"لا أحد يثق بأحد".. تلك هي أحد أبرز عناوين المشهد الاجتماعي في بلدة نيافونكو، إن لم يكن في الشمال المالي كله، فالسكان الطوارق أصحاب البشرة "الفاتحة اللون" نسبيا لا يزالون يخشون انتقام السكان المحليين
من ذوي البشرة السوداء، على خلفية ما ارتكبته جماعات الطوارق المسلحة بحقهم قبل أن يتم طردها من المنطقة العام الماضي على يد القوات الفرنسية.. والعناصر الجهادية لا تتوانى من وقت لآخر عن شن هجمات ضد أهداف محددة في البلدة بـ "تواطؤ" سري من بعض السكان المحليين، كما يقول عدد من الأهالي وأعيان المدينة للاناضول..
مدينة "نيافونكي" الواقعة جنوب مدينة "تمبوكتو" على ضفاف النهر كانت من أوائل المدن التي وقع احتلالها من قبل الجماعات المسلّحة، ولكنها أيضا من أواخر المدن التي تمّ تحريرها منهم.. الظاهر في هذه المدينة يشي اليوم بأنّها تمكّنت من استعادة هدوئها، غير أنّ المشهد العام يستبطن نوعا من التململ والقلق الذين يطبقان على سكانها.. مشاعر متضاربة دفعت بسكان مدينة مجاورة لها إلى رجم أحد السكان الطوارق رميا بالحجارة يوم عودته إلى المدينة.. وقبل نحو شهر، قام بعض أصحاب "البشرة الفاتحة" كما يسمّونهم بقتل العشرات من الماليين، قبل إلقاء جثثهم في بئر مهجورة.
وتعقيبا على الموضوع، قال مدير راديو "الصبر" "الشيخ مايغا" في تصريح للأناضول "بالنسبة لنا نحن الأفارقة، من الصعب علينا فقدان الأمل، غير أنّ مسار المصالحة يبدو بطيئا للغاية"، قبل أن يضيف "كان بودّنا رؤية السكان الأكثر فقرا وهم يسافرون بحرية، بيد أن هذه من المكاسب التي لن تتحقّق أبدا، وعملية المصالحة ما تزال تسير بخطى متعثّرة، وآثار النزاع ما تزال موجودة".
وبسبب هذه الخطى المتعثّرة العاجزة عن التوصّل إلى إقرار المصالحة الوطنية في مالي، ما يزال أكثر من 44 ألف لاجئ متردّدين حيال قرار العودة إلى موطنهم مالي. وغالبية أولئك الذين غادروا البلاد هم من أصحاب "البشرة الفاتحة".. فخلال فترة الاحتلال، اختار هؤلاء سواء كانوا من العرب أو من الطوارق التحالف مع المسلمين، لذلك هم يخشون اليوم استهدافهم تلبية للأصوات المنادية بالانتقام منهم.
وشهد شمالي مالي تواتر أحداث العنف فيه خلال بضعة الأشهر الأخيرة (اختطاف عضو منظمة الصليب الأحمر الدولية، اعتداءات ومقابر جماعية في بئر).. فظائع بالجملة، جعلت الماليين يخلصون إلى أنّ الجناة يقبعون في مخيمات اللاجئين، إلاّ أنّهم يغادرونها خلال النهار لتقديم المساعدة للمجموعات المسلّحة.
ورغم السياق المعقّد الذي يعيش في خضمّه سكان الشمال في مالي، قرّر عدد من "فاتحي البشرة"، وخصوصا أولئك الذين لم يرتبطوا بالجماعات المسلّحة، العودة إلى مدن الشمال، وهذا –تقريبا- حال "علي أغ محمد" وهو من الطوارق، حيث قال في استياء للأناضول "الوضع صعب للغاية، وتوجد مشاكل.. لا يمكننا السفر أو حتّى الخروج لابتياع غذائنا". صديق لـ "اغ محمد" يدعى "أحمد" كان يجلس بجواره مرهفا السمع إلى الحوار القائم بين صديقه ومراسل الأناضول.. أحمد لم يتمالك نفسه للمشاركة في الموضوع، وقال "ينبغي التفكير في المصالحة بين المجموعات المسلّحة. لا توجد مشاكل بين الفصائل العرقية، والإشكال الحقيقي يكمن على المستوى السياسي.. حان الوقت للتفكير في الأشخاص الذين يعانون"، قبل أن يضيف في إحباط "لم نعد نعرف من هذا أو من ذاك؟".
الآثار التي خلّفتها المجموعات المسلحة الجهادية شمالي مالي كانت بارزة للعيان.. بيد أنّ العلامات المرتسمة على الجدران والأضرحة والمعالم الدينية وفي كلّ مكان لم تكن الشاهد الوحيد عمّا لحق بتلك الأماكن جرّاء اجتياحها من قبل الجماعات المسلحة، وإنّما كانت هناك جراح من نوع آخر مسّت نفوس السكان، ولم تندمل رغم مرور الزمن، وخلّفت فيهم نوعا من الحقد الذي لم تفلح أنامل الزمن في اجتثاثه. فالسكان يرفضون اليوم عودة "فاتحي البشرة" إلى مدن الشمال، واليافطات التي كانت تحمل شعارات منادية بتطبيق الشريعة تعرّضت جميعها إلى التشويه والتدمير.
أما في مدينة "تمبكتو" التاريخية، فتعيش هي الأخرى على وقع سلام هشّ، من شأنه أن يندثر مع هبوب أي تغيير طارئ، وذلك رغم وجود القوات الفرنسية المنتشرة في أرجائها.. تواجد لم يعد له معنى بحسب بعض الملاحظين، خصوصا عقب تصريحات الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" في يناير/ كانون الثاني المنقضي، حين قال متحدّثا عن العملية الفرنسية في مالي "أساس المهمة تم إنجازه".
ورغم إعلان الرئيس الفرنسي عن انتهاء مهمة قواته في مالي، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ تواجدها على الأرض لم يعد مهما. فإلى جانب "الدعم الذي تقدّمه للقوات المسلّحة المالية" بحسب الخطابات الرسمية لهذا الجانب أو ذاك، يواصل الجنود الفرنسيون تعقّبهم للاسلاميين. فخلال شهر نيسان/ أبريل، تم إيقاف أشخاص يشتبه في انتمائهم للجهاديين المتشدّدين، كما عثر على مخبأ للأسلحة في الكثبان الرملية. أحد قادة العملية الفرنسية في مالي (فضل عدم الكشف عن هويته) المكلّفين بمنطقة "تمبكتو" قال في تصريح للأناضول "نحن نسير باتجاه الأفضل، غير أن الارهابيين ما يزالون متواجدين في المنطقة (تمبكتو)، أما في المناطق المجاورة، فبالإمكان استنتاج وجود نقاط استراتيجية، لكننا أننا بصدد توزيع دورياتنا بطريقة تمكّن من شلّ حركة بقايا المجموعات الارهابية".