تتواصل أعمال القتل والاغتيالات واستهداف رموز الدولة إلى حدود المدة الأخيرة، لتطال أقطارا متفرقة من الوطن العربي والعالم المسلم (لعل آخرها ما حدث في تونس من اغتيال لعناصر أمنية كانت تحرس بيت وزير الداخلية)، وهي أعمال إرهابية تنفذ باسم الإسلام وتجد تبريرها في فتاوى يتيمة صادرة عن جماعات أصولية. ما دفع إلى العودة إلى الأصول النظرية المؤسسة لظاهرة التكفير. وذلك في الجزء المتعلق بأصول التكفير لدى الإسلاميين في كتاب صالح زهر الدين “الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر”.

ينطلق الباحث اللبناني صالح زهر الدين في الجزء المتعلق بالتكفير من المصدر الذي اعتبره “الرئيسي” في الفترة المعاصرة، والمعارض لفكرة الدولة الحديثة والمواطنة، وهو “أبو الأعلى المودودي” الذي أسس بدوره لمرجعية فكرية كانت توجه المصري سيد قطب في جل أفكاره وتحركاته التي أسست للإرهاب الإخواني اليوم.

 

المودودي شيخ التكفير

 

مثلما أوجد المودودي أصول مصطلح الحاكمية، فإنه يعد الأول الذي أوحى بـ”التكفير” المؤسس على غيبة الحاكمية (أي تمثيل الله على الأرض) وتجهيل المجتعات في تقييمه وحكمه على المجتمعات الإسلامية المعاصرة وعلى مراحلها التاريخية التي وصمها بالجاهلية. فكل المجتمعات في نظره التي لا تطبق الشريعة الإسلامية والفروض الاجتماعية التي يراها هو (أي المودودي) هي مجتمعات جاهلية. وفي هذه الحالة فإنه ينفي الإسلام عن الغالبية الساحقة من المسلمين.

ويرى صالح زهر الدين أن المودودي قد استخدم مفهوم الجاهلية كحكم مسقط و”غريب”، وكسلاح معرفي لرفض الفكر الغربي وفلسفته التي أسست لمفهوم الدولة والنظام والمؤسسات والتحرر من السلطة الدينية.

كما استخدمه كأداة لرفض أنماط العيش والنظم السائدة في بلاده (الهند) وفي العالم على حد سواء، وكأنه يسقط تجربته الذاتية داخل الجغرافيا الهندية على العالم أجمع.

ويستشهد الباحث بكلام المودودي ذاته الذي كتبه في “نظرية الإسلام” والذي يصف المسلمين بأن “فكرهم موروث وجاهلي والوافد الذي أخذوه عن الحضارة الغربية هو جاهلية جديدة معاصرة”.

بل ولم يتوقف المودودي عن تكفير الخارجين على دائرة أفكاره ومعتقداته في المجتمعات الغربية فقط، بل إنه يعيد هيمنة الغرب إلى اضمحلال الخلافة وابتعادها عن الحدود الجغرافية والثقافية والعسكرية لأوروبا في إشارة إلى سقوط الدولة العثمانية التي كان يعتقد أنها فعلا خلافة للمسلمين في العالم، داعيا إلى العودة فعلا لفكرة الحرب والغزو وضم الشعوب والثقافات الأخرى قصرا إلى دولة المودودي التي يعتبرها إسلامية محضة تواجه الكفر المحض.

 

دولة رعاع دون مواطنين

 

ويخلص الكاتب من خلال فكرة الحاكمية والتكفير إلى مسألة تتعلق بالدولة “المودودية”. إذ يصف المودودي دولته بأنها “دولة أيديولوجية بالمعنى العقائدي (ثيوقراطية)” فهي لا تشكل وحدة إقليمية أو قومية أو عرقية أو طبقية، بل وحدة عقائدية روحية غير ملموسة، وهي “دولة شاملة لا مجال فيها للريب لأنها مهيمنة ومطلقة أساسها القانون الإلهي الذي وُكّل إلى الحاكم المسلم تنفيذه في الناس”، وطبعا دون أن يشير المودودي في “نظريته” إلى طبيعة هذا الحاكم وماهيته وشروط اختياره وكسب الرضاء من المسلمين.

وفي إشارة الباحث صالح زهر الدين إلى طبيعة الحقوق وواجبات الناس الذين ينتمون إلى هذه الدولة المودودية، يؤكد أن كل كتابات المودودي تفرق بين المسلمين وغير المسلمين من جهة، وتفرق حتى بين المسلمين أنفسهم من جهة أخرى.

ويقول المودودي في هذا الصدد “إنّ من لا يقبل بحكم الجماعة لا يُسمح له بالتّدخل في شؤون الدولة أبدا، وله أن يعيش في الحدود كأهل الذمة (…) ولا يكون له حظ في الحكومة في أيّة حال من الأحوال، لأنّ الدولة دولة حزب خاص مؤمن بعقيدة خاصة وفكرة خاصة به”. فطريقة المودودي في فهم الإسلام هنا، هي معيار المواطنة بالنسبة له؛ حيث ينقسم الناس في هذه الدولة بين مسلمين وأهل ذمّة.

أمّا من كان مسلما فله أن يمارس حقوقه السياسية كاملة وأمّا من لم يكن مسلما فلا يَأمن إلاّ بحياته وممتلكاته وشرفه. ومن يعارض الحكم من بين المسلمين تسلب حقوقه ويعتبر من أهل الذمّة، هذا إذا لم يتم تكفيره والإفتاء بإهدار دمه.

ويشير الباحث زهر الدين إلى أن هذا التفكير هو الذي شرّع للأصوليين قتال الناس في أوطانهم ومعادات كل الأنظمة السياسية والمنظومات الفكرية والفلسفية، حيث يقسم هذا التفكير البشر إلى قسمين؛ قسم تابع ينتمي إلى حزب الدين والله، وقسم عدوّ ينتمي إلى الدنيا والبشر.

 

سيد قطب ووراثة الظلام

 

عبّر سيد قطب عن تأثره بالمودودي من خلال كتابه الذي كتب معظمه في السجون، وهو “معالم في الطريق”، والذي مثل وثيقة ملتهبة وملهمة لكل الجماعات العنفية، لا جماعة الإخوان المسلمين فحسب، على اعتبار أنّه كان الكتاب الحاضن للأفكار الرئيسية للنظرية المودودية القائمة على الحاكمية الإلهية والعبودية والجاهلية الحديثة.

وفي هذا الإطار يذهب صالح زهر الدين إلى القول بأنّ سيد قطب “لا ينقل فقط نظرية المودودي، بل يمتصها ويحولها ويعيد بناءها في استراتيجية نظرية جديدة، بعد أن عرّبها بمعنى أنّه قدمها واستوردها للعرب”. وقد أكسب كتاب “معالم في الطريق” سيد قطب بعده التكفيري الجهادي في صياغته لمفهوم الحاكمية المستوحى من فكر المودودي.

وقد استنتج زهر الدين أنّ محاكاة سيد قطب للمودودي كانت ناتجة عن العقدة المشتركة التي تجمعهما، وهي “التأثر بالمعتقل لسنوات طويلة” وإنتاج منظومة أفكار تعكس التمثل البائس والفاقد للأمل للعالم والموجدات، وهو انعكاس للشعور المحبط الذي يسود فكر الرجلين أثناء قضائهما لسنوات الاعتقال. ويعتبر سيد قطب الرجل الّذي استصاغ الطرق الحركية لأفكار المودودي.

فقد سعى قطب سريعا لترجمة الجانب النظري الذي اختزله إلى أوجه تنظيمية وحزبية وحركية تتماهى مع ديناميكية المجتمع الذي تنشط في جماعة الإخوان، ليتحول شيئا فشيئا إلى مجال واسع لتغلغل الجماعة. فقد كان قطب المؤسس الفعلي للتنظيم الخاص السرّي للإخوان المسلمين، وهو الذي أشرف على العديد من العمليات الإرهابية ومحاولات الاغتيال المتكررة، الّتي أراد من خلالها أن يفتك بسياسيين وزعماء، وقد طالت فعلا العديد منهم، وخاصّة المفكرين والكتاب.

ويعود هذا العنف المتشدد، حسب صلاح زهر الدين من خلال قراءته لكتابات قطب والمودودي، إلى نفي هذا الفكر للحضارة الحديثة ورفضه لإرادة الإنسان في التطور والتماشي مع التاريخ، بل إنّ “التكفير والحاكمية ربما تعودان إلى إيعاز كولونيالي يريد تأبيد التخلف لدى شعوب العرب والإسلام”، إذ لم يعلن أيّ من المودودي أو قطب عن تبني أيّ منوال في الاقتصاد أو الثقافة أو التربية أو السياسة، بل إنّ أساس نظرتهما إلى العالم قائم على الدم والقتل والدمار.

نقلا عن العرب اللندنية