أمام التطورات الراهنة التي تشهدها الدول المغاربية، سواء في واقعها الداخلي، أو في علاقاتها المتعددة الأطراف على الصعيد الإقليمي، وكذلك الدولي، ثمة أسئلة تنشأ على التوازي وبالاستطراد، أحد أهمها يدور حول الإعلام، فلسفة ودورا ووظيفة، سؤال في حلة اتهام، أن الإعلام المغاربي قاصر عن أداء المهمة التاريخية في التغيير... غير أن أحدا لم يتساءل مرة... لماذا يكون على الإعلام ما لا على غيره من قطاعات الحياة في مجتمعنا المغاربي وهو جزء عضوي منها وفيها، ولماذا علينا أن نتوهم الاعتقاد بضرورة سلخ الإعلام من جلده وتحميله مسؤولية فرش دروب التغيير والتطوير بالسهولة والياسمين، كما لو أنه المعجزة مع وقف التنفيذ؟ مثل هذه التساؤلات وغيرها الكثير مطروح اليوم للنقاش الدائر على غير منبر، حول مسؤولية الإعلام المغاربي والدور الذي ينبغي أن يكون له ويلعبه، في عملية التطوير والتحديث، التي نرفع ألويتها ونختلف في دروب الوصول إليها والوسائل.

إنّ المتتبع لحال الإعلام المغاربي اليوم، يلاحظ معاناة هذا الإعلام ! فبعض القائمين على هذه السلطة الرابعة، يعتمدون على فكرة أنّ "مهنة المتاعب" هي مهنة أو حرفة لا تحتاج إلا نوعا من التدريب المدرسي أو الأكاديمي الذي يمكن أن يتحول إلى "ماكينة" لإنتاج الإعلاميين بالجملة، بغض النظر عن الموهبة والذكاء الفردي الذي يؤهل الإعلامي للنجاح والاستقطاب، وقد تبلورت هذه الظاهرة المثيرة للملاحظة في الاندفاع الذي شهدته الدول المغاربية نحو تأسيس أقسام جامعية، بل وحتى كليات متخصصة، بالإعلام، وهكذا لم يعد الإعلامي الحق شخصا يمتاز بمميزات من النوع الاستثنائي، كما كنا نلاحظ ذلك قبل حقبة "كليات الإعلام" القائمة اليوم. لقد تحولت أقسام وكليات الإعلام إلى آنية لاستيعاب خريجي الثانويات من الحاصلين على المعدلات والدرجات المنخفضة، باعتبار أن كلية الإعلام لا تحتاج إلى الكثير من الجهد والمثابرة للنجاح والتخرج، مقارنة بكليات العلوم والصيدلة والطب على سبيل المثال، وهكذا تحولت هذه الأقسام والكليات إلى "ملجأ" للطلبة الضعفاء علميا وإلى "ميتم" لمن يبحث عن عمل هو غير مؤهل له أصلا، لا نفسيا ولا حرفيا. لقد لوحظ أنه بالرغم من انتشار هذه الأقسام "العلمية" في العديد من الجامعات المغاربية، فإن أفضل الإعلاميين المغاربيين لم يكونوا من خريجي مثل هذه المؤسسات الأكاديمية التي يفترض أن تعزل "الطارئين" على الإعلام لتفتح الطريق للموهوبين منهم، بالرغم من أن أغلب خريجي هذه الأقسام يتخرجون وهم لا يحسنون تحرير خبر بسيط أو كتابة تحليل جيد قابل للقراءة...

لقد أصبح إعلامنا المغاربي في منزلة بين المنزلتين، وما يدعو للأسف أن إعلامنا المغاربي لا يقدم كل ما هو مطلوب منه في سبيل تعزيز مبادئ الحرية والتقدم وشروطهما، فهو في أغلب الأحيان منحاز إلى رؤى جهات بعينها ومواقفها وتبريراتها للسلوكيات التي تنال من حقوق المواطنين، وذلك في ظل غياب واضح لسياسة إعلامية متحررة من القيود السياسية والبيروقراطية، تراعي التحولات التي تشهدها المجتمعات المغاربية محلياً وإقليميا ودولياً وتؤمّن حرية في التعبير وتدفق المعلومات وانسياب الأفكار... وعلينا أن نعترف أنّ وسائل الإعلام في بلداننا المغاربية تعاني غياب الحياد بمعناه الإيجابي، فهي لا تتحيز للمصلحة الوطنية العليا، وتصد أي موجات تستهدف مجتمعاتنا ثقافيا، بالدفاع عن منظومة القيم الراسخة في نفوسنا وعقولنا، بل تتحيز إلى وجهة نظر السلطة والمتحالفين معها والمتحلقين حولها أو المنتفعين منها.

وغياب هذا اللون من الحياد في إعلامنا يعود إلى فرض قيود على حرية الوصول إلى المعلومات وحرية تداولها، وفرض قيود على حرية التملك وإصدار المطبوعات، وعلى حرية التملك والبث الإذاعي والتلفزيوني وفرض الرقابة على المطبوعات الداخلية والقادمة من الخارج، وفرض قيود على حرية الطباعة والتوزيع والإعلان، وأخرى على حرية التنظيم النقابي والتحكم بظروف عمل الصحافيين والإعلاميين من خلال قوانين تكرس مفهوم سيطرة الدولة وحرمان الأفراد من حق الاختيار، ويصل التدخل في بعض الدول المغاربية إلى حد الاحتكار والسيطرة الكاملة، لكنه يقل عن ذلك كثيرا في بعض الأحوال، حيث تراقب الدولة أداء المؤسسات الإعلامية عن بعد. أيضاً مشكلة الحصول على المعلومات، فمن المنشأ توجد قواعد لتنظيم حرية تداول المعلومات وتحديد نطاق السرية التي قد تفرض على بعض المعلومات، ويكون حظر المعلومات في حدود معينة، تضيق ولا تتسع، نظراً لطبيعتها ويكون الحظر لفترة زمنية محددة وليس بصورة مطلقة، فالتذرع ببعض بلداننا وبعض الحالات باعتبارات الحفاظ على الأمن القومي: فرغم القوة التي تتمتع بها وسائل الإعلام للعمل على تنمية الوعي الأمني، فإنها تبقى رهينة للمصادر التي تزودها بالمعلومات والتوضيحات والبيانات، والتي هي في الأغلب الأجهزة الأمنية التي تمتلك البيانات والمعلومات.

إنّ المتتبع لحال الإعلام المغاربي اليوم، يلاحظ اتساع الهوة من الثقة والإحساس بالصلة بينه وبين المواطنين إلى حد بعيد مع التأكيد على عدم التعميم، خصوصا حول القضايا التي تمثل حال المواطن المغاربي، الأمر الذي نتج عنه فقدان الإحساس بأهميته وقيمته في الساحة الشعبية، أقصد الإعلام، وهو ما ترتب عليه التعامل مع ذلك الإعلام بنوع من العزلة وعدم الإحساس بأهميته وقيمته الوطنية، وقد فاقم من ذلك الأمر أو الشعور، امتلاك المواطن البسيط الوسائل والإمكانيات الإعلامية التي استطاع من خلالها التعبير عن مشاعره ومشاكله دون الحاجة للجوء إلى الإعلام ولا حتى وسائل الإعلام الخاصة. أمر آخر أفقد الإعلام المغاربي كذلك بعض المكانة في الساحة الإعلامية التقليدية والافتراضية، وهو ضعف القدرة على التعامل مع المتغيرات والتحولات التكنولوجية، في وقت احتلت فيه وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني تلك المساحة، كما كان لسهولة الحصول على المعلومة ونشرها عبر تلك الوسائل الحديثة دور آخر في إضعاف الإعلام المغاربي، ولا يمكن نسيان صعوبة الاحتفاظ بالأسرار والمعلومات في بيئة فاقدة للخصوصية والسرية بدرجة كبيرة.

وأبينا أم شئنا، ففي ظل عالم تحول إلى فضاء مفتوح، يفرض هذا التحوّل على وسائل الإعلام المغاربية تحديات غير مسبوقة في سعيها لمواكبة التطورات الحاصلة على المستوى العالمي وتسجيل حضور لها في المشهد الإعلامي، ولعل أبرز هذه التحديات تحدي استعادة الجمهور الذي غادر تلك المنابر الإعلامية، بسبب النمطية التي اعتادتها وتكريسها صورة أنها إعلام سلطة لا إعلام دولة، يخاطب جمهوراً واسعاً يبحث عن حاجات ورغبات ومعلومة تعنيه وفي دائرة اهتمامه، حيث يجدها في أحسن الأحوال مبتعدة عنه، وهي التي يفرض فيها أن تخاطبه وتتفاعل مع احتياجاته ورغباته ما جعلها خارج دائرة التأثير الفعلي في وعيه ونمط ثقافته وسلوكه. أما التحدي الآخر فيتمثل في قدرة وسائل الإعلام المغاربية على التعاطي مع ما هو حاصل في البيئة الإعلامية الدولية وبروز ظاهرة الإعلام الالكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي وما لها من تأثير واضح في بث الأخبار والمعلومات وتقديم المحتوى الجديد، وهنا يكمن التحدي في القدرة على إيجاد آلية تعاون بين شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرسمي، سواء أكانت مقروءة أم مسموعة أم مرئية، بحيث تشكل شبكات التواصل أحد مصادر المنتج الإعلامي لوسائل الإعلام كمحتوى وحامل لها، بسبب انتشارها الواسع وسرعة تعاطيها مع الحدث الساخن في مكان حدوثه وهذا يستوجب حتماً التحقق والثقة من جهة المصدر. إن التقسيم التقليدي لوسائل الإعلام بين خاص وعام لم يعد كافياً، فالتداخل أصبح واضحاً بين المنظومتين في ظل الثورة المعرفية والتقانية، وهنا يمكننا الحديث عن إعلام تقليدي وإعلام حديث، إعلام يتبنى خطاب وآليات وتقانة وكوادر تقليدية أصبحت من الماضي، وإعلام حديث بخطابه وتقانته وآلياته وكوادره، وهنا يصبح السؤال: هل المطلوب هو نسف كل ما هو قائم؟ أم تجديده ورفع مهارته وتقانته وضخ دماء وآليات تفكير جديدة فيه؟

لا شك أن الموضوعية ومنطق الأشياء والواقعية تدفع بالخيار الثاني، وهو الاتجاه الذي جرت عليه أو بدأت تتلمس خيوطه الأولى بعض وسائل الإعلام الرسمية في الدول العربية، ولا شك أنها حققت بعض النجاحات ودخلت في دائرة المنافسة الإعلامية مستعيدة حيزاً مهماً من جمهورها، الذي افتقدته لصالح وسائل إعلام أقل ما يقال عنها إنها تحركت في مناطق فراغ الإعلام الرسمي العربي، واستغلت نقاط ضعفه لتكون عناصر قوة لها، ما مكنها من اكتساب جمهور واسع يتوق للكلمة الصادقة والحدث الساخن والحي والمتعطش للحرية والاستماع للرأي والرأي الآخر. إن السرعة في نقل الخبر على أهميته - وهو ما يميز وسائل الإعلام الحديثة - لم يعد كافياً لاكتساب ثقة الجمهور واهتمامه بقدر مصداقية المضمون وموضوعيته، وهنا تأتي أهمية التدقيق في المحتوى الإعلامي وتوخي الصدقية فيه، من باب الحرص على سمعة ومهنية الوسيلة الإعلامية واحترام وعي الناس، وقبل ذلك احترام الحقيقة التي تعنون أغلب وسائل الإعلام نفسها بها، وعند الحديث عن الرقابة فهذا يحتاج إلى مقاربة جديدة، فالرقابة هي ما يفترض أن تحدده نصوص قانونية واضحة تتقيد بمضامينها كافة وسائل الإعلام والثقافة والنشر وغيرها من منابر انطلاقاً من الحرص على نسق القيم الاجتماعية والأخلاقية والحفاظ على النظام العام في المجتمع، فهي بهذا المعنى لا تشكل قيداً على حرية الكلمة والرأي بقدر ما تشكل ضرورة أخلاقية وواجباً اجتماعياً وإطاراً عاماً تحدده جماعة سياسية منسجمة حضارياً وثقافياً وقيمياً، من هنا تكتسب الرقابة مفهوماً مجتمعياً بحيث يتحول الضمير الاجتماعي إلى رقيب على الوسيلة الإعلامية والإعلامي وتتمثل العقوبة بهذا المعنى بالقطيعة الواسعة معها ما يعني افتقادها لجمهورها ومشاهديها ومتابعيها وهذا يعني أنها أصبحت تعيش حالة انعدام الوزن والتأثير والفاعلية والوظيفة وخروجها من سوق التداول الإعلامي ما يشكل مقتل الوسيلة الإعلامية سواء أكانت مسموعة أم مقروءة أم مرئية.

لقد تعلمنا طيلة مشوارنا الإعلامي، أنّ الإعلام مدرسة فصولها تاريخ وجغرافيا ولغة وعلوم، ومعارف، وامتداد ثقافي وإنساني، وتصالح مع الذات المجتمعية بكل مقوماتها التي تشكل هويتها، وأنّ الإعلامي محكوم بضميره، لأنه يمتلك الكلمة المكتوبة، أو المنطوقة، أو المصورة، التي تستغلها مواقع التواصل الاجتماعي وتبرزها... وهنا نسأل: أليس دور الإعلام الحقيقي، في واقع الأمر، هو حماية مصالح الشعوب، والحرص على استقرارها؟ فالإعلامي الذي يجد في الإعلام المنحرف أسرع وسيلة للكسب المادي، أو لتزييف الواقع والترويج للفتن، لا تستبعد أن يدفع هو نفسه، ثمن ذلك يوما ما عن طريق نفس من استغله أو دفع له أو شجعه على السير على هذا الطريق. إننا نعيش اليوم في عالم أصبحت فيه الكلمة ذات تأثير فاعل خصوصا مع الانتشار السريع للتقنية، وما أفرزته من وسائل إعلام مصغرة متحركة، مع المواطن المغاربي... ومن حقنا أن نتساءل أي فلسفة ينبغي للإعلام المغاربي أن ينتهجها، وأي أدوات عليه أن يستعملها، وأية مسؤولية قدر له، أن يتحملها...؟

الإجابة بحاجة لحلول واضحة ولا تحتاج لخبراء و"حملات تلفزيونية"، فأولاً يجب الإقرار بأن الإعلام صناعة متكاملة بكل معنى الكلمة، صناعة تتحكم فيها أخلاق السياسة لا سياسة الأخلاق، ويتطلب نجاحها، كأي صناعة أخرى، موارد مالية كافية للقيام بخطوات متتالية ومتكاملة لجذب المشاهد أولاً وقولبته لاحقاً، وثانياً التعامل مع المتلقي على أنه بالغ راشد يعرف بالحدث فور وقوعه من وسائل الإعلام البديل، وبالتالي لا يفيد "الإنكار" سوى في توسيع الهوة معه، وثالثاً، وهو الأهم، الإيمان بأنه لا يمكن فصل تطوير الإعلام عن تطوير الإعلامي، مهنياً ومادياً، فهو يجب أن يكون آمناً في ماله وحياته و"حريته" في النقد والكشف، وأن تتقلّص الخطوط الحمراء أمامه لا أن تتزايد، وأن تخف التوجيهات والتدخلات العليا، أي أن يثق به المسؤول أولاً كي يثق به المواطن ثانياً، وبذلك يكون لدينا إعلام وطنٍ ومواطن، كما نريد ويريد كل مغاربي مؤمن بهذه الأوطان.

إن الإعلام المغاربي المستقل بدوره والمتوازن بأدائه هو أداة للتنمية، ولأن التنمية هدف وطني عام تسعى الدول المغاربية بكل سلطاتها لتنفيذه، لذلك وببساطة يجب أن تقتنع الحكومات تماماً بإمكانية وبضرورة وجود وسائل إعلام مستقلة، فالدول المغاربية أمة تبني حضارتها، ومن حقها أن تكون لها استراتيجية إعلامية مبنية على الوطنية وتستمد مرجعيتها من مبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان، بالاعتماد على الكفاءة والجودة والشفافية.