في الأسبوع الأول من نيسان/أبريل، شارك 39,000 عضو من أعضاء "حزب النهضة" - الفصيل الإسلامي الرائد في تونس - في استفتاء داخلي لتحديد ما إذا كان سيتم تأجيل المؤتمر الوطني المقبل للحزب أم لا، حيث يتم عادة اختيار مجلس تنفيذي جديد للحزب. وقد وافق أكثر من 70  في المائة من الأعضاء على الحفاظ على تماسك الحزب من أجل التركيز على الفوز في الجولة المقبلة من الانتخابات التشريعية بدلاً من مواجهة خطر التعرض لانقسامات داخلية. وفي المقابل، لا تزال الأحزاب المختلفة في المعارضة العلمانية غير منظمة ومنقسمة حسب طموحاتها - وبعد مرور أشهر من المساعدة في الضغط على الائتلاف الحاكم بقيادة "حزب النهضة" لترك السلطة والموافقة على خارطة طريق للمرحلة الانتقالية، لا تتمكن هذه  الإحزاب من الاتحاد، سواء ضد خصومها الإسلاميين أو حول مشروع سياسي مشترك. والأهم من ذلك، يواجه الإسلاميون والعلمانيون على حد سواء مهمة شاقة في إقناع الناخبين التونسيين المتشككين بشكل متزايد بأنهم جادين في معالجة القلق الاجتماعي والاقتصادي والأمني في البلاد بدلاً من التطاحن مع بعضهم البعض.

من أزمة إلى حوار

في تموز/يوليو 2013، اغتيل النائب اليساري محمد البراهمي، الأمر الذي أثار أزمة سياسية في تونس هي الأكبر منذ الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي عام 2011. وحيث أن ما يقرب من ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية قد حمَلوا الحكومة التي يترأسها الإسلاميون المسؤولية الأخلاقية عن جريمة القتل - التي جاءت بعد فترة ليست طويلة من حادث اغتيال سياسي آخر - شخصية تتمتع بمكانة عالية في شباط/فبراير، دخل هؤلاء الأعضاء في إضراب مفتوح. كما نظم نواب المعارضة جنباً إلى جنب مع الآلاف من المحتجين المستلهمين من الانتفاضة ضد الرئيس الإسلامي محمد مرسي في مصر، اعتصاماً طالبوا فيه بحل الجمعية، ونصبوا مخيمات أمام مبنى البرلمان لمدة تقارب ثلاثة أشهر.

ولم يؤدي ذلك الاعتصام إلى وقف اعتماد الدستور الجديد للبلاد فحسب، بل إلى ارتفاع حدة التوتر أيضاً بين "جبهة الإنقاذ الوطني" الممثلة للكتلة العلمانية وائتلاف السلطة الثلاثية المشتركة [الترويكا] الحاكم، الذي يضم "حزب النهضة" واثنين من حلفائه غير الإسلاميين هما "التكتل" و "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية". هذا وقد رفض أنصار المعارضة - الذين يَنظر إليهم أنصار الترويكا على أنهم مجموعة من الانقلابيين المحتملين الذين رفضوا التحول الديمقراطي في البلاد - أي نوع من الحوار مع الحكومة. ورداً على ذلك، شن مدنيون موالون للإسلاميين حملة على المحتجين في الأيام الأولى للاعتصام، كما قامت قوات الشرطة بضرب عضو برلمان من يسار الوسط.

وفي النهاية، سادت فكرة السعي لإيجاد حل سلمي بين جميع الأطراف، ولكن ليس بشكل كامل بسبب النضج المفترض للأحزاب السياسية التونسية التي كانت منشغلة في التحدي والمعارضة. وبعد قيام ضغط من قبل أربع جهات فاعلة رئيسية في المجتمع المدني هي "الاتحاد العمالي التونسي للشغل"، و "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية " (جمعية لأرباب الأعمال)، و "نقابة المحامين التونسيين"، و "رابطة حقوق الإنسان"، اضطر ائتلاف الترويكا والمعارضة - غير المخلصة بدرجة كبيرة - إلى المشاركة في "الحوار الوطني". هذا وقد سهلت دول ومنظمات دولية شريكة بشكل أكبر في قيام ذلك الحوار من خلال تجميد جهودها المالية الرامية إلى دعم عملية التحول الديمقراطي البطيئة وغير المنتظمة في تونس. ومن خلال قيام مفاوضات شاقة برئاسة اللجنة الرباعية المشكلة من المجتمع المدني، اتفق الطرفان أخيراً على خارطة طريق تتضمن اعتماد دستور توافقي وتعيين حكومة تصريف أعمال محايدة في كانون الثاني/يناير. ومنذ ذلك الحين تم تكليف الحكومة بقيادة رئيس الوزراء مهدي جمعة بالتحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية قبل نهاية العام.

ما هو مستقبل الترويكا؟

لقد اتبع ائتلاف الترويكا الإجراء الصحيح برفضه تسليم السلطة إلى حكومة غير منتخبة وإصراره على بقاء الجمعية التأسيسية كما هي. ومن غير المهم إذا فعل ذلك سعياً وراء تحقيق مصالحه الخاصة أو المصلحة الوطنية - فمثابرته المستمرة قد فتحت الباب أمام "الحوار الوطني"، وبالتالي أدت إلى الحفاظ على الديمقراطية التونسية.

غير أن نتائج الحوار جاءت ضد مصلحة الإسلاميين إلى حد ما لأن خارطة الطريق تعكس إلى حد كبير مطالب المعارضة العلمانية. فالموافقة على دستور علماني معتدل والتخلي عن السلطة لصالح حكومة تكنوقراط تكون مهمتها الرئيسية عكس تعيينات "حزب النهضة" وسياساته هي أمور لم يتقبلها أنصار القاعدة الشعبية للحزب بصدر رحب، حيث انتقدوا الموقف "المتساهل" لقيادتهم لفترة من الوقت. وفور انتهاء الحوار، كان يبدو أن هذا الحزب المتنوع للغاية - على الرغم من المظاهر - قد فقد قليلاً من تماسكه الذي غرسه فيه أحد مؤسسيه راشد الغنوشي. وبالفعل أدت المهمة الصعبة المتمثلة بتعزيز التوافق والإجماع بين الأعضاء من خلال تقديم تنازلات إلى إلقاء الضوء على الانقسامات داخل "حزب النهضة" وحفزت إحداث عدد من الانشقاقات.

وحتى مع ذلك، عزز "حزب النهضة" من موقفه على الساحة السياسية التونسية بإبداء المرونة المطلوبة، فضلاً عن الالتزام الراسخ بالديمقراطية. وقد تجلى هذا الالتزام مرة أخرى خلال الاستفتاء الداخلي الذي تم إجراؤه الأسبوع الماضي. غير أن المؤهلات الديمقراطية قد لا تكون كافية لضمان تحقيق الحزب لفوز صريح آخر في صناديق الاقتراع.

وستقرر الهيئة الاستشارية الداخلية لـ "حزب النهضة" فيما إذا كانت ستدفع بمرشح في الانتخابات الرئاسية القادمة. ووفقاً للمتحدثة باسم الحزب يسرى الغنوشي التي مقرها في لندن، هناك اتجاه قوي للامتناع عن الدفع بمرشح رئاسي، على الرغم أن "كل الخيارات مفتوحة". وتمشياً مع جهود "حزب النهضة" للظهور كمؤيد لفكرة تقاسم السلطة، وبناء توافق في الآراء، وتحقيق التوازن في البلاد، يمكن تفسير هذا الموقف أيضاً بإدراك الإسلاميين أنهم لا يستطيعون الفوز بنسبة 50 في المائة من الأصوات في انتخابات وطنية. وعليه فمن المرجح دعم "حزب النهضة" لمرشح غير إسلامي، إلا إذا قرر رئيس الوزراء الأسبق حمادي الجبالي - الذي قدم مؤخراً استقالته من منصب الأمين العام للحزب - ترشيح نفسه للإنتخابات. وقد اكتسب الجبالي ثقة بعض العلمانيين بعد انخراطه في عملية النقد الذاتي في أعقاب اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، لذا فقد يكون هو الشخصية الوحيدة في "حزب النهضة" التي لديها ما يلزم لردم الهوة بين حزبه والناخبين غير الإسلاميين. وبعد تقديم استقالته، أعلن أنه قد يرشح نفسه كمستقل بدعم من "بعض الأحزاب السياسية."

أما فيما يتعلق بالانتخابات التشريعية، التي ستحدد الائتلاف الحاكم المقبل، يواجه "حزب النهضة" والأحزاب العلمانية على حد سواء استحالة الفوز بأغلبية في البرلمان. ولا يبدو أن قادة "حزب النهضة" - الذين سيضطرون إلى الدخول في ائتلاف حال رغبتهم في الوصول إلى أية وزارة مرة أخرى - منزعجين من هذا الاحتمال. وبعد تقييم واقعي لميزان القوة المتشرذم، فمن المرجح أن يكون "حزب النهضة" قد أعاد تركيزه على الفوز بأكبر أقلية فضلاً عن ميزة اختيار رئيس الوزراء المقبل.

وفي الوقت نفسه، يحاول شريكان لـ "حزب النهضة" في الترويكا استعادة شعبيتهما المفقودة. وقد بدا "حزب التكتل" في غاية الضعف منذ أن بدأ أنصاره ينظرون إليه على أنه غير ثابت على مواقفه وخاضع لـ "حزب النهضة". وسوف يواجه حزب يسار الوسط صعوبات بالغة للبقاء في المعارضة إلا إذا أعاد الاتصال بحلفائه السابقين في الترويكا. وفيما يتعلق بـ "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي يتزعمه الرئيس منصف المزروقي، فإنه يستعيد بعض الزخم في الجنوب وأجزاء أخرى من البلاد من خلال مواصلة حملة قومية لحماية الموارد. ووسط احتجاجات حول توزيع الثروة النفطية في محافظة تطاوين الجنوبية، لجأ "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية"، جنباً إلى جنب مع مختلف الاتحادات والمنظمات غير الحكومية، إلى أحكام الدستور الجديد فيما يتعلق بالسيادة الوطنية على الموارد الطبيعية لطلب إعادة النظر في تراخيص التنقيب عن النفط والغاز الممنوحة منذ استقلال تونس.

خمسون ظلاً للعلمانية

على الرغم من الإيفاء بمطالب المعارضة، إلا أن خارطة الطريق لـ "الحوار الوطني" لم تكن فعلياً الانتصار الذي سعت من أجله الأحزاب العلمانية. وفي الواقع، أزالت المفاوضات النقاب عن حالة الانقسام والتفكك التي تعتري المعارضة، والتي قد يظهر أثرها الضار في الانتخابات المقبلة. فـ "جبهة الإنقاذ الوطني" - التي كان من الممكن أن تغدو منبراً لاستراتيجية انتخابية مشتركة - قد تصدعت بسرعة عندما حان الوقت لاختيار رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية.

واليوم، يستجدي كل من يُطلق عليهم أحزاب "الوسط" كامل انتباه الناخبين، إلا أن الفروق التي تميز بين هذه الأحزاب غير مفهومة لعموم الشعب التونسي. وقد همشت "الجبهة الشعبية" - الفصيل اليساري المتشدد السابق لـ "جبهة الإنقاذ الوطني" - نفسها بتبنيها وجهات نظر اشتراكية متشددة، واتباعها أجندة مناهضة بشدة لـ "حزب النهضة" بالإضافة إلى رفضها توحيد قواها مع الرموز السابقة من "التجمع الدستوري الديمقراطي"، الحزب الذي كان يحكم في عهد بن علي. وبالتأكيد ستُترجم هويتها المميزة بشدة في عدد من مقاعد البرلمان، ولكن من المرجح أن تستتبع آراؤها المتشددة عزلة دائمة بغض النظر من هو الفائز.

ومن بين الأحزاب العلمانية، يظهر أن "نداء تونس" هو الحزب الوحيد القادر على تحدي "النهضة". ويبدو أن الحزب، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الباجي قائد السبسي البالغ من العمر سبعة وثمانين عاماً، يفقد تعدديته. فبعد أن كان الحزب يضم توليفه متباينة من القوميين والسياسيين اليساريين والحرس القديم والاشتراكيين، إلا أنه شهد في الآونة الأخيرة ظهور كبار رموز "التجمع الدستوري الديمقراطي"، الأمر الذي أدى بدوره إلى إقدام بعض أعضاء اليسار على الاستقالة. ويمثل حزب السبسي النظام القديم بصورة كبيرة مقارنةً بالجبهة الثورية المتحمسة الأقل جاذبية الآن. وفي المرحلة القادمة، سيكون بمقدور هذا الحزب الاعتماد على النفوذ الاقتصادي لـ "التجمع الدستوري الديمقراطي" وشبكاته الإقليمية من المقاتلين، التي لا تضاهيها من حيث الحجم سوى شبكات "حزب النهضة" الإقليمية.

وإذا نجح العلمانيون في نهاية المطاف في التغلب على خلافاتهم وتشكيل تحالف كبير قبل خوض الانتخابات، فسيضحى بمقدورهم جمع أغلبية كبيرة بما يكفي لحكم البلاد دون الحاجة إلى الحصول على مساعدة من "حزب النهضة". ولكن إذا فشلوا في توحيد صفوفهم قبل بدء الانتخابات، فسيضطر بعضهم إلى الالتفاف حول "حزب النهضة"، الذي من المرجح أن يحصل على أكبر الكتل البرلمانية - إن لم يكن أكبرها مرة أخرى. والسيناريو الأخير يعلق بكل تأكيد في أذهان العديد من الأحزاب العلمانية، بما في ذلك "نداء تونس"، الذي دخل بالفعل في مناقشات مع الحزب الإسلامي المهيمن.

والفائز سيكون...

في تونس كان الشعور بالارتياح تجاه تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة مهدي جمعة لم يعكس كم العداء الشعبي الكبير تجاه "حزب النهضة"، بل أظهر غضب الشعب وسخطه على الحياة السياسية المثيرة للجدل في مجتمع منقسم. وقد ألقت الحدود الأيديولوجية بين هويتين متنافيتين بظلالها على المظالم الاجتماعية والاقتصادية للسكان الفقراء.

وحتى الآن، وعد جمعة بمعالجة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تونس، خاصةً فيما يتعلق بعجز الموازنة الذي وصل إلى مستوى قياسي نتيجة زيادة الرواتب الحكومية بنسبة 50 في المائة وارتفاع الإعانات الموروثة عن الإدارة السابقة بنسبة 300 في المائة. وقد تمخض عن زيارة رئيس الوزراء الأخيرة إلى واشنطن ضمان قرض بقيمة 500 مليون دولار أمريكي كانت تونس في أمس الحاجة إليه، بيد أن ذلك لن يكون كافياً لسد فجوة التمويل، إذ أن الحل الصحيح سوف يتطلب اتخاذ تدابير تقشفية وتطبيق إصلاحات هيكلية لم يُعلن عنها بعد. ورغم ذلك، فإن رفع العلاقات الأمريكية التونسية إلى مستوى "الشراكات الاستراتيجية" التي تركز على التعليم والأمن والتعاون الاقتصادي هو أمر هام. ومن الممكن أن تساعد الشراكات الاستراتيجية، من بين مزايا أخرى، في تصحيح التوجهات بين العديد من التونسيين بأن الدعم الغربي لم يضاهي الأهمية الرمزية والاستراتيجية لبلادهم، التي تم التقليل من شأنها. وبفضل المرونة التي أظهرها المجتمع التونسي، لا تزال إمكانيات هذه الشراكة قابلة للإنقاذ وتستحق مزيداً من الاهتمام بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى التي تملك مؤهلات ديمقراطية أقل إثارة للغبطة. إن زيادة الدعم الأمريكي هي إشارة مشجعة، في الوقت الذي تحاول فيه تونس الرجوع إلى الطريق الصحيح من خلال تحويل التركيز السياسي من الأيديولوجية إلى الإصلاح الفعلي.

وفي الواقع، فإن الخط الفاصل بين العلمانيين والإسلاميين - حتى المسلم مقابل "الكافر" - الذي هيمن على انتخابات 2011 تحل محله الآن تدريجياً المخاوف الاقتصادية والاجتماعية وتلك المتعلقة بالأمن، باعتبارها القضايا السياسية الأساسية. وعلى وجه التحديد، إن أي سياسي يخفق في تقديم حلول ملموسة لمواجهة الصعوبات الاقتصادية في تونس سوف يُعاقب في صناديق الاقتراع. فلن يكون بمقدور الإسلاميين استجداء الشعب بخطابهم الديني، وسيتم نبذ العلمانيين مرة ثانية إذا لم يكن لديهم ما يقدمونه غير أجندتهم المعادية للإسلاميين. وفي الواقع، فيما يخص العديد من الناخبين الذين ذهبت اهتماماتهم بالمشاركة الديمقراطية أدراج الرياح بفعل السياسات المتعنتة، فإن الضرر قد وقع بالفعل، مما سيجعل المقاطعة الفائز الأكبر في الانتخابات المقبلة.

*  معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى