الحديث عن اتحاد الشغل في تونس، ليس حديثا عن أي كيان سياسي أو مدني آخر بل ليس حديثا حتى عن السلطة ذاتها في كل تاريخها وقوّتها. المسألة يتداخل فيها النقابي بالتاريخي والسياسي والثقافي، بالنظر إلى الرمزية والموقع اللذين يحتلهما الاتحاد في ذهنية الناس وفي حسابات كل من حكموا منذ الاستقلال وحتى قبله إلى اليوم، باعتباره منظمة نقابية تدافع عن العمال في أساسها لكنها لم تغب أبدا عن كل المراحل السياسية التي مرت بها البلاد وكان لها تأثير دائم في أغلب خيارات الأنظمة التي حكمت، والتي غالبا ما كانت تسعى لاستمالة الاتحاد في إطار محاولة "التدجين" أو ضمن بحثها عن شرعية لم تجدها على المستوى الشعبي.
الاتحاد العام التونسي للشغل هو منظمة نقابية تأسست في 20 يناير 1946، أي قبل 10 سنوات من استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي. تركزت نشاطاته في مراحل أولى على العاملين في القطاعات الحيوية والإدارية العمومية، قبل أن يتوسع دوره نحو القطاعات الخاصة ويصبح اليوم الهيكل النقابي الأكبر في البلاد. ورغم تأسس نقابات أخرى قبل الثورة وبعدها لكن بقي الأكبر والأكثر قدرة على التحشيد وتجميع النقابيين، حيث ينخرط فيها ما لا يقل عن 80 بالمائة من موظفي الدولة.
وبالإضافة إلى الدور النقابي الذي يقوم به، كانت المسألة السياسية مقترنة به منذ تأسيسه، حيث لعب دورا في العلاقة بالاستعمار الفرنسي، وكان موقفه حادا جدا من الوجود الفرنسي في البلاد، وشارك مناضلوه في مختلف التظاهرات التي عاشتها البلاد قبل الاستقلال وبعدها، واتسمت علاقته بالسلطة بالاضطراب في أغلب الفترات، حيث كان موقعا يختبئ فيها حاملو الأفكار السياسية، بل إن المواقع داخله تكون عن طريق الديمقراطية التمثيلية التي تمنح الأطراف السياسية في البلاد فرصة التواجد في هياكله، خاصة قبل 2011، عندما كانت مساحة النشاط والتنظم ضيقة ومصدر قلق للجميع، وتواصل الأمر بعد 2011، عندما تضاعف دوره إلى التصريح بمواقف سياسية مباشرة، خاصة بعد وقوع اغتيالات في البلاد وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
كما كان للاتحاد رأي ودور مهم حتى في القضايا العربية الكبرى، وإلى اليوم تعتبر قضية الصراع العربي الصهيوني، "مقدّسة" في قوانينه. فقد ساهم في سنوات تأسيس كيان الاحتلال في إرسال الكثير من المتطوعين التونسيين للمشاركة في حرب الدفاع عن الأراضي العربية واستشهد العشرات منهم على أرض فلسطين وتواجد دائما في طليعة المواقف والتظاهرات الرافضة لجرائم الاحتلال والمساندة للفلسطينيين.
لكن على الرغم من الدور الذي يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل في مختلف القضايا المذكورة، لكن مازالت بعض الأصوات تعتبره مؤسسة بيروقراطية منغلقة، رهينة أطراف سياسية ليست خفية على أحد. كما أن المواقع غير خاضعة للتمشي الديمقراطي التقليدي، بل هي ديمقراطية شكلية تعمل على إرضاء المكونات الفاعلة فيه وهذا أمر دارج في أغلب المؤتمرات التي تم إنجازها وآخرها المؤتمر الأخير، الذي خلف جدلا كبيرا حتى داخل أنصار المنظمة الذين يعترضون على ممارسات القيادة الحالية في تغيير فصول تضمن لهم خلافة أنفسهم بعد أن كانت القوانين السابقة تمنعهم.
آخر تطور شهده الاتحاد هو المؤتمر الـ25 الذي انعقد في مدينة صفاقس وسط البلاد، وأعيد فيه انتخاب الأمين العام الحالي نورالدين الطبوبي لـ"ولاية" جديدة مدتها خمس سنوات بعد أن قام بتعديل القانون السابق الذي يمنع ترشحه. وهذا التمشي خلق جدلا وتسبب في خلافات ذهب البعض إلى أنها قد تتسبب في تراجع شعبيته، حيث تعارض بعض النقابات الأساسية وعلى رأسها نقابات التعليم ما قام الطبوبي في تعديل قانون الترشح معتبرة أنها انزياح خطير في قوانين المنظمة ونوايا من المكتب الحالي في أن "ينقلب" على تاريخ كامل يمنع كل شخص من البقاء لفترتين لا تتجاوزان مجتمعة 4 سنوات.
انتخاب الطبوبي يؤشر ربما للتأثير الكبير الذي يمارسه الرجل وقدرته على تطويع النقابات التي لم تكن موجودة في السابق أو أن تأثيرها ضعيف، لكن "التكتيك" الذي اتُّبع جعلها حاسمة في تعديل القوانين الجديدة وربما تكون أداة لـ"دتاتورية" تؤبّد وجود المجموعة الحالية لأكثر وقت ممكن خاصة أنها مجموعة عارفة بكل الكواليس الداخلية للاتحاد ومدركة من البداية أنها في طريق مفتوح لخلافة نفسها وغير ملتفتة أيضا للانتقادات التي تلاحقها في الأشهر الأخيرة.
وبعيدا عن المؤتمر والكواليس الداخلية، يواصل الاتحاد تأثيره في الشأن السياسي من خلال الصراع المعلن والخفي مع رئيس الجمهورية قيس سعيّد الذي يشذ عن كل من حكموا البلاد سابقا عبر تجاوزه لكل المنظمات الوطنية واتخاذ قرارته منفردا. فعلى كامل المراحل السابقة كانت السلطة تعامل الاتحاد بالكثير من الليونة حتى في أكثر الفترات خلافا، لكن مع قيس سعيّد بدت الأمور مختلفة نسبيا ولم يعد التعامل كما السابق، ويبدو أن هناك خلافا معلنا أحيانا وخفيا أحيانا أخرى في علاقة بتسيير سعيّد للدولة منذ إجراءات 25 يوليو، وتصريحات الأمين العام نورالدين الطبوبي التي تصل أحيانا حد التشنج خير دليل على ذلك الخلاف، خاصة عبر الدعوة إلى حوار تشاركي مع كل الفاعلين في البلاد، رغم أن الرئيس يحاول أن يتعامل بالكثير من الهدوء مع ذلك إدراكا منه أن فتح جبهة صراع مع الاتحاد ليست في صالحه على الأقل في هذه المرحلة التي يقف فيها أمام سهام كثيرة في الداخل والخارج.