أظهر التوزيع الجغرافي للقائمات الانتخابية أنّ التنافس على مقاعد البرلمان خلال الانتخابات التونسية القادمة يكاد ينحصر بين ثلاثة أحزاب كبرى تستند إلى مرجعيات أيديولوجية مختلفة حدّ التناقض وهي؛ حزب نداء تونس، ذو المرجعية البورقيبية، وحركة النهضة، ذات المرجعية الإخوانية، والجبهة الشعبية، ذات المرجعية الماركسية اللينينة.

في ظل غياب برامج سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة، يمكن أن تدور على أساسها منافسة مشروعة، تبدو الانتخابات القادمة في تونس “معركة أيديولوجية عقيمة” لا تخلو من “تصفية حسابات” بين تيار بورقيبي علماني، يؤمن بالدولة المدنية والمشروع الوطني، وتيار إخواني يؤمن بالدولة الإسلامية وبمشروع “الأسلمة”، وتيار يساري مازال متشبثا بالأيديولوجيا الماركسية اللينينة وبديكتاتورية البروليتاريا.

ترشح كل من حزب نداء تونس وحركة النهضة والجبهة الشعبية في 33 دائرة انتخابية ليغطوا مختلف جهات البلاد، وهذه أول مرة في تاريخ تونس، المشدودة للبورقيبية العلمانية، يزاحم فيها “الإخوان” الإسلاميون و”الرفاق” اليساريون بهذا الزخم وهذه الكيفية، قائمات حملة مشروع “الزعيم بورقيبة”، ما بدا مؤشرا على أن الخارطة الانتخابية تتجاذبها ثلاثة تيارات أيديولوجية أكثر منها أحزاب سياسية تخوض الانتخابات على أساس برامج تستجيب لتطلعات التونسيين السياسية والتنموية.

على مسافة شهرين من الانتخابات زجت القائمات الانتخابية للأحزاب الثلاثة الكبرى بالتونسيين في حالة تمزق فكري وسياسي بين هذه الأيديولوجيات، حتى أنّ الناخب وجد نفسه “ضحية” خلافات أيديولوجية تعصف بها عدائية لا تعنيه في شيء، طالما أن تلك الأحزاب لم تقدم له برامج انتخابية تعالج مشاغله الحقيقة وفي مقدمتها التنمية والشغل.

المفارقة أن تلك الأحزاب تعلم جيدا أن هذه الانتخابات تعدّ لحظة مفصلية في مسار “الثورة”، لأنها أول انتخابات يفترض أن ترسي سلطات تنفيذية وتشريعية دائمة، من المفترض أن تستمد شرعيتها من إرادة الناخبين على أساس برامج انتخابية لا على أساس معارك أيديولوجية عقيمة.

إزاء هذا الوضع الذي فرضته الأحزاب على الرأي العام، يجد الناخب التونسي نفسه مجبرا على أن يكون طرفا “أيديولوجيا” ليختار بين النداء البورقيبي والنهضة الإخوانية والشعبية الماركسية في وقت يتطلع فيه إلى أن يمنح صوته إلى قائمات الحزب الأكثر قدرة على التفاعل مع الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وينتخب برلمانا ممثلا لمختلف الجهات والفئات يعكس إرادة التونسيين الذين يتوقون إلى الحرية ودولة قانون والمؤسسات وتنمية تنقذ الجهات المحرومة من البؤس والتهميش، وفقا لما نشرته صحيفة العرب في عدد اليوم الخميس.

لم يكن الصراع الأيديولوجي جديدا على تضاريس المشهد السياسي التونسي، فهو صراع يعود إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي مع ظهور حركة الاتجاه الإسلامي، (النهضة حاليا)، حين دخلت تونس في “فتنة” لم تخلو من العنف بين مشروع الإسلاميين ومشروع اليساريين، لما أعلن كل من “الإسلاميون” و”الرفاق” العداء للبورقيبية الّتي تفتخر بمكاسب دولة الاستقلال وفي مقدمتها النظام الجمهوري، وبدولة قوية مهابة وحرية المرأة ونشر للتعليم وإشاعة مقومات التنمية.

لكن هذه هي المرة الأولى (على اعتبار أن انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 لم تفرز هياكل دائمة ولم تشهد تشكلا سياسيا واضحا مثل الذي نشهده اليوم) التي ينتقل فيها الصراع الأيديولوجي من فضاءات المجتمع مثل الجامعات والمقاهي ودور الثقافة والمنظمات النقابية إلى فضاء القائمات الانتخابية المتنافسة، الأمر الذي جعل تونس اليوم أمام مفترق للطرق.

على الرغم من أن التيارات الثلاثة لم تكشف بعد عن برامجها السياسية والتنموية، التي تخوض على أساسها الحملة الانتخابية وتحشد الأنصار، إلاّ أن التونسيين “المسيسين بطبعهم” لا يحتاجون إلى عناء حتى يقتنعوا أنّ الانتخابات هي “معركة” بين مشاريع ثلاثة؛ أحدها يعبر عنه النداء والثاني منوط بالجبهة الشعبية والثالث تقدمه النهضة، فيما تبقى الأحزاب الأخرى على هامش تلك المعركة وغير ذات تأثير كبير.

في هذا السياق، إذا تمسكت تلك الأحزاب بمرجعياتها الأيديولوجية والعقائدية وخاضت حملاتها الانتخابية على أساسها وحشدت الأنصار والمتعاطفين من خلال تأجيج مشاعر الولاء الأيديولوجي العقيم والخطير، فإنها قد تسقط من حيث تدري أو لا تدري في تزوير عقول الناخبين الذين سيجدون أنفسهم أمام عملية اقتراع غير ديمقراطية وغير شفافة.

من عايش المجتمع التونسي بوعي وحس مرهفين، سيكتشف أن البورقيبية لم تمت بموت زعيمها. حيث مازال صوته يصدح في الآذان لدى الشيوخ والكهول ولدى الشباب أيضا، وهو أمر لافت حقا. فقد نجح بورقيبة في نحت ملامح دولة ومجتمع تونسيّين، وحقق عددا من المكاسب التي بقيت مفخرة للتونسيين.

على الرغم طبعا من كلّ المؤاخذات المشروعة الموجهة إليه، من قبيل أنه ولّى شطر وجهه إلى الغرب وهمش تونس وحاول إبعادها عن محيطها العربي الإسلامي، وحكم بنفسه ولنفسه، متجاهلا حق التونسيين في الديمقراطية والتعددية الحزبية.

أيضا لم يكن المشروع الوطني التونسي مشروعا بورقيبيا، بل كان مشروع الحركة الإصلاحية التونسية منذ منتصف القرن التاسع عشر بقيادة خير الدين التونسي ونخبة من الفقهاء المستنيرين، لكن بورقيبة ورجال دولة الاستقلال نقلوا ذلك المشروع من مستوى الحلم إلى مستوى الواقع.

من أبرز ملامح هذا المشروع الوطني بناء دولة ذات مؤسسات مهابة ومجتمع ينعم بعائدات خيرات التنمية، أساسه نشر التعليم ودعم حرية المرأة، وهو مشروع حقق الكثير للتونسيين، خاصة في مجال التعليم، ويكفي أن نشير هنا إلى أن القيادات السياسية التي تعارض بورقيبة الآن، نشأت وتعلمت في مؤسسات التعليم التي انتشرت في كامل أنحاء البلاد التونسية بعد استقلالها.

لذلك لم يتفاجأ التونسيون لما تزعّم الباجي قائد السبسي، رجل بورقيبة القوي، حركة نداء تونس، ورأوا فيها حزبا سياسيا قادرا على إعادة التوازن إلى المشهد السياسي من خلال حشد أنصار الفكر الوطني في إطار حركة تؤمن بأهداف الثورة وتتفاعل مع مشاغل التونسيين.

فلم يكن تأسيس النداء، حسب مراقبين، صدفة ولا تعسفا على الواقع التونسي، بل بالعكس فقد كان استجابة لتطلعات قطاعات واسعة من التونسيين المتوجسين من مشروع النهضة.

ومنذ البداية خاض النداء معارك ضد النهضة وحملها المسؤولية في تراجع أداء مؤسسات الدولة ولم يتردد في اتهام الحركة الإسلامية بالعودة بتونس إلى عصور الظلام، مشددا على أنّ الطريق السليم هو استكمال المشروع الوطني ولكن بروح ديمقراطية تؤمن بحق الاختلاف.

لكن، يرى مراقبون، أن مشكلة النداء تكمن في نخبويته، حيث يفتقد للعمق الشعبي، فرغم أنّ أغلب كوادره الفاعلة يتمتعون بكفاءة وخبرة عالية اكتسبوها على مدى سنوات طوال، إلاّ أنّ قاعدة الشعبية مازالت محدودة، الأمر الذي قد يقلل من حظوظ فوزه في الانتخابات القادمة.

لا يختلف مشروع النهضة كثيرا عن مشروع جماعات الإخوان في بلدان المشرق العربي، فهي سليلة “التنظيم الأم”. مشروع النهضة تحكمه أيديولوجيا إسلاموية لا تؤمن إلا بـ”دولة الخلافة” وتطبيق الشريعة، وهو مشروع لا يقف عند الحدود التونسية وإنما هو يحلم بغزو المجتمعات العربية وحتى غير العربية، مقدما بذلك مفهوم “الدعوة الدينية” على العمل السياسي والالتزام بشروطه.

في هذا الإطار فقد مزقت الخلفية الأيديولوجية المشحونة بالمرجعية العقائدية التي تحملها النهضة التونسيين إلى “مؤمنين” و”علمانيين”، في أخطر عملية عمّقت الشرخ بين مكونات النسيج الاجتماعي والثقافي التونسي. وهكذا فرضت على الناخبين التصويت “للتقاة” حملة راية الإسلام. 

بيد أن هذا التصنيف لن تجني منه النهضة الكثير خلال الانتخابات القادمة، حسب خبراء، فقد خبرها التونسيون خلال فترة حكمها الفاشل. إضافة إلى أن الناخبين على قدر عميق من الوعي، ما يجعلهم يميزون بين التوظيف الديني والعمل السياسي، وهم لا يترددون في القول بأنهم سينتخبون ممثليهم في البرلمان لا “أئمة مساجد”.

وتبدو مشكلة حركة النهضة منذ نشأتها في العام 1981، حين أسس راشد الغنوشي رفقة عدد من رفاقه “حركة الاتجاه الإسلامي” لتبشر كما تتضمن التسمية، بمشروع إسلامي في مجتمع مسلم بطبعه، ما جعل فئات عديد من المجتمع تتوجس منها، ناهيك عن الأحزاب العلمانية ونظامي بورقيبة وبن علي من بعده.

وبعد الثورة وجدت النهضة نفسها وجها لوجه مع خصومها اليساريين والعلمانيين، كما وجدت نفسها تخاطب شباب نشأ على قيم حديثة وممارسات جديدة، شباب لا يرى ترابطا بين التدين والتحزب، أغلبه يؤدي فرائضه الدينية غير مبال لا بالنهضة ولا بغيرها.

وقد فازت النهضة في انتخابات 2011، لكن فوزها كان نسبيا إذ لم يتجاوز 30 بالمئة من أصوات الناخبين. وكان يمكن أن تلتقط النهضة هذا المؤشر وتشكل حكومة وحدة وطنية، ولكنها فضلت التحالف فقط مع حزبين علمانيين صغيرين وشكلت حكومة “الترويكا” بقيادتها، غير مبالية بمواقف خصومها، مما ساهم في إبعادها عن سدة الحكم غداة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

ميدانيا اليوم، لا تراهن النهضة على إقناع الناس ببرامج سياسية وتنموية بقدر ما تراهن على الشحن الأيديولوجي لاستقطاب الناس، ولعل هذا ما يفسر أنّ الحركة نجحت في استمالة الفئات الهشة، حيث تعشش الأمية والبؤس، فيما فشلت في استمالة بقية الفئات.

ما لا يعرفه البعض أو يتجاهله، أن اليسار التونسي بدأ نشاطه منذ عشرينات القرن الماضي، حتى قبل نشأة الحزب الدستوري عام 1932 لكن المفارقة؛ أنّ إشعاع اليسار حاليا في المجتمع لا يتناسب مع عراقة نضالهم الطويل والمرير، الأمر الذي جعل من الأحزاب اليسارية الناشطة اليوم تعيد النظر في تاريخها ورؤيتها للعمل السياسي.

ودون أن نخوض في التنظيمات التي قادها “الرفاق”، ابتداء من “مجموعة آفاق” في ستينات القرن الماضي وصولا إلى “حزب العمال الشيوعي التونسي” في الثمانينات، يحسب لليسار التونسي أنه أول تيار جاهر برفضه للحكم الفردي في عهد الزعيم بورقيبة، وبذلك فهو أول تيار فتح هامشا لمعارضة نظام الحزب الواحد ليمهد الطريق لاحقا لظهور تعددية جنينية بدأت تتشكل مع منتصف فترة السبعينات من القرن الماضي.

ولم يستوعب بورقيبة أن يعاديه شباب تعرف على الشيوعية ودرسها في مدارس ومعاهد وكليات دشنها بيديه، ولذلك كاد يبيد اليسار.

منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، اجتاحت المشهد السياسي التونسي موجة اليساريين الجدد الذين تعلموا من تاريخ الرفاق المؤسسين وانخرطوا في نشاط سياسي بعضه علني وأكثره سري، لكن في كل الحالات بدا الرفاق الجدد أكثر براغماتية والتصاقا بمشاغل التونسيين، ما جعلهم يتموقعون في النقابات والإدارات والمؤسسات الصناعية وفي الجامعات.

منذ تلك الفترة نجحت التيارات اليسارية في اكتساح الفضاءات الحيوية في الدولة والمجتمع، وكانت الأقرب في الدفاع عن حقوق العمال والأجراء في وقت ساد فيه الاقتصاد المتوحش.

بعد “الثورة”، التي لم ترفع شعارا أيديولوجيا واحدا، لا شيوعيا ولا ليبراليا ولا إسلاميا، اكتشفت التيارات اليسارية أنّ المحرك الأساسي لنضال الشعوب يتلخص في “الحياة الكريمة والحرية”، كما تراها الشعوب لا كما دوّنها الماركسيون.

وسواء تعلق الأمر بنداء تونس أو بالنهضة أو باليسار فإن أولويات التونسيين لا هي العودة إلى البورقيبية ولا بناء دولة إسلامية ولا دولة بروليتارية، فأولويتهم اليوم التي ستحسم إلى حدّ كبير نتائج الانتخابات المقبلة، تتمثل في بناء دولة مواطنة تستمد شرعيتها من إرادة التونسيين وتستجيب إلى تطعاتهم في التنمية والتشغيل، دولة لا تسطو فيها فردانية بورقيبة على سيادة الشعب ولا تسطو فيها الدعوة الدينية على مكاسب الحداثة ولا تسطو فيها البروليتاريا على حق الجميع في الديمقراطية.