تتجاوز الخلافات الفرنسية الإيطالية حول الملف الليبي مجرد التباين في وجهات النظر بين الطرفين، بل تجسد تاريخا ملتهبا من الصراع على النفوذ بالبلد النفطي، بين طرف يرى نفسه الأقرب لإدارة الملف بحكم قربه من السواحل الليبية، وماضيه الاستعماري، إضافة إلى معضلة الهجرة غير الشرعية التي تثقل كاهله، وطرف يعول على علاقاته التاريخية مع بعض الأطراف الليبية، خصوصا جنوبي البلاد في منطقة التماس مع نفوذه في النيجر ومالي اللتين تخوض فيهما حربا مع تنظيمات إرهابية في الصحراء الكبرى.
في بيان نشرته قبل أشهر، قالت البعثة الأممية في ليبيا، إن مجلس الأمن الدولي، تبنى الرؤية الفرنسية لحل الأزمة الليبية، وأكد على مخرجات مؤتمر باريس، وعلى رأسها إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 10 ديسمبر/ كانون أول 2018، حيث جمع المؤتمر الذي عقد في 29 مايو الماضي للمرة الأولى الفرقاء الليبيين الأربعة الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي والعسكري، وحاول من خلاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تسجيل هدف بشباك روما تحت عنوان كسر الجمود بوضع خارطة طريق لإنهاء الانقسام السياسي في ليبيا.
وفي طرابلس اجتمع خلال فترات سابقة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية فائز السراج في لقاء تخلله تأكيد الأخير على "ضرورة التزام الأطراف الأخرى (في إشارة إلى مجلس النواب والمشير خليفة حفتر) بالاستحقاق الانتخابي وإعداد الإطار الدستوري لإجرائها في الموعد المقرر".
لقاءات ومحادثات يرى مراقبون أنها ترمي باريس من ورائها إلى دعم حضورها القوي ومصالحها في الجنوب الليبي، وتحديدا بإقليم "فزان" الذي تعتبره "إرثها التاريخي" الذي احتلته من 1943 حتى استقلال ليبيا في 1951. وتعتمد باريس في مسارها على تحركات تؤمنها سفارتها بليبيا (يوجد مقرها في تونس مؤقتا)، أو عبر قوى وقبائل تتمتع بدعم كامل من الإليزيه لكنها ترنو في الآن نفسه إلى مد نفوذها شمالا نحو الغرب والشرق وهذا ما يثير حفيظة روما.
حراك باريس المنفرد أجج الصراع الإيطالي الفرنسي بليبيا، وأثار غضب روما التي تعتبر نفسها اللاعب المحوري بالملف ودفعها لإبداء انزعاجها ورفضها التام لمؤتمر باريس. كما انتقد مسؤولوها غياب بلادهم عن المشهد، وهي "عراب" الجهود الدبلوماسية في ليبيا وقررت عكس الهجوم ضد باريس.
وكان رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبه كونته، قد أعلن في وقت سابق، معارضته تنظيم انتخابات بليبيا وفق الجدول الزمني المحدد بمؤتمر باريس. وقبل ذلك وتحديدا في 12 يوليو/ تموز الجاري، أعلن كونته أن حكومته ستنظم مؤتمرا دوليا حول ليبيا في"الخريف القادم". ضربة أرادت من خلالها روما قطع الطريق على باريس، وهي التي لطالما أبدت امتعاضها ومعارضتها للمبادرة الفرنسية حتى قبل انعقادها.
ويرى مراقبون أن أكثر ما تخشاه إيطاليا هو ضرب فرنسا لمصالحها ولسياستها في ليبيا والقائمة بشكل أساسي على دعم السراج والحفاظ على موقف دولي موحد بشأن التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة. ولذلك، سارعت بدورها إلى تنشيط دبلوماسيتها وتحريك زيارات مسؤوليها إلى البلد الإفريقي حيث وصلت وزيرة دفاعها إليزابيتا ترينتا، الثلاثاء، إلى ليبيا قادمة من تونس في زيارة رسمية لـ"بحث قضايا الهجرة والإرهاب والتعاون الدفاعي".
وبحسب صحيفة "الجورنال" الإيطالية، فقد حذرت إليزابيتا ترينتا، السلطات الفرنسية من تدخلها في الشأن الليبي مؤكدة أن بلادها هي الدولة القادرة على قيادة الدولة الليبية وأن القيادة بيد "إيطاليا" فيما يتعلق بالحالة الليبية. وقالت الصحيفة إن الوزيرة الإيطالية قالت لنظيرتها الفرنسية، فلورنس بارلي، على هامش الاجتماع الوزاري بمقر الناتو في بروكسل في شهر يوليو: "لنكن واضحين .. القيادة في ليبيا لنا".
وكانت الصحيفة قالت في تقرير سابق لها، أن ماكرون يسعى إلى الاستحواذ على ثروات الطاقة في المستعمرة الإيطالية السابقة مستغلا الفوضى الليبية والفراغ السياسي الانتقالي الحالي في روما. وبحسب صحيفة "لاستامبا" الإيطالية فإن مباراة حامية تجرى بين روما وباريس، وأن هذه الأخيرة أطلقت العنان للقائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر، لبسط سيطرته على البلاد وممارسة أكبر قدر من الضغوط على حكومة فائز السراج في طرابلس. وفي سياق متصل، نشرت منصة الاستخبارات الجغرافية السياسية الأمريكية، تقريرا عن تنافس إيطاليا وفرنسا على العمل، ووجهة نظر كل منهما حول مجريات التطورات ومستقبل البلاد.
هناك الكثير مما تتفق عليه فرنسا وإيطاليا عندما يتعلق الأمر بليبيا، فكلاهما يريدان تحقيق الاستقرار في البلاد حتى لا تصبح ملاذا للإرهاب أو ساحة للمهاجرين الأفارقة، وكلاهما يرغب في منع حكومتيه المتناحرتين من محاربة آلاخر. ولكن مع كل محولاتهم المختلفة، لا يمكن للبلدين الوصول إلى نفس الرأي بالخصوص ليبيا.
باريس وروما لديهما رأيان مختلفان حول ما يجب أن يحدث في ليبيا. بعد جمع أبرز اللاعبين الليبيين في مؤتمر في شهر مايو، أقنعت باريس الفصائل المختلفة بإجراء انتخابات في 10 ديسمبر. بالمقابل لا ترغب روما في إجراء أي انتخابات هذا العام وتخطط لعقد مؤتمرها الخاص حول مستقبل ليبيا في أكتوبر. وينبع الاختلاف جزئياً من الأهداف والاهتمامات المختلفة للدول في ليبيا، وطالما أن باريس وروما تقدمان طرقا بديلة للوساطة في صراع شمال أفريقيا، فإن إحتمالات النجاح تبدو قاتمة.
ويذهب متابعون أن باريس و روما تلعبان دوراً رئيسياً في دفع ليبيا نحو الانتخابات، ولكن بسبب الطموحات الجيوسياسية لكل منهما، من المرجح أن تظل السياسة الأوروبية الشاملة منقسمة، حيث ستواصل فرنسا تقديم دعمها لحفتر والحث على إجراء انتخابات في وقت لاحق من هذا العام، لكن مع استمرار إيطاليا في دعم حلفائها في غرب ليبيا الأمر الذي بؤكد حجم التباين حول هذا الملف المعقد.