مازالت الأزمة المغربية الإسبانية مثار جدل في البلدين، ولدى قطاع عريض من المنابر الإعلامية. ومع أن هذه الأزمة ليست الأولى في تاريخ البلدين الجارين، لكنها الأقوى منذ عقود، وفق المهتمين بتاريخ البلدين. وإذ تناول الإعلام هذه الأزمة من زوايا مختلفة، حاولت جريدة الأسبوع المغاربي، وأخبار المغاربية، أن تجد إجابات لبعض الأسئلة ذات الصلة بحيثيات الأزمة. وهل ما حدث سيؤدي إلى استقالة وزيرة الخارجية الإسبانية؟ أو إلى تغيير حكومي؟ أو ربما إلى انتخابات مبكرة؟ وهل هذه الأزمة ستؤثر إيجابا على مستقبل العلاقة المغربية الإسبانية؟

في هذا السياق، اتصلنا بالأستاذين في العلاقات الدولية: أستاذ العلوم السياسية، إدريس لكريني، كلية الحقوق بجامعة القاضي عياض؛ مراكش؛ والباحث خالد شيات، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في جامعة محمد الأول بوجدة.

استقلالية القضاء الإسباني

على خلفية اكتشاف المغرب لاستقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو ابراهيم غالي بهوية مزورة، وما ترتب عن ذلك من تطورات أفضت إلى  رفض القضاء الإسباني توقيفه أو اتخاذ أي إجراء ضده. واستنادا على الأطروحة المغربية  التي ترى في أن ابراهيم غالي مجرم حرب، يرى الأستاذان أن الأسباب التي كانت وراء عدم توقيفه، لم تكن وجيهة. "في دولة ديمقراطية كاسبانيا، تتمتع فيها السلطة القضائية بالاستقلالية، يقول الدكتور خالد شيات، قد يعطي القاضي الكثير من المبررات المسطرية والقانونية، يعني أن "قناعته" تشكلت بعد الاستجواب، بعدم إجراء أي شكل احترازي ضد المتهم الذي يتهمه ضحاياه بجرائم حرب، ولاسيما أن الأمر لم يستغرق سوى ساعة ونصف مع أن التحقيق في مثل هكذا قضايا قد يستغرق عاما أو أكثر". ويرى "أن رؤية هذا الموضوع من اي زاوية قانونية هو تضليل كبير، فعدم توقيف غالي من طرف القضاء الاسباني هو استعمال للقضاء سياسيا، وهذا سلوك أساء إلى استقلالية العدالة في هذا البلد".من جهته، قال الأستاذ لكريني "أندخول ابراهيم غالي بوثائق مزورة كان مثيرا للاستغراب، وسلوكا يتناقض مع القوانين الإسبانية فضلا عن متطلبات حسن الجوار وحجم الشراكة بين الاسبان والمغرب، مضيفا، أن ما قامت به اسبانيا تكريس لسياسة الافلات من العقاب، واعتداء على العلاقة النوعية التي جمعت البلدين" وهو سلوك، في نظر الأستاذ لكريني يترجم خللا في الإدراك.


الدواعي الإنسانية مجرد تبرير غير مقنع

وبخصوص هويته المزورة، إزاء القانون، يقول شيات: "هذا التزوير لا يرتبط بمقومات مسطرة قانونية داخلية فقط، بل يعكس صورة عن حقيقة  تنظيم يدعي أنه تنظيم تحرري، ويزعم أن قضيته قضية تصفية استعمار. لم أسمع عن زعيم يحترم نفسه يدخل كاللص إلى دولة أخرى، خاصة أن هذه الدولة تعترف به وبالتنظيم الذي يرأسه. بمعنى أنه لم يكن هناك سبب يحمله على دخول إسبانيا متخفيا، ولم يكن من سبب يجعل إسبانيا تتستر على دخوله، ولاسيما أنه شخصية سياسية في نظرها. ثم بعد أن افتضح أمرها بررت ان دخوله هو لدواع انسانية".

ويرى لكريني أن "ما حدث يسائل مصداقية السلطات الاسبانية، داخليا ودوليا ومع المغرب"، متسائلا: "أي دواع إنسانية هذه التي تتنكر لحق الضحايا في محاكمة الجاني؟.. وكيف تورطت اسبانيا في هذه الأزمة التي كلفتها الكثير؟ ما هو السبب؟ ومهما يكن، فإن ما حدث يعزز من أن اسبانيا كانت على علم بجرائمه، وعلى علم بدخوله السري، ولم تكن تتوقع أن تنكشف هذه الفضيحة".

حول عدم استقبال إسبانيا لزعيم البوليساريو بهويته الحقيقية، وحول رد فعل وزيرة الخارجية الإسبانية الذي اتسم بالغموض، وتذرعها بالدواعي الإنسانية، وكيف أن هذا التبرير لا يخدم المشتبه به، من حيث أن هذا التبرير في حد ذاته إثبات للشبهة على زعيم البوليساريو من جهة، ومن جهة ثانية اعتراف من إسبانيا أنها ضالعة في تزوير هويته لدواع إنسانية؛  قال الأستاذ شيات: "لو تسلل الى المغرب بهوية مزورة، لكان الأمر مفهوما، ولقلنا دخل لمواصلة نضاله بشكل سري. أما أنه دخل بهوية مزورة إلى بلد يعترف به ويدعمه، فهذا أمر مثير للاستغراب". وأضاف: "هذا يعني أنه كان خائفا من المتابعة، وهذا يعني، أيضا، أنه نسق، على المستوى السياسي، مع الإسبان"؛ ووفق شيات "ما حدث كشف عن حقيقتين:  الحقيقة الأولى، هي أن إبراهيم غالي ومن يدعمه لا ينظرون إلى مسألة الصحراء بجدية، وليست في عرفهم قضية تصفية استعمار ولا هم يحزنون. فلو كان يعتبر نفسه زعيما تحرريا لما قبل أن يدخل بهوية مزورة، ولو كانت إسبانيا تحترم الصحراويين لما سمحت له بانتحال هوية أخرى على أراضيها؛ الحقيقة الثانية، هي عدم مصداقية القضاء الاسباني الذي قرر في ساعة ونصف عدم القيام بأي إجراء احترازي ضده، بمعنى لم نتساءل هل هناك آلية قانونية لمتابعة شخص خرق كل القوانين أخلاقيا وقانونيا؟ المسألة ببساطة لا ترتبط بذلك، ولا معنى ان تصبح قضية قانونية الان لان المعني تمكن من تجاوز كل الحواجز بشكل مخجل.

الخسارات... والمكاسب

كل المعطيات المتداولة تؤكد هزيمة الأطراف الأربعة التي كانت على صلة بهذا الحدث الذي يمكن أن نسميه حدث "بن بطوش"، لا أحد انتصر من هذه الأطراف: انهزمت إسبانيا على مستوى سمعتها السياسية والقضائية كما انهزمت استخباراتيا، من حيث أنها كانت ضالعة في استقبال شخص بهوية مزورة وفشلت في الحفاظ على سرية العملية كما أنها خسرت علاقتها النوعية بالمغرب؛ وانهزمت البوليساريو من حيث أن زعيمها ذهب للعلاج متخفيا  كما يذهب كل شخص مشبوه، وهو أمر أصاب مصداقية البوليساريو في مقتل، وانهزمت الجزائر على مستوى سمعتها الاستخباراتية والسياسية من حيث انكشاف سرية العملية ومن حيث تصرفها مع شخصية سياسية تحررية كما لو أنه قرصان لا يجب أن يفتتضح أمره؛ وانهزم المغرب من حيث فشله في إقناع اسبانيا بتوقيف ابراهيم غالي كما خسر علاقته باسبانيا. هذا هو الحدث في الميديا، أم أن هناك معطيات غير متوفرة ستكشف عنها الأيام وستكشف عمن انتصر وعمن انهزم في حدث بن بطوش؟ تعليقا على ما سبق يرى الأستاذشيات "أن ذلك تحصيل حاصل، والجهل لا ينتج سوى الهزائم". وإذ يعبر عن أسفه للجفاء الذي انتهت إليه العلاقة الجزائرية المغربية، ويأمل أن يتغير الوضع مستقبلا، يقر أن الخسارة ظلت قدر البلدين. وقال "لا يمكن في ظل هذه المنظومة ان نتحدث عن خسارة واحدة، إنها منظومة خسارات وكلها مترابطة".  وأضاف "اسبانيا قد تخسر لكنها محمية بمنظومة اندماجية وبدمقراطية، لذلك قلت لك ان خسارة بنية العدالة أكبر الخسارات لديها، أما حساباتها الاستراتيجية فإنها يمكن أن تصحح مع تحولات سياسية انتخابية داخلية، لأن ذلك هو سحر الديمقراطية"، وحول الجزائر، تساءل: "كيف تقنع عسكريا يحمل من النياشين أكثر ما يحمل من الأفكار بأن المستقبل الذي لا يكون مشتركا ومبنيا على الوحدة والتضامن هو هاوية تطل على كل المآسي".


الأستاذ لكريني يرى أن "تدبير إسبانيا  لهذا الملف كان فاشلا، وهي الخاسر الأكبر. وهذا ما تعكسه حالة التخبط التي عاشتها جراء ذلك، من إثارة لملف الهجرة، إلى إقحامها للاتحاد الأوروبي، وكذلك مواقف الفعاليات المدنية والأحزاب والراي العمومي الاسباني".المغرب استفاد، يضيف الاستاذ لكريني، لقد استثمر الفرصة لصالحه لكي يرسي علاقة من نوع جديد مع إسبانيا، علاقة ندية ومتوازنة بعيدا عن الانتقائية والاستعلائية".

تغير موازين القوى، ملف الصحراء ومستقبل العلاقة المغربية الإسبانية

في ضوء التناقضات المنطقية التي سقطت فيها الحكومة الإسبانية في تعاطيها مع ملف زعيم البوليساريو بهويته المزورة، ومحاولة خلطها للأوراق مع الاتحاد الأوروبي ثم مع الإدارة الأمريكية، وفي ضوء منطق التحولات التي تتحكم في تاريخنا المعاصر وعلاقته بمشروع الشرق الأوسط الجديد؛ وحول التداعيات وانعكاساتها التي قد تؤدي الى تغيير حكومي في إسبانيا، أو ربما إجراء انتخابات مبكرة، وتأثير ذلك مستقبلا بشكل نوعي في ملف الصحراء على مستوى العلاقة المغربية الاسبانية، من جهة ومن جهة ثانية على مستوى الاتحاد الأوروبي؟ قال الأستاذ لكريني: "فعلا، كما لو أن إسبانيا تتحرك خارج التحولات الدولية، هناك تحالفات وموازين قوة جديدة، وحتى الاتحاد الاوروبي منذ البريكست، يعيش تناقضا في المواقف،... الامر متصل بما يجري في العالم... المغرب أرسى سياسة خارجية براغماتية منفتحة  وازنة. أمريكا التي اعترفت بمغربية الصحراء وهذا معطى لا يمكن تجازوه. هذه هواجس اسبانيا ومخاوفها من المغرب، بعد أن بدأت تنظر بعين الحذر، وهي هواجس استعمارية نابعة عن نزعة متعالية".

ويضيف الأستاذ لكريني: "الرفض الاسباني ناجم عن تخوفات استرداد المغرب لمدينتي سبتة ومليلية والجزر، وهي واعية بالمتغيرات التي تعرفها المنطقة، المتغيرات الأممية والإقليمية تؤشر على أن ثمة تحولات قد تنعكس على ملف الصحراء وبروز توازنات جديدة تصب في مصلحة المغرب". ويرى لكريني "أنالازمة مرشحة إلى التطور، ولاسيما لجوء اسبانيا الى التصعيد وتهريب النقاش، والتهرب من المواجهة، ما يؤكد الارتجالية في تعاطيها مع مسألة ابراهيم غالي، ومن المرجح أنه ستكون تبعات لهذا الارتجال في الداخل الإسباني".