هل يمكن فصل المسألة الأمنية في الجنوب الليبي، عن المأزق الأمني الكبير الذي يواجهه الحوض الصحراوي الكبير في إفريقيا؟ قطعاً، لا. هذه المنطقة الشاسعة والممتدة من طرف القارة الشرقي إلى ساحلها الغربي تعاني اليوم المشاكل نفسها، ولعل المشكل المركزي هو تحولها إلى قاعدة نشاط حيوي للجماعات الجهادية.

في ظهوره الأخير، بدا واضحاً أن أبو بكر بغدادي، زعيم تنظيم داعش، كثير الاهتمام بالقارة الأفريقية كمجال لنشاط تنظيميه. لم يفوت الرجل خلال ظهوره القصير، بعد غيبة طويلة، ذكر أحد رجاله في الصحراء الإفريقية وهو أبو الوليد الصحراوي، وحث أنصاره في القارة السمراء، وصولاً إلى بوركينا فاسو، بمزيد من العمليات خاصة ضد الوجود الفرنسي.

بشكل غير مسبوق، تحولت القارة الإفريقية إلى إحدى المناطق الأكثر تهديداً بمخاطر الإرهاب. وأكثر من أي وقت مضى، تحولت الاهتمامات الأمنية لدول الساحل والصحراء الإفريقية إلى هواجس حقيقية من أن تصبح المنطقة، خلال السنوات القادمة، مركزاً لتجميع الجماعات الجهادية، التي تبحث عن قواعد للتمركز ومساحات للنشاط.

فإلى وقت قريب،ومع بداية الألفية، لم تكن البؤر الإرهابية في القارة الإفريقية تتجاوز مناطق محدودة في المساحة والتأثير تقع شرق القارة، وتحديداً في الصومال، وفي شمالها بالجزائر، خلال العشرية الدموية. لكن التحولات الجذرية التي شهدها المشهد الإرهابي، نظرياً وتنظيمياً، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وخاصة بعد أحداث ما عرف بــ 'الربيع العربي"، حولت المنطقة إلى ثان أكبر بؤرة إرهابية في العالم، بعد الشرق الأوسط، ويتوقع أن تكون في المركز الأول مستقبلاً، خاصة مع الهزائم التي تتلقاها الجماعات الجهادية في سوريا والعراق.

يبدو جلياً أن الجماعات الجهادية الناشطة في المجال "الجنوب – صحراوي" الشاسع، بين الساحل الأطلسي إلى الغرب، موريتانيا، والحدود السودانية شرقاً، أخذت في توحيد عملها والاندماج في جبهات موحدة،في مقابل التشرذم الذي وسم نشاطها خلال السنوات الماضية. ففي مارس/ آذار 2017، أعلنت أربع جماعات تنشط في المنطقة التوحد في جبهة تحت مسمى "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، وبقيادة المتمرد المالي، إياد أغ غالي.


وبدت الجبهة الجديدة قريبة من تنظيم القاعدة فكراً وتنظيماً، حيث ضمت داخلها فرع القاعدة في منطقة الصحراء الكبرى، إلى جانب جماعة "المرابطون"، التي يقودها الجهادي الجزائري الشهير، مختار بلمختار، وجماعة أنصار الدين المالية، وجبهة تحرير ماسينا، وهي تنظيم جهادي يضم غالبيةً من شعب الفُولان، ويحارب من أجل إقامة إمارة إسلامية عرقية شمال مالي. ويبدو أن تشكيل الجبهة الجديدة يكشف عن تعاظم قوة تنظيم القاعدة في المنطقة، وهي في الحقيقة عملية ابتلاع القاعدة لجماعات صغيرة تحت رايتها، وقد وضعت على رأسها، بذكاء كبير، أغ غالي، الزعيم القبلي صاحب النفوذ الواسع في شمال مالي والنيجر.

في مقابل الجبهة الجهادية الجديدة، توجد جماعات أخرى لها وجود نشط في منطقة الساحل والصحراء، أهمها جماعة أنصار الإسلام، والتي تملك حضوراً مهماً في مالي وبوركينافاسو، وكذلك حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، والتي تعتبر انشقاقاً داخل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. وهي التنظيم الأكثر تسليحاً وقوةً وامتداداً في المنطقة، حيث نجحت عام 2013 في السيطرة على مناطق واسعة من شمال مالي، وكانت تريد إقامة دولة إسلامية. هذا مع وجود مجموعات هامشية مازالت تدين بالولاء لتنظيم داعش، تتكون أساساً من عناصر التنظيم الهاربين من سرت الليبية بعد سقوط "ولايتهم" في ليبيا في العام 2017.

التحدي الثاني الذي يواجه منطقة الساحل والصحراء، والذي لا يقل خطورةً عن وجود جماعات جهادية تسعى لتقويض الدول القائمة في المنطقة واستنزافها أمنياً واقتصادياً، يتمثل في المقاتلين الأجانب.ففي أعقاب الهزائم المتلاحقة التي تعرض لها تنظيم الدولة الإسلامية – داعش – بداية من العام 2016، وانحسار الحيز الجغرافي الذي كان يسيطر عليه، خلال عامي 2014 و2015 من عمر "خلافته" القصير، تحولت عودة الآلاف المقاتلين الذين انضموا إلى التنظيم هاجساً يؤرق الكثير من الدول، التي انخرط مواطنوها في القتال إلى جانب "خلافة البغدادي" المهزومة. وقد أدى إغلاق مسارات العودة لهؤلاء المقاتلين إلى أن يكون الفضاء الإفريقي الواسع والفوضوي وجهة محتملة يمكن أن يعيدوا التجمع فيها واستئناف نشاطهم الإرهابي، كما حدث سابقاً في أفغانستان والبوسنة والشيشان.

ولا يبدو ذلك مستبعداً. فليبيا وتونس والمغرب من أكثر الدول التي سافر منها شباب للقتال في صفوف داعش والقاعدة في سوريا والعراق، ولن تكون عودة هؤلاء إلى بلدانهم ميسرة، بسب الخشية من السجن والملاحقة الأمنية، لذلك، فمن المحتمل أن تكون المجموعات الإرهابية الناشطة في منطقة الساحل والصحراء ملاذاً لهم. وفي هذا السياق، كان مفوض السلم والأمن في الاتحاد الإفريقي، إسماعيل شرقي، قد حذر في وقت سابق من أن حوالي ستة آلاف "مقاتل متشدد" إفريقي قاتلوا في صفوف تنظيم داعش، يمكن أن يعودوا للقارة، داعيا الدول إلى الاستعداد "بقوة" للتعامل مع عودتهم وإلى "تبادل المعلومات الاستخبارية بشأن المسلحين الذين يعودون إلى بلادهم".


فقد خرجت فرضيات نقل الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب، الذين تقطعت به السبل ف سوريا بعد سيطرت القوات النظامية وحلفائها على أغلب التراب السوري، نحو ليبيا من مجرد تقارير إعلامية وتسريبات غير مؤكدة إلى تأكيدات شبه رسمية، جاءت هذه المرة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين

بوتين، الذي كان يتحدث في مؤتمر صحفي في روما الخميس بعد أن أجرى محادثات مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قلقه من تدفق المسلحين من إدلب إلى ليبيا، كما حذّر من تدهور الأوضاع هناك. وهذه المرة الأولى التي يحذر فيها مسؤول غير ليبي من عمليات نقل مقاتلين من سوريا نحو ليبيا. ويبدو أن تعمد الرئيس الروسي الكشف عن الموضوع، خلال محادثات مع رئيس الوزراء الإيطالي، كان هدفها تحذير الأوروبيين، وخاصة الحكومة الإيطالية من أن تواصل دعم حكومة الوفاق والمجموعات الإسلامية المتطرفة الموالية لها، سيؤدي إلى تحول ليبيا إلى ساحة لتجميع المقاتلين الأجانب الذين فقدوا حواضنهم التنظيمية في سوريا والعراق ولم تبقى لهم غير ليبيا مكاناً يمكن أن يفروا إليه، وفي إشارة غير مباشرة، يبدو أن بوتين كان يحذر الإيطاليين من أن أشرس مقاتلي داعش والقاعدة سيكوننا قريباً على بعد كيلومترات من السواحل الجنوبية للقارة الأوروبية.

التحذيرات الروسية، سبقتها العديد من التحذيرات التي أطلقتها السلطات الليبية بشكل معلن على الأقل منذ العام 2017، وبداية انحسار تنظيم داعش والنصرة في سوريا والعراق. وفي مارس 2018 أعلنت الإدارة العامة لمكافحة الإرهاب التابعة لقيادة الجيش الليبي أنها ألقت القبض على 16 مقاتلاً من جبهة النصرة في كمين، أثناء تسللهم إلى ليبيا عبر صحراء الكفرة جنوب البلاد. وقالت إنها "حاصرت المجموعة في صحراء الكفرة وتم القبض على 16 منهم من جنسيات سورية وسودانية، فيما فر آخرون "لافتة إلى أنهم وصلوا إلى ليبيا بمساعدة قطر التي نقلتهم إلى الأراضي السودانية للمرور إلى ليبيا". وكشفت الإدارة عن أن أحد المقاتلين كان محتجزاً في سوريا قبل أن يتم تهريبه من السجن وإرساله لتركيا، مشيرة إلى أن الجماعة الليبية المقاتلة صنو جبهة النصرة المنتمية لتنظيم القاعدة ويسعى قادتها إلى إرسال مقاتلي النصرة إلى ليبيا لدعم ما يعرف بمجالس الشورى في ليبيا.

ومما يعزز التوجس من أن تتحول منطقة الساحل الصحراء الإفريقية إلى إحدى أكبر البؤر الإرهابية مستقبلاً، الاستعدادات الأمريكية غير المسبوقة، نظرياً وعلى أرض الواقع. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2017، سربت مجلة "ذي انترسبت "الأمريكية، اعتماداً على قانون حرية المعلومات، ملفا من آلاف الوثائق يتحدث عن سيناريو أمريكي وضعته وزارة الدفاع والكليات العسكرية، يتحدث عن هجمات تستهدف الولايات المتحدة ينفذها تنظيم القاعدة في إفريقيا، انطلاقاً من إفريقيا جنوب الصحراء. وفي السيناريو الأمريكي محاكاة للهجوم وهجوم أمريكي مضاد للقاعدة سمي   "ضربة الصحراء"، وهو عبارة عن عملية غزو عسكري كامل، جواً وبحراً وبراً.

وبعيداً عن السيناريوهات النظرية، فإن الولايات المتحدة أخذت في تعزيز حضورها العسكري في المنطقة بشكل غير مسبوق. ففي العام الماضي، كشفت المجلة المتخصّصة في الشؤون العسكرية "ميليتري نيوز" أنّ واشنطن تعمل على "بناء قاعدة جوية عسكرية جديدة في شمال النيجر، ستنشر بها مقاتلات وطائرات من دون طيار، تكون "مجهّزة بوسائل الرّصد وبالأسلحة، وسيكون بمقدورها الوصول إلى عدد من دول غرب وشمال إفريقيا". وهذه الطائرات بدأت منذ مدة في تنفيذ ضربات مركزة استهدفت قيادات بارزة من تنظيم القاعدة في جنوب ليبيا.

في مقابل هذه التحديات الأمنية التي تواجهها منطقة الساحل والصحراء، والاستعدادات الأمريكية الحثيثة لمجابهة الخطر الإرهابي القادم من المنطقة أو حتى استغلاله لتعزيز حضور واشنطن العسكري في القارة السمراء، لا توجد سياسات رسمية موحدة من دول المنطقة لمواجهة هذه التحديات. فحتى الآن مازالت مسألة تبادل المعلومات حول المخاطر الإرهابية دون المأمول. كذلك تعزز الأوضاع الداخلية السائدة داخل الكثير من دول المنطقة، كليبيا ومالي، ضعف سلطة الدولة المركزية في هذه الدول، وتجعل عملية التنسيق الأمني معها شبة مستحيلة، خاصة في ظل وجود بعض حالات ازدواجية السلطة، كما هو الحال في ليبيا.

كما أن التركيبة العرقية المعقدة في المنطقة تقف عائقاً أمام بسط سلطة الدول عليها وتزيد من مخاطر تحول بعض الجماعات العرقية إلى جماعات جهادية أو تحالفها مع التنظيمات الجهادية. فالمنطقة متنوعة عرقياً بشكل كبير، بين عرب وأمازيغ وطوارق وتبو وقبائل إفريقية وغيرها. كما ترتفع فيها نسبة الأمية ويعيش سكانها أوضاعاً اجتماعية صعبة، كانتشار الفقر وضعف الرعاية الصحية، وهي مناخات تنمو فيها الجماعات المتطرفة. لكن السياسات الرسمية في المنطقة تركز فقط على الحلول الأمنية والعسكرية العاجلة والضرورية، دون الالتفات إلى الحلول التنموية والثقافية والتربوية طويلة المدى، والتي يمكن أن تجفف المستنقع الإرهابي.