عندما نفكر بالواقع الليبي الحالي، وما هو عليه من إشكالية فاجعية تنذر بأبشع العواقب، فإننا نفكر بالمقابل بما يجب فعله من أجل خلاص أو رسم طريق للسلوك يأخذ إلى واقع مختلف، وفي حقيقة الأمر، فإن الوضع في ليبيا، وهو الأصعب حالا، يشعرنا بأن أزمات ليبيا لا تتوقف وأنها مأخوذة إلى المزيد من التدمير وربما إلى الأصعب وهو التقاسم أو التقسيم... لقد دخلت ليبيا في معترك الانقسام الفعلي من خلال تجديد رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية "عبد الحميد الدبيبة"، رفضه تسليم السلطة إلا لحكومة تكلف من برلمان جديد يأتي عبر الانتخابات، معتبرا أن الحكومة المكلفة من مجلس نواب طبرق "ولدت ميتة"، جاء ذلك في كلمة له الثلاثاء 19/04/2022 خلال الاجتماع العادي الخامس لمجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية للعام 2022. الثابت اليوم أن على أرض ليبيا تتنافس حكومة شكلها وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا ووافق عليها مجلس النواب في الشرق، مع الحكومة الحالية في طرابلس التي ولدت من اتفاقيات سياسية برعاية الأمم المتحدة ويقودها ''الدبيبة'' الذي يرفض التنازل عن السلطة، الأمر الذي يجعل المشهد الليبي يدخل في نفق مظلم، ويبدو لي أن الانقسام السياسي في ليبيا أصبح أمرا واقعا على صعيد غرب ليبيا وشرق ليبيا مع وجود العمق القبلي الكبير في ليبيا. ومن هنا فإن هاجس التقسيم في ليبيا أصبح أكثر وضوحا.

لقد تتبعت كل الردود من الداخل الليبي المتمثل بحكومة "الدبيبة"، المدعومة من النظام التركي والخارج الذي تمثله دول كانت السبب الرئيسي فيما وصلت إليه ليبيا من مآسي... كلمتان فقط تتلخص بينهما كل القضية، وكل الإجابات حول: لماذا تستحكم العقد وتستعصي، ولماذا يبدو مستقبل ليبيا اليوم أكثر قتامة وسواداً؟ وإذا ما أردنا أن نكون أكثر جرأة في التوصيف، علينا أن نرمي كل الأسئلة التقليدية المعتادة من نوعية الأسئلة السابق ذكرها وما شابهها، لأنها - في هذه المرحلة - أسئلة ساذجة، وإذا ما استمر البعض في طرحها فهذا يكون إما مقصوداً بهدف التعمية وحرف الأنظار عن الأسباب (الدول والأطراف) التي تقف وراء تحول ليبيا إلى معضلة غير قابلة للحل… وإما أن البعض مازال يرفض رؤية الأمور على حقيقتها… وإما عجزاً وخجلاً لأنه بحكم موقعه هو في الواجهة، وهو من يتعرض للمساءلة باعتباره المُكلف باسم المجتمع الدولي بالحل والربط ونقصد هنا الأمم المتحدة وبعثتها في ليبيا، وهي في موقع لا تحسد عليه، فالجميع يقول بتأييده لها ولجهودها وقراراتها، ولكنه قول من دون فعل.  إذا ما أردنا أن نكون أكثر جرأةً في التوصيف، يمكننا القول إن مستقبل ليبيا اليوم هو الأكثر وضوحاً لناحية تحولها إلى دولة تتناهبها قوى خارجية ولا سميا أمريكا وتركيا والكثير من الدول الأوروبية والتي لا يعنيها استقرار ليبيا، إذا هي لم تحقق المكاسب التي خططت وتخطط لها، علماً أن أغلب هذه المكاسب مُتحققة، وعلى رأسها النفط الذي يتدفق إلى الدول المعنية كما تحب وتشتهي.

الثابت اليوم، أنّه منذ بداية آذار (مارس) أصبح في ليبيا حكومتان متنافستان، كما كان الوضع بين 2014 و2021. وما أشبه الأمس باليوم، فمنذ التدمير المذهل الذي سببه حلف "ناتو" في الـ2011 عانت ليبيا من أجل بلوغ وضع سياسي وأمني مستقر ومتوازن، وفي عام 2015 أسفرت وساطة الأمم المتحدة عن تشكيل ما يسمى "حكومة الوفاق الوطني" ومقرها طرابلس التي كان يفترض أن تسعى لسد الفجوات بين الأطراف الأخرى داخل ليبيا، لكنها فشلت في اكتساب الشرعية في الداخل، فانقسمت السلطة السياسية بين حكومتين، أحدهما في طرابلس، والأخرى في طبرق، الأمر الذي أعطى الفرصة لمجموعة من الجهات الفاعلة بما في ذلك الجماعات المسلحة والقبائل للتنافس على السلطتين المحلية والإقليمية، وقد ساهم ضعف المؤسسات المركزية والتحركات المحلية في تعزيز قدرة هذه المجموعات على دخول المنافسة رغم فاعلية بعض عناصر الاقتصاد والحكم.

للأسف المأسوف على شبابه، ليبيا محيرة للعقول، لمن لم يقرأ بعد كيف ارتهن مصيرها لمواصفات أن تظل لا دولة برعاية دولية، لكي تبقى منهوبة مسروقة والكل يأكل من هذه الجبنة الطيبة على طريقته، ويتعاطى مع الواقع الليبي كأنه يجب أن يبقى على تلك الحال طالما أن الجميع مقتنع ومتفاهم دون أن يتفاهم على تحقيق مساواة في تلك السرقات والاستباحات الرهيبة. ما يؤكد ما نرمي إليه هو الخلاف الشديد والمستعصي على الحل بين أطراف النزاع ولا سيما الأطراف الرئيسية، والأطراف التي تقف خلف كل منهما. لقد اختلطت الأوراق السياسية في الساحة الليبية، وبات كل طرف من الأطراف المتنازعة يضفي الشرعية على نفسه بدعوى أنه يمثل الشعب الليبي ويدافع من أجل مصالحه، ويتهم الطرف الآخر بالخروج عن القانون والمصلحة العامة لهذا الشعب المنتهكة سيادته وحريته وقراره، والأنكى من كل ذلك أن كل طرف من الأطراف المتنازعة لا يجد غضاضة في إشهار وإعلان الجهات الخارجية الداعمة له، وإذا لم يفعل فإن مسار الأحداث والتصريحات الصادرة عن هذه الجهات تفصح عن نفسها. والسؤال الذي يفصح عن نفسه وسط كل هذا الضجيج والصراع والانقسام السياسي: لمصلحة من ما يحدث في ليبيا؟ بكل تأكيد إن ما يحصل في ليبيا ليس في مصلحة الشعب العربي الليبي، إنما هو في مصلحة أعدائه والطامعين في ثرواته والراغبين في تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة تسهل السيطرة عليها وتقسيمها واقتسامها، وإذا لم يتحقق ذلك فلا بأس في إدارة الأزمة والانقسام فيها لسنوات طويلة قادمة.

الأكيد اليوم، أنّ أيام الاضطرابات... بانتظار العاصمة الليبية طرابلس... فلا "حكومة" الدبيبة في وارد تسليم السلطة، ولا "حكومة" باشاغا في وارد التراجع... هذا ما يبدو حتى الآن، إلا إذا استجد ما ليس في التوقعات والتسريبات، ففي الصراع السياسي الليبي، يكون لكل يوم مساره ونظامه وأحياناً بما يتناقض كلياً مع اليوم الذي قبله، وبما يخالف حتى أكثر التوقعات دقة... وهذا ينطبق حتى على التصريحات والإعلانات الرسمية... في ليبيا المعادلة الأساسية هي خلف الكواليس، وهذه المعادلة هي بطرفين متعادلين تقريباً وبما يجعل الحسم السياسي شبه مستحيل، لتبقى ليبيا مقبلة على الاضطرابات... وهذا يؤكده الاستنفار الأمني والانتشار المسلح بالعاصمة طرابلس، ولتبقى دولة ليبيا برأسين: حكومتين وجيشين. ليبيا اليوم أصبحت أسيرة موضوع النهايات التي وصلت إليها من تمزيق داخلي وانقسام سياسي... 

ظاهرياً، يبدو "باشاغا" في حالة انتظار، يرابط في موقعه، يناور... في المقابل، خصمه "الدبيبة" يبدو أكثر صلابةً بعدما سجل "قفزة إلى الأمام". وفي كل الأحوال لا "انتظار" باشاغا يعني هزيمةً، ولا "قفزة" الدبيبة تعني انتصاراً، وإنما الأطراف الخارجية الأصيلة في الصراع الليبي هي مَنْ يدير حالة "الانتظار" و"الحل" وسيبقى الحال كذلك مادامت لم تتفق بعد على الحصص من المكاسب والمغانم. وعليه، فهناك توافق غير مُعلن على بقاء الوضع على حاله، لا منتصر ولا مهزوم... أما ما نراه بين الحين والآخر من تحركات ومبادرات أممية ودولية بزعم "العمل على عدم التصعيد"، فما هو إلا من باب الخداع والتضليل والقول "إننا نتحرك، ونعمل، ولا نوفر باباً إلا ونطرقه، ولكن ليس في الإمكان أفضل مما كان"؟! وللأسف، هذه المزاعم ما زالت تجد مَنْ يصدقها، أو مَنْ يجد له مصلحة فيها، وفي تقديرنا فالحل السياسي، لن يأتي حتى يأذن "الخارجيون" ويتقاسم "الداعمون" المصالح والغنائم... عندها فقط سيأذنون، ولكن لطرف واحد فقط، قد يكون باشاغا، وقد يكون الدبيبة... ولا عجب، ففي ميزان "الخارج" لا فرق بينهما إلا بمن يخدم... ويطيع أكثر. وفي كل الأحوال، نعتقد أن حالة الانقسام السياسي الجديد الذي دخلته ليبيا سيشهد الكثير من التطورات... تصعيداً طبعاً وليس تهدئة نظراً لغياب إرادة سياسية ووجود فوضى وخلط أوراق وحالة استقطاب قصوى... إن ليبيا اليوم هي في حالة اختبار وتجريب، غير أنّ فكرة الدّولة تتطلّب وجود حكومة قوية وعادلة وضامنة، والتوافق من دون وجود أرضية صلبة وحكومة ضامنة هو عامل مساعد على حرب أهلية.