تعــد المؤسسة الليبية للاستثمار، الغطاء الذي يجمع جميع الاستثمارات الليبية بالخارج والداخل، وتقدر قيمة أصولها بنحو 68 مليار دولار بنهاية العام 2015، ويتبعها نحو 550 شركة وتشمل أرصدة نقدية مجمدة تشكل نحو 50% من قيمة الأصول والباقي موجود في شكل استثمارات طويلة الأمد في عدد من المؤسسات الليبية، ويأتي 50% من هذه الاستثمارات في شكل صناديق ومحافظ استثمارية، أما النصف الآخر فتديره المؤسسة بنفسها وهو عبارة عن أرصدة نقدية وودائع لدي بنوك أجنبية واستثمارات في سندات وأدوات استثمارية ذات عوائد ثابتة.

وحسب بيانات ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية، بلغ إجمالي الاستثمارات الليبية في الخارج 255.8 مليار دينار أي مايعادل 196.7 مليار دولار أمريكي حتى نهاية سبتمبر/أيلول 2013.وتوجه الاستثمارات والأموال الليبية في الخارج على غرار نظيرتها العربية نحو قطاع العقارات والخدمات كالاتصالات والطاقة والمناجم، فحوالي 80% منها مستثمر في هذا القطاع، و9% في قطاع الصناعة، والباقي في قطاع الزراعة. إلى جانب الاستثمارات المختلفة بأسواق المال وسندات الخزانة.

غير أن هذه الأموال الضخمة لا يزال التساؤل يدور حول مصيرها، ونتيجة للأوضاع السياسية والأمنية التي تشهدها البلاد، لا تزال هذه القضية يشوبها قدر كبير من الغموض.ففي 26 فبراير 2011، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1970، والذي تم بموجبه تجميد جميع الأموال والأصول المالية والموارد الاقتصادية الليبية في أراضي الدول الأعضاء بالأمم المتحدة. ومنذ ذلك الحين، بقيت السلطات الليبية تخوض معركة حامية لاسترداد هذه الأموال.

انقسامات

انعكس الانقسام السياسي، الذي تشهده ليبيا، على مؤسسات الدولة الاستثمارية، ولم تكن المؤسسة الليبية للاستثمار بمعزل عن هذا الانقسام، فمع وجود حكومتين، تحولت المؤسسة الليبية للاستثمار إلى مؤسستين، إحداهما في طرابلس برئاسة عبد المجيد بريش والأخرى برئاسة فوزي فركاش في طبرق.

وفي أغسطس 2016، أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، الذي يتخذ من طرابلس مقرا له، قرارا بتشكيل لجنة تسييرية جديدة لإدارة المؤسسة.لكن رئيسي المؤسسة، عبد المجيد بريش، وفوزي عمران فركاش، أصدرا بياناً مشتركاً، عبرا فيه عن رفضهما لقرار المجلس الرئاسي.

وفي يناير 2017، أصدرت الدائرة الإدارية الثانية بمحكمة استئناف طرابلس حكما بوقف قرار المجلس الرئاسي بتشكيل لجنة تسييرية للإشراف على المؤسسة الليبية للاستثمار، وذلك بعد الطعن المرفوع من عبد المجيد بريش في قرار الرئاسي كونه جاء مخالفا للقوانين والتشريعات النافذة.

وفي ظل هذه الإنقسامات، كانت هناك محاولات من قبل مؤسسات الدولة التشريعية لاستعادة الأموال الموجودة بالخارج، فقد أصدر المجلس الوطني الانتقالي، ومن بعده المؤتمر الوطني العام السابق، ومجلس النواب الحالي قرارات بشأن تشكيل لجان فنية للبحث عن الأموال المهربة، وخصص لها مبالغ ضخمة، تصل بعضها إلى 10 في المئة من قيمة الأموال المحصلة.

وحسب التقارير السابقة لديوان المحاسبة فإن معظم استثمارات المؤسسة تتكبد خسائر وأصبح رأس مالها يتآكل ومنها ماحقق أرباحاً لا تتناسب مع حجم رأس المال وأن عدم وجود سياسات تحوط وإدارة مخاطر معتمدة لدى العديد من الشركات التابعة للمؤسسة او عدم وجود دراية وقدرة على تنفيذ تلك السياسات سبب تراكماً للخسائر في تلك الشركات وتراكم ديونها. كما أوضحت تلك التقارير عدم تحقيق الصناديق والمحافظ الاستثمارية لأغراضها التي نصت عليها قرارات إنشائها ولم تتمكن من توظيف الأموال التي ضخت في رؤوس أموالها بالكيفية المطلوبة.

وفي مارس 2016، تقدم مبعوث ليبيا للأمم المتحدة برسالة إلى مجلس الأمن الدولي، يطلب فيها وقف تراجع قيمة أموال المؤسسة الليبية للاستثمار بسبب سوء الإدارة.إلا أن مسألة إستمرار الإنقسامات في ليبيا كانت دائما السبب وراء فشل رفع العقوبات، التي نص عليها قراري مجلس الأمن 1970، و1973.

سوء إدارة

هذه الانقسامات، جعلت المؤسسة الليبية للاستثمار التي تدير مليارات الدولارات في الخارج، عرضة لتدخل الجماعات المسلحة المتحكمة في العاصمة طرابلس، من خلال التعيينات التي تفرض بالقوّة، وفقا لما كشفه تقرير أممي حول ليبيا، شهر سبتمبر الماضي.وأوضح فريق الخبراء المعني بليبيا في الأمم المتحدة، وجود انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان واختلاسات مالية ضخمة، وذلك بسبب تزايد تأثير المجموعات المسلحة على مؤسسات الدولة الليبية في إطار سعيها إلى تعزيز مصالحها المالية ونفوذها.

وكشف التقرير، عن تدخل "كتيبة النواصي" في أنشطة المؤسسة الليبية للاستثمار، التي أجبرت على تعيين أحد مرشحي الكتيبة في المؤسسة، بينما فرضت كتيبة "ثوار طرابلس" نقل مقر المؤسسة إلى مناطق نفوذها وبالتحديد بالمدينة السياحية بالعاصمة طرابلس، بعدما كانت تسيّر من مقرها ببرج طرابلس الواقع تحت سيطرة "كتيبة النواصي".

وفي تصريح لـ"العربية.نت"، أكد النائب بالبرلمان علي التكبالي، أن "عدم الاستقرار الإداري لها وتدخل الجماعات المسلحة في توجيه أنشطتها، وتسلّل قادة الميليشيات إلى الوظائف العليا بالبلاد، إلى جانب الغموض الذي يشوب قيمة الأرصدة الليبية المجمدة في الخارج، عوامل تجعل من السهل الوصول إلى أرصدة المؤسسة والاستفادة منها، خاصة في ظل عدم وجود آلية رقابية عليها بسبب الانقسام المؤسساتي الذي تعيشه البلاد".

ومثل تضارب بيانات المؤسسة الليبية للاستثمار، مؤخرا، للرد على ما تردد في تقارير وسائل الإعلام البلجيكية، بشأن سحب مبالغ من فوائد الأموال الليبية المجمّدة في بلجيكا، بموجب نظام العقوبات بالأمم المتحدة، مصدرشكوك بشأن فرضية سوء استخدامها في ليبيا أو اختلاسها.

ففي بيان لها مطلع نوفمبر الحالي، نفت المؤسسة الليبية للاستثمار ماوصفتها بـ"الإدعاءات" بشأن مخالفات مزعومة مؤكدة عدم وجود دليل على الإطلاق بأن أي أموال قد أُستخدمت لتمويل الجماعات المسلحة، كما أن تقرير الأمم المتحدة المفصل الأخير لم يستنتج حدوث أي خرق لنظام العقوبات من قبل المؤسسة الليبية للاستثمار ، وفقاً للبيان. 

عقب ذلك، أقرّت المؤسسة الليبية للاستثمار، في بيان نشر في 11 نوفمبر، أنها استلمت فوائد الأموال الليبية المجمّدة في البنوك البلجيكية حتى نهاية شهر أكتوبر 2017، لكنها اعترفت أنها لا تعلم مصير هذه الأموال والجهات التي استفادت منها.جاء ذلك ردا على اعتراف بلجيكا بصفة رسمية بتحويل مصرف "يورو كلير" في بروكسيل، فوائد العوائد الليبية المجمدة في 4 مصارف بلجيكية، إلى حسابات بنوك في لوكسمبورغ والبحرين وبريطانيا.

وعادت المؤسسة، لتؤكد إنها لم ترصد أيّ حالة من حالات إساءة استخدام فوائد الأموال المجمدة لدى مصرف "يوروكيلير" البلجيكي أو اختفائها.وأوضحت، في بيان مساء الجمعة 23 نوفمبر، أنه "بعد الفحص والتدقيق الذي قام بهما فريق من المختصين بشؤون المالية والخزينة في المؤسسة، تبين أنه منذ تعيين مجلس الإدارة الحالي في يوليو من العام الماضي، لم تقع أي إساءة لاستخدام أموال المؤسسة خلال هذه الفترة.

وأضافت، أن التحقيق شمل أيضا أموال المؤسسة وعوائدها في الفترة السابقة لشهر يوليو، وتبين أنها "إما مودعة في الحسابات المصرفية لها، أو استخدمت لتمويل عملياتها الاستثمارية وفق القانون، لافتة إلى أنه "لا يوجد أي دليل على استخدام أرصدتها لتمويل الجماعات المسلحة".

لكن توضيحات، المؤسسة الليبية للاستثمار، لم تنجح في تقديم الأجوبة عن الوجهة النهائية لهذه المليارات المسربّة، وهو ما عبر عنه رئيس لجنة الحوار المنبثقة عن البرلمان، عبد السلام نصية، الذي قال في تغريدة عبر حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "مرة أخرى نحن لا نريد معلومات عن كيف أفرجت بلجيكا عن فوائد الأموال الليبية المجمدة وما قانونية ذلك، نحن نريد أن نعرف أين ذهبت هذه الأموال وكيف تم التصرف فيها. يجب على المؤسسة الوطنية للاستثمار تحديد ذلك وبكل سرعة، وعلى النائب العام التحرك وتكليف قاضي تحقيق خاص".

ووبدوره، سارع البرلمان الليبي لارسال وفد إلى بروكسيل للتحقيق في قضية تصرف بلجيكا في فوائد الأموال الليبية المجمدة لديها منذ عام 2011، وقال النائب بالبرلمان جاب الله الشيباني في تصريح للعربية.نت، أن "مجلس النواب كلف لجنة المالية والتشريعية والخارجية بمتابعة هذه القضية لعرفة الحقيقة، قبل اتخاذ الإجراءات اللازمة الرادعة حيال كل من تسول له نفسه المساس بثروة الشعب الليبي".

تحديات

وتواجه الاستثمارات الليبية في الخارج، تحديات كبرى لعل أبرزها المحافظة عليها من التبديد والنهب، خاصة في ظل تصاعد مؤشرات وشواهد عدة تقطع بأن الأموال الليبية في الخارج تتعرض لضياع وقرار مجلس الأمن القاضي بتجميدها، أي منع التصرف فيها، يتم خرقه ولم يقم المجلس بما ينبغي لمنع الخروقات، وتعجز السلطات الليبية عن الدفاع عنها.

أولى هذه المؤشرات كان مع إعلان العديد من الحكومات الأجنبية تاميمها للعديد من الشركات التي تملكها المؤسسة مثل إعلان حكومة ساحل العاج في يونيو 2016 تأميم ثلاث شركات للهاتف المحمول، بينها شركة لاب غرين المملوكة للمؤسسة وتأميم فندق 2 فبراير من قبل الحكومة التوجولية وتأميم فندق لايكو غامبيا من قبل الحكومة الغامبية وتأميم الشركة الرواندية الليبية لتنمية وتطوير الفنادق من قبل الحكومة الرواندية.

كما بدأت هذه الأرصدة تسيل لعاب بعض الدول الحاضنة لها، على غرار بريطانيا، التي تسعى منذ فترة إلى إعداد قانون يسمح لها باستخدام الأرصدة الليبية المجمّدة ببنوكها، لتعويض ضحايا الجيش الإيرلندي التي تتهم لندن نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي بدعمه في ثمانينيات القرن الماضي.

وتواجه الاستثمارات الليبية، تحديات كبرى، حددها تقرير بعنوان الإدارة الرشيدة للاستثمارات والأموال الليبية في الخارج، نشرته المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات، في أربع نقاط؛ الأولى خاصة بالمؤسسة الوطنية للاستثمار الخارجي، وعدم التزام مسؤوليها بالقوانين والنظم المعمول بها.

ويتعلق التحدي الثاني، بتحديات خاصة بشركة الاستثمارات الأفريقية لعدم قيام الشركة بمتابعة الحسابات الجارية، حيث إن تلك الحسابات تتضمن العديد من المبالغ المعلقة بها، كما تضمنت تلك الأرصدة مبالغ تخص علاوة السفر والمبيت وتذاكر السفر والمصروفات الأخرى، لم تسو ضمن المعلقات المختلفة.

أما التحدي الثالث، فيتمثل في المشروعات التابعة للشركة الليبية للاستثمارات الإفريقية، حيث لم تقم إدارة المشروعات بالشركة، بمتابعة أغلب المشاريع لعدم توفر كافة البيانات الفنية والمالية رغم توفر وسائل الاتصالات، بجانب ضعف الشركة في مجال الاستثمار الأمثل للمشاريع.

ويتمثل التحدي الرابع بحسب التقرير في عقبات فنية وتشريعية تواجه المؤسسة الليبية للاستثمار، لعدم وجود كفاءات ليبية محترفة في مجال الاستثمار عامة وإدارة المخاطر خاصة، هذا إلى جانب عدم وجود محامين ليبيين متخصصين في مجال قوانين الشركات، ووجود مديرين يسعون أولا وأخيراً، لإرضاء رئيس مجلس إدارة بكل الطرق للمحافظة على مراكزهم ومكاسبهم.

وقدم التقرير حلولا لتجاوز التحديات القائمة، مؤكدا أن هناك مسارين يجب على الحكومة الليبية اتباعهما أحدهما يتمثل في معالجة اختلالات مؤسسة الاستثمار الليبية وتحسين وضع الاستثمارات الخارجية وتوجيهها نحو الدول والقطاعات الأكثر ربحية، بينما يتمثل المسار الثاني في استعادة تلك الاستثمارات الخارجية واستغلالها محليا لإعادة إعمار الاقتصاد الليبي.

ومنذ سنوات واقتصاد ليبيا يعيش ظروفا سيئة ويمر بأزمات عدة وصلت حد التأزم وألقت بظلالها على المواطن مباشرة، في ظل غياب مؤسسات الدولة، وعجز السلطات المالية والنقدية عن إيجاد حلول للأزمات التي تعصف بالاقتصاد، ويرى مراقبون أن الأموال المجمدة هي الملاذ الأخير لمعالجة الأزمة الاقتصادية، إلا أن عدم حل المشكل السياسي يظل عائقا أمام الخروج من الأزمة الليبية.