تعيش تونس على وقع أزمة خانقة طالت كل المجالات وتسببت في شلل شبه تام لدولة يهددها الإفلاس الثلاثي، ساسيا واجتماعيا واقتصاديا، حيث عجز النظام السياسي، الذي يمثل دفة قيادة كل القطاعات، في لملة شمله وضمان استقرار مؤسساته على امتداد عقد كامل من الزمن منذ 2011، فرغم "محافل الديموقراطية" التي عاشتها البلاد التونسية إلا أن الوضع الحالي اتخذ مسار الهبوط العمودي الحاد.

مثل الإنفجار المفاجيء للحركات الحزبية في تونس، ظهور تيارات فكرية عديدة ومختلفة، فبحسب آخر بيان لوزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني التونسية فقد بلغ عدد الأحزاب بتونس 224 حزبا، هذا الزخم الحزبي الذي" فاق الضرورة" حسب مايراه المحللون، تسبب في تشتت كبير للمشهد السياسي بالبلاد رغم بروز بعض الأحزاب الكبيرة.

وقد دخلت معظم الأحزاب في تنازع سياسي ألقى بضلاله على مؤسسات الدولة بدءا بالحكومات المتعاقبة في "فشل ذريع متتال" وصولا إلى مختلف الوزرات التي تؤثر بدورها على مؤسساساتها، مرورا بالبرلمان التونسي الذي بات مسرحا "للحظات تارخية من الصدامات بين الكتل و ممثليها".

وصلت النزاعات تحت قبة البرلمان التونسي حد تبادل العنف والشتائم في صور وفيديوهات تبادلها العالم أجمع على نطاق واسع وسال حبر كثير في مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية في استهجان واستنكار كبيرين لمآل" الديموقراطية" في بلد الحوار والديموقراطية.

 وقد شهد المجلس مشادات كلامية حادة بين النواب بلغت حد الإعتداء والتعنيف على غرار ماقام به نائب إئتلاف الكرامة مع رئيسة الحزب الدستوري الحر، كما وصل الأمر حد الإعتصام بالقاعة العامة للبرلمان. وقد توقفت جلسات البرلمان في عدة مناسبات ما عرقل نشاطه إضافة إلى الدعوات المتواصلة لسحب الثقة من رئيس البرلمان من قبل بعض النواب بلغت حد إمضاء عريضة أولى لم يتم التصويت عليه، فيما أعلنت رئيسة الحزب الدستوري الحر عن إمضاء عريضة ثانية الأسبوع الماضي. وهو ما أجج السخط الشعبي الذي بات ينادي" بإسقاط البرلمان ! ".

ويسبب غياب محكمة دستورية بالبلاد التونسية أيضا،نقطة الضعف الأبرز في المشهد السياسي والدستوري بالبلاد حيث يتم تأويل النصوص حسب المصالح الشخصية والولاءات السياسية، فهذا الغياب الدستوري أظهر عمق الخلل في القانون التونسي.

أجرت الحكومة ،رقم 14، والتي يبدو أداءها ضعيفا حسب المراقبين و المحللين، تحويرا وزاريا شمل ثلثي وزارتها مامثل من جديد أزمة كبيرة في أحد أعلى أهرام السلطة بالبلاد التونسية في فشل جديد تكرر كثيرا بعد ثورة 2011، حيث تشكّلت 14 حكومة آخرها حكومة هشام المشيشي التي أجرت تعديلا شبه شامل لوزرائها قبل انقضاء مدة المئة يوم وهوما يبرز جليا عمق الأزمة السياسية بالبلاد التونسية.

 ورغم مرور أسبوع على نيل التعديل الوزاري الذي أجراه رئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي، ثقة البرلمان  فإن أزمة التعديل الوزاري في تونس مازالت متعلقة برئيس الجمهورية الذي يرفض المصادقة على هذه الحكومة !

وقد كشفت مصادر إعلامية عديدة أن "الرئيس التونسي قيس سعيد مصر على موقفه الرافض لأتقبال الوزراء الجدد الذين تلاحقهم شبهات فساد من منطلق ثقته في أن هذا الموقف يحمي الدستور، ويُعلي دولة القانون، ويقطع مع سياسة التطبيع مع الفساد".  هذه الأزمة السياسية الخانقة التي تعصف بأعلى سُلط البلاد ألقت بضلالها الثقيلة على الشارع التونسي الذي يعيش وضعا إقتصاديا و اجتماعيا "مأساويا".

في المقابل يواجه الاقتصاد التونسي على غرار باقي المجالات أحلك فتراته منذ 14 يناير 2011، حيث يشهد منذ ذلك الحين هبوطا حادا أصبح اليوم انحدارا مستقيما مباشرا "نحو الإفلاس"حسب الخبراء والمحللين الإقتصاديين الذين أجمعوا على أن تونس أفلست وأن الإعلان عن ذلك مسألة وقت لا اكثر ولا أقل.

فجميع المؤشرات الاقتصادية بات خطها مستقيما في اللون الأحمر ودينها العمومي الخارجي فاق 220 مليار دينار وهي مطالبة خلال سنة 2021 بخلاص مليار دينار للولايات المتحدة الامريكية ونفس المبلغ تقريبا لتركيا و700 مليون دينار لقطر ونفس المبلغ لفرنسا وغيرها من الدفوعات وجميعها بالعملة الصعبة.

 في وقت توقف فيه إنتاج الفسفاط وأغلقت جميع النزل ووكالات الاسفار أبوابها لتشهد تراجعا غير مسبوق عصف بالقطاع الذي يمثل شريانا حيويا في قلب الاقتصاد التونسي، وقد كشفت وزارة السياحة التونسية في تقرير لها في موفى عام 2020، عن تراجع إيرادات القطاع السياحي بنسبة 64 %، من بداية العام حتى العاشر من ديسمبر 2020، وذلك مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية، وقدرت تلك العائدات المالية بحوالي 1.9 مليار دينار تونسي (نحو 691 مليون دولار) مقارنة بـ 5.3 مليار دينار تونسي (قرابة 1.9 مليار دولار) خلال الفترة نفسها من 2019. كما تدنت كذلك تحويلات التونسيين بالخارج إلى مستوى غير مسبوق.

ووفقا للمؤشرات الاقتصادية التي نشرها المعهد التونسي للإحصاء، ، ففي الثلث الثاني لسنة 2020 بلغ مستوى نمو الاقتصاد أدنى مستوياته السلبية تاريخيا مسجلا 21.6%-، ووفق بيانات لوزارات المالية فإن البلاد تغرق في دين عام يفوق 75 % من الناتج المحلي للبلاد يصاحبه عجز في ميزانية 2021 يفوق 8 مليارات، حسب بيانلت الوزارة، ما يزج بالبلاد في أزمة مالية غير مسبوقة.

ويجمع الخبراء في المجال الاقتصادي أن سنة 2021 قد تكون أشد قسوة على التونسيين من 2020 خاصة و ان تبعات أزمة كورونا ستصبح جلية أكثر في ما يتعلق بتفاقم البطالة و نسب الفقر و هو ما قد يجعل هذ ا العام كارثيا على  المقدرة الشرائية خاصة وأنه تم اقرار زيادة في بعض المواد على غرار السكر و الدجاج إضافة إلى رفع منتظر على جزء الدعم المخصص للمحروقات وهو ما سيؤثر بصفة مباشرة على أسعار كل المواد الاستهلاكية .

و قد دعت العديد من منظمات المجتمع المدني والنشطاء المستقلين على وسائل التواصل الاجتماعي للتظاهر ضد الانكماش الاقتصادي ، وكذلك ما وصفوه بالفساد المستشري والإفلات من العقاب. كما دعا البعض إلى حل البرلمان والحكومة وإنهاء القمع البوليسي. حيث تعيش البلاد منذ ذكرى 14 يناير لهذا العام، على وقع احتجاجات حاشدة في أغلب الولايات التونسية وأحياء هامة من العاصمة وتتواصل إلى حد اليوم خاصة على خلفية الإعتقالات والإعتداءات الأمنية على المتضاهرين.

وشهد محيط البرلمان التونسي أواخر شهر يناير وقفة إحتجاجية انطلقت من أحد أكبر أحياء العاصمة تنديدا بالوضع الاجتماعي الصعب و الإعتقالات والتهميش كما نادت أيضا بحل البرلمان التونسي.

إضافة إلى ذلك تتواصل المضاهرات الحاشدة في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية حيث تجمع عدد كبير من المتظاهرين، وسط إجراءات أمنية مشددة وإغلاق تام للشارع وبعض أحوازه، يوم السبت 6 فبراير، بمشاركة الإتحاد العام التونسي للشغل وبعض الأحزاب ومكونات المجتمع الدني بمختلف أطيافه وعامة الشعب في إحياء الذكرى الثامنة لاغتيال الناشط السياسي اليساري شكري بلعيد، وقد انتهت الاحتجاجات بتبادل العنف مع الأمنيين.كما رُفعت شعارات عدة تنديدا بالوضع العام الخانق والذي ينذر بانفجار جديد قريب حسب الملاحظين المحليين والعالميين.

وتجدر الإشارة إلى أن البلاد تعيش وضعا وبائيا صعبا في تصاعد غير مسبوق لحصيلة الإصابات والوفيات لتحتل بذلك المتبة الأولى عربيا وإفريقيا مقارنة بعدد السكان.

تمر البلاد التونسية "بأسوأ فترة منذ 2011" حيث تكتّلت الأزمات على هياكل الدولة والشعب وانفجر البركان الخامد لسنوات مضنية من غلاء الأسعار وتراجع الاقتصادي وتنامي المديونية مقابل تقهقر القدرة الشرائية للمواطن التونسي. ويُرجع الخبراء والملراقبون كل هذه الأزمات إلى سبب واحد بارز وواضح "الخلل الدستوري وعدم الاستقرار السياسي بتونس".