإقليم على نمط حياة بدوي، يعيش أغلبهم في عاصمة الجنوب سبها أو في الواحات الصحراوية، ويعتمدون في عيشهم على الزراعة، إضافة إلى الرواتب الحكومية، أما الثروة الطبيعية من النفط والغاز التي تحتوي عليها المنطقة، فلم تنفع كثيرا السكان المحليين، حيث يبقى مستوى العيش متدنيا، وهو ما جعل التجارة غير الشرعية والتهريب النشاطات الأكثر ربحية في فزان.

على هامش الدولة

وبينت الدراسة أن تحديات بناء الدولة في ليبيا تظهر بوضوح في فزان، أين لم تنجح الدولة الحديثة في الحصول على موطئ قدم، فلعدة عقود، اعتمد الحكام على تعاون القبائل الحدودية من أجل ضمان سيطرتهم، ومثل سقوط نظام القذافي إخلالا بالنظام السائد، حيث قامت الجماعات الثورية، بما في ذلك تلك التي تنحدر من شمال ليبيا بالسيطرة على أراضي جديدة، معززة بذلك مكانة جماعاتها ومجبرة الموالين للقذافي على اتخاذ موقف دفاعي.

وتعني السيطرة على الحدود التحكم في التهريب وجمع الرسوم الجمركية، فيما توفر حماية المنشآت النفطية بالنيابة عن المؤسسة الوطنية للنفط وشركائها الأجانب، عقودا مربحة وقدرة على التأثير على الحكومة الليبية.

ورغم تمثيل أكبر منذ 2011 على المستوى المركزي، إلا أن المواطنين في فزان يتقاسمون شعورا قويا بالتهميش، وهم يعتقدون أن صانعي القرار لا يهتمون بآرائهم ولا يرغبون في منح فزان حصة كافية من ثروات البلاد.

حدود مفتوحة

وذكرت الدراسة أن ضعف مراقبة الحدود خلق مشاكل متعددة على المستوى المحلي والإقليمي والوطني، وفي ظل عدم تمكن الدولة لفرض سيادة القانون، وصلت الجريمة إلى مستويات مرتفعة وانتعشت السوق السوداء.

وتنتشر الجريمة بطريقة كبيرة في فزان، وخاصة منطقة سبها، حيث تسبب التشرد والهجرة غير الشرعية في مظالم حقيقية، ويعتمد السكان على لجان الحي لمنع عمليات السرقة والنهب.

من جهة أخرى، يحتوي إقليم فزان على ثلاثة معابر حدودية فقط، فيما تمتد الحدود على 2000 كيلومتر، مما يسهل تنقل الناس والبضائع المهربة دون قيود، وتتدفق الشاحنات المحملة بالتجهيزات والسجائر وبضائع أخرى يوميا، قادمة من التشاد والنيجر عبر الطرقات الرئيسية، ورغم أن ذلك ضد القوانين التجارية، إلا أنه يتم السماح به بصفة عامة.

يذكر أن ليبيا تقع في مفترق طرق طريقين رئيسيين للمخدرات، حيث يأتي الكوكايين من أمريكا اللاتينية والهيروين الأفغاني، عبر الحدود الجنوبية في طريقها إلى أوروبا.

جماعات "جهادية"

وأثار تدفق المقاتلين والأسلحة من مالي مخاوف أن يصبح فزان رابطا أساسيا لانتشار الجهاديين الإسلاميين، والمخاوف تتعلق أساسا بعودة العناصر الراديكالية إلى فزان للقيام بعمليات إرهابية ضد أهداف غربية، ويعرف السكان المحليون بوجود هؤلاء الجهاديين، بما في ذلك عناصر من" تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي" ومختار بلمختار، الذي أعلن مسؤوليته عن الهجوم على منشأة الغاز جنوب الجزائر، وقد أكد عمدة بلدة الغات الجنوبية، عبد القادر ماجي، وصول مقاتلين ليبيين وأجانب إلى الغات في 2013 ودخول الأسلحة بصفة كبيرة.

ولكن لا يعتقد السكان المحليون أن المنطقة تمثل أرضية خصبة لـ"الراديكاليين" وينفون وجود مخيمات تدريب وقواعد عمليات، وبالنسبة للكثير منهم، الخطر الأكبر يأتي من الشمال. ويعتبر التبو أن "الراديكاليين" من برقة يمثلون خطرا وقد ينشرون نفوذهم للسيطرة على الحدود والتواصل مع "الجهاديين" في الساحل.

إطار أمني

ولجأت الحكومة الانتقالية إلى الجماعات المسلحة المختلفة لتوفير الأمن، في ظل عدم وجود جيش فعال بعد سقوط النظام السابق، ولكن هذه الجماعات التي تعمل تحت إشراف وزارتي الدفاع والداخلية، ترجع بالنظر في الحقيقة إلى قياداتها وهي تعمل باستقلالية، ومن أكبر هذه الجماعات "درع ليبيا"، المتواجدة أيضا في إقليم فزان، حيث تم إرسالها في الأول من برقة إلى الكفرة من أجل تهدئة القتال الذي اندلع هناك، وأصبح "درع ليبيا" الوسيلة لنشر قوات أكثر تنظيما في الجنوب من المدن الشمالية مثل الزنتان ومصراتة.

وتتمثل خطة الحكومة في ضم الثوار إلى الجيش الوطني والشرطة، وحل الكتائب المسلحة، ولكن عملية إصلاح القطاع الأمني كانت بطيئة وقاوم العديد من الثوار نزع الأسلحة، وعلى المستوى الرسمي، يتحكم الجيش الجديد في 12 لواء مسلحا في فزان، ولكن هذه الألوية لا تشكل هيكلا متناسقا، فالبعض منها يتألف من ثوار سابقين، والبعض الآخر يعود إلى عهد القذافي، ويبقى بضعة آلاف من شرطة الحدود تحت سلطة وزارتي الدفاع والداخلية، أما على الأرض، فما يزال الثوار يتحكمون في الحدود.

ولايات مشوشة

ويمثل تعدد القوى في ليبيا واختلاف هياكل القيادة والمستويات المتنوعة من السلطة تشويشا على تنسيق العمليات، وبصفة عامة تفشل العمليات لان سلسلة القيادة ضعيفة ومختلف القوى لا تتواصل مع بعضها البعض، وقد أعلن المؤتمر الوطني العام في سنة 2012 منطقة الجنوب منطقة عسكرية، في محاولة لتقويض القوى المحلية، ونظرا لأنه يتم تغيير الحكام العسكريين هناك بطريقة متواصلة وليس لديهم دور فعال، إلا أن هذا الإجراء لم يكن له تأثير يذكر.

كما أن ضعف التجهيزات وغيرها جعل من عناصر الشرطة غير قادرين على فرض القانون والنظام في سبها، كما في مدينة أوباري، التي تمثل نقطة تمركز للعصابات المسلحة و"الإسلاميين الراديكاليين".

حكام عاجزون

وأشارت الدراسة إلى أن الوضع المتناقض في فزان يعد نتيجة للتفكك الاجتماعي والمصالح المتضاربة ورفض المقاتلين للسلطة الحكومية والقبلية، فمقابل التناسق الداخلي القوي داخل كل كتيبة مسلحة، هناك تنسيق ضعيف بين مختلف الكتائب، فكل قائد يؤكد أنه يسيطر على المنطقة الحدودية التي يتحكم فيها، ولكن ليست لديه أدنى فكرة عما يجري في المناطق الأخرى، ويقول الثوار إن الحكومة فشلت في مساعدتهم على القيام بواجبهم ولا يرون أنهم جزء من المشكل.

وتبين الدراسة أن قادة المجتمع في فزان مسؤولون عن الوضع هناك ، لأن تجنيد المقاتلين لم يتوقف بعد الاطاحة بالنظام ، ولكن تكثف مع اندلاع الصراعات المحلية.

عقدة الحدود

وأبرزت الدراسة أن المخاوف من الإقصاء الاجتماعي والسياسي متغلغلة هناك، خاصة بين الأقليات التي تشعر أن القبائل العربية تهيمن على سبها ، كما القادة من الشمال الذين يملكون علاقات مع طرابلس، كما أن العنصرية المنتشرة والنظرة السلبية للجماعات الجنوبية لا تساعد على تجاهل هذه المخاوف.

واعتبرت الدراسة أن هذا الشعور بالتهميش يعد جزءا من ماضي ليبيا وحاضرها، فهناك انفصال بين القوة العسكرية للمناطق الجنوبية وضعفها السياسي بسبب انخفاض الكثافة السكانية و"التخلف" المؤسساتي، ورغم ذلك فان كل الدوائر الانتخابية ممثلة على المستوى الوطني، ولكن يندد البعض في فزان بأن عمليات التطهير "غير العادلة" بعد الثورة سحبت المنطقة الى الوراء.

وأشارت الدراسة إلى أن حقوق الأقليات والمواطنة هما مسألتان خلافيتان يجب أن يتم طرحهما في الدستور الجديد، فالأمازيغ والطوارق والتبو يريدون أن تتم حماية ثقافاتهم ولغاتهم في ليبيا الجديدة، فتحت حكم القذافي، لم يتم منح العديد من سكان الجنوب، خاصة الطوارق والتبو، المواطنة الليبية، كما هناك مخاوف من ضمان هذا الحق، ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويسمح للاعبين المحليين جلب أقاربهم من التشاد والنيجر والجزائر من أجل تغيير ميزان القوى.

ويسعى بعض الناشطين حاليا من فزان الى الحصول على الحكم الذاتي الإقليمي، وقد أثارت فكرة التحالف بين التبو والطوارق مخاوف الشمال من أن ينفصل الجنوب، فالأحداث في برقة، تهدد الوحدة الليبية، ولكن ليس من المحتمل أن يعاد سيناريو برقة في فزان، أين هناك انقسامات محلية كبيرة، حسب الدراسة، إضافة إلى أنه ليس من مصلحة فزان أن تقوم بذلك نظرا لتبعيتها الاقتصادية والسياسية.

دعم غربي

وذكرت الدراسة أن الشركاء الدوليين لليبيا يقدمون الدعم عبر بعثة مساعدة عبر الحدود وتدريب عناصر الجيش في الخارج، ويجب أن يرافق هذا ضغط أكبر على السلطات المركزية من أجل القيام بإصلاحات دون تأجيل، فالإرهاب والتهريب هما قضيتان تتطلبان تعاونا إقليميا ومساعدة تقنية.

أما المشاكل الاجتماعية، فلا يمكن حلها سوى عبر حوار ليبي داخلي والتزام واضح من لدن كل الأطراف، وأضافت الدراسة عدة إجراءات يمكن للقادة الليبيين والمجتمع الدولي أن يتبنوها من أجل استقرار ليبيا :

-       على السلطات الوطنية الليبية أن توطد علاقاتها مع اللاعبين على الأرض، ويجب أن تتم استشارة القادة في الجنوب بخصوص الحكم والأمن في منطقتهم، في الوقت نفسه، يجب على القادة المحليين أن يظهروا التزاما أكبر بالسلام والأمن، ويجب التعامل مع مخاوف الإقصاء لأنها تدعم عدم الاستقرار.

-       على القيادة السياسية الليبية أن تجعل من استكمال مسار الانتخابات المحلية أولوية، لأنها تساهم في إنتاج هياكل محلية تمثيلية يمكن للدولة والشركاء الدوليين أن يتعاملوا معها.

-       يجب على رئاسة الأركان الليبية أن تجعل من تدريب قواتها المختلطة أولوية و ألا تكون لها أية توجه سياسي، لذلك أي قوة استجابة سريعة ومحايدة مطلوبة بشدة من أجل تهدئة الصراعات المحلية.

-       على اللاعبين الدوليين والسلطات الليبية أن تواصل دعمها لمبادرة الحوار الوطنية، وهو وسيلة هامة للتعامل مع أسباب الصراع ويمكن أن يمثل فرصة للمفاوضات حول قضايا خاصة.

-       يجب على المفاوضات أن تجمع ليس فقط أعيان القبائل ولكن أيضا قادة الكتائب المسلحة.

-       يجب أن يتم اخذ مبادرات المجتمع المدني للتعامل مع الانقسامات الاجتماعية بجدية، وأن تشرف عليها الحكومة الليبية، كما يجب أن يتم تفعيل التنوع الثقافي للبلاد كخطوة ايجابية في الإعلام والمدارس، وعلى الشركاء الدوليين الذين يساعدون المجتمع المدني الليبي أن يقوموا بجهد أكبر من أجل تنسيق برامج الدعم.

-       على الحكومة الليبية أن تبحث خططا للتنمية الحضرية، تكون بديلا للتهريب، على المدى الطويل، كما سيمكن الاستثمار في القطاع الخاص من تقليص تبعية فزان للدولة.