بعد سنوات من الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي، مازالت الأموال المجمدة شغلا شاغلا لليبيين، في ظل حاجة البلاد إليها وأمام التراجع الذي تعيشه أغلب المؤسسات الاقتصادية والانهيار الكبير للاحتياطي والعملة المحليين. والواقع أن هذا الملف بالذات يلفه غموض كبير من خلال الاختلاف حول حقيقة الأرقام ومواقعها لكنه في كل الحالات يعتبر من الملفات الأكثر تعقيدا نظرا لما يتطلبه من استعدادات قانونية على أعلى مستوى ولطول نفس قد يستمر سنوات، خاصة مع تهرّب بعض الدول من تناول هذا الملف لأسباب مختلفة، لا تخفي حتى نوايا الاستيلاء عليها حسبما يذكر بعض السياسيين الليبيين.
ورغم أن الأرقام التي تنشر تشير في أغلبها إلى ما يفوق الـ100 مليار دولار بين حسابات شخصية وأرصدة بنكية، إلا أن بعض الأرصدة لا تذكر أماكنها إلى فترة قريبة مثل وضعية الأموال المجمدة في بلجيكا التي لم تكن حديث المتابعين إلى حين خروج الملف إلى الأضواء عبر حديث لوسائل إعلام بلجيكية عن اختفاء مبالغ ضخمة تصل إلى أكثر من 10 مليار دولار من أصل 16 مليار دولار مجمدة في البلاد. وذكرت أن تلك المليارات ذهبت إلى مجموعات مسلحة في ليبيا دون أي أسانيد قانونية الأمر الذي خلّف ردود فعل كبيرة داخل ليبيا وخارجها.
في الثامن من مارس الماضي نشر موقع "يورو نيوز" الإخباري نقلا عن صحيفة "لوفيف" البلجيكية تقريرا عن تبخّر 10 مليار يورو من مجموع 16.1 مليار يورو كانت مجمدة في أربعة حسابات في مصرف يوروكلير في بروكسيل، الأمر الذي جعل وزير المالية البلجيكي أمام انتقاد ومساءلة داخلية.
كما قامت لجنة من خبراء التحقيقات بالأمم المتحدة في مايو الماضي يزيارة بلجيكا نظرا لاكتشافها خللا في التعامل مع الأموال الليبية المجمدة، حيث اعتبرت أن "الحكومة (البلجيكية) فشلت في الامتثال لجزاءات الأمم المتحدة التي فرضت عام 2011 على الأصول المجمدة لمعمر القذافي، حيث يعد التقرير صفعة للحكومة التي ادعت العكس".
ويعود اكتشاف عملية الاختفاء عندما فتح القضاء البلجيكي تحقيقا عن عملية تبييض أموال، تبيّن من خلاله أن تلك الأموال لم يبق منها إلا 5 مليار يورو رغم أن بلجيكا لم تصدر أي قرار بالإفراج عنها، بل أكثر من ذلك أثبتت عملية التتبع أن الأموال المفقودة لم تحجز عبر المسالك القانونية وهو ما يضع الدولة البلجيكية أمام الماءلة، وهو ما وقع بعد ذلك داخليا عندما مثل وزير الخزانة والمال، يوهان فان أوفرتفيلد أمام البرلمان لمعرفة حقيقة القضية.
وطالب النواب بضرورة العمل على الملف على أنه "قضية دولة" لأن شبهات كبيرة تحوم حول ذهاب جزء كبير من تلك الأموال إلى مستلمين مجهولين بعد العام 2013 وأساسا إلى مليشيات مسلحة، ما يعدّ تجاوزا خطيرا يضع المؤسسات البلجيكية أمام مسؤولياتها باعتبارها تفقد مناخ الثقة داخليا وخارجيا. وقد أشارت النائبة الاشتراكية لورات انوكولنكس إلى إمكانية أن يكون القرار اتخذ بشكل فردي من أحد الوزراء، ما يفرض فتح بحث جدّي يوضّح ملابسات المسألة.
وفي السابع من نوفمبر الماضي طالب "مشرعون من المعارضة البلجيكية بأن تجيب إدارة رئيس الوزراء الليبرالي، شارل ميشيل، عن أسئلة النواب، بعد أن ربطت قناة تلفزيونية عامة .. مدفوعات فوائد الحسابات الليبية في بروكسل، بشحنات أسلحة موجهة إلى ميليشيات ليبية، البعض منها يمتهن الاتجار بالبشر".
ورغم أن القضية اعتبرت صدمة للرأي العام البلجيكي، لكن بعض التبريرات وبهدف الخروج من "الفضيحة الكبرى"، تقول أن الأموال المختفية لم تخضع لقرارات التجميد باعتبارها متأتية من أرباح الأموال الأصلية، وهذا ما سارعت إليه أيضا المؤسسة الليبية للاستثمار التي كانت أمام ضرورة إصدار موقف توضيحي نظرا لمسؤوليتها أيضا عن القضية، حيث قالت في بيان لها يوم 01 نوفمبر الماضي، أنه لا يوجد دليل على الإطلاق بأن أي أموال قد استخدمت لتمويل الجماعات المسلحة، ولم يستنتج تقرير الأمم المتحدة ... أن هناك أي خرق لنظام العقوبات من قبل المؤسسة الليبية للاستثمار" مضيفة أنها "تقوم بالتحقيق في هذه المزاعم والإدعاءات، وهي ملتزمة بالعمل مع الأمم المتحدة وجميع الأجهزة التنظيمية المحلية لكل دولة ذات الصلة، وذلك من أجل ضمان إدارة الأصول بما يتماشى مع نظام العقوبات بالأمم المتحدة".
ورغم أن مسؤولين ليبيين يؤكدون منذ فترة أن الأموال الليبية المجمدة في الخارج في مأمن وتدر أرباحا كبيرة وتعتبر كلها تحت تصرّف مؤسسات الرقابة إلا أن القضية الأخيرة تشير إلى إخلالات في مراقبة تلك الأموال إما بتقصير من تلك الجهات من خلال عدم العمل على حل مشاكلها أو ربما حتى بتواطؤ من بعض الأطراف الليبية التي تسعى لاستغلال تلك الأموال في مسالك خطيرة.
كما أن المؤسسة الليبية للاستثمار في إطار إصدار موقفها من قضية الأموال المجمدة في بلجيكا نفت ضياعها أو توجهها لجهات مشبوهة وتنصّلت من أي مسؤولية عن ذلك، لكن أطرافا داخلية تعتبر المؤسسة جزءا من المشكل، من ذلك ما قاله عضو مجلس النواب صالح دومة في تصريحات صحفية عندما أشار إلى أن "ما يشاع عن التصرف في عوائد الودائع الليبية فى بلجيكا، والتصريحات المتناقضة من المؤسسة يثير الريبة ويرفع من مستوى الشبهات فى التلاعب بأموال الأجيال القادمة"، داعيا إلى "تكليف لجنة برلمانية لتتقصى عن الأموال الليبية فى بلجيكا وفى العديد من الدول التى يعتقد بأن فيها شبهات تلاعب".
قضية الأموال الليبية المجمدة في بلجيكا فتحت أسئلة كثيرة عن مصير ثروات البلاد في الخارج وإمكانية استرجاعها، كما فتحت أيضا التأويلات عن شبهات كثيرة في الداخل والخارج حول إمكانية الاستيلاء أو الحصول عليها من جهات لها ارتباطات خطيرة على البلاد، الأمر الذي يفرض على كل المؤسسات الرقابية في الداخل والخارج مضاعفة المجهودات من أجل الحفاظ على ثروات قادرة على النهوض باقتصاد البلاد المنهار منذ أحداث فبراير 2011.