جاءت  حركة اللواء خليفة حفتر لتكشف عن تناقضات عدة في الساحة الليبية من أبرزها أن الحكومة الليبية الخاضعة للمؤتمر الوطني العام الواقع تحت سيطرة الإخوان ، ترتبط ب« علاقات ودية » مع التيارات الدينية المتشددة وتدافع عنها في ظل خلطة فريدة لا يمكن أن توجد إلآ في ليبيا التي قال  هيرودوت ( 484 ق.م - 425 ق.م) أن « منها يأتي الجديد » ، حيث يخضع الحكم  المركزي في طرابلس الى تحالف الإخوان مع قيادات الجماعة المقاتلة المرتبطة سابقا تحت بتنظيم القاعدة ، والتي كان لها دور في حرب أفغانستان ، مثل النائب الحالي بالمؤتمر الوطني العام عبد الوهاب القايد ( شقيق أبو يحي الليبي الرجل الثاني في تنظيم القاعدة قبل أن تتم تصفيته في العام 2012 قصفا من طائرة بدور طيار بباكستان ) و وكيل وزارة الدفاع (وزير الدفاع الفعلي ) خالد الشريف ، وزعيم حزب الوطن عبد الحكيم بالحاج ، وأمر غرفة ثوار ليبيا شعبان هدية ( أبوعبيدة الزاوي ) وغيرهم ممن يجتمعون تحت المظلّة القطرية الإخوانية المرتبطة بالمشروع الأمريكي في المنطقة

وليس غريبا أن هؤلاء تحالفوا فعليا مع قوى أخرى في الساحة الليبية وقادة ميليشيات ، منهم من كان متخصصا في التهريب أو تجارة المخدرات ،ومنهم من تم طرده من الجيش الليبي السابق بسبب شذوذه الجنسي قبل أن يصبح أمير حرب وقائد ميليشيا بعد الإطاحة  بنظام القذافي ، يضاف الى ذلك الخطاب الديني الرسمي من قبل دار الفتوى والمفتي الإخواني الصادق الغرياني

قد يبدو الخليط هجينا ولكنه الواقع الذي فرضه الفراغ السياسي وإنهيار الدولة ، فالمصالح سواء كانت عقائدية أو سياسية أو مالية أو إقتصادية وإجتماعية ، جعلت خريجي كتائب القاعدة في كندهار وتورا بورا وبيشاور ووزيرستان ، يتحالفون مع تجار الحشيش والعملة ومهربي المخدرات والسجائر والويسكي ، في مشهد لا يختلف كثيرا عما يدور  في أفغانستان أو الصومال أو الصحراء الكبرى من إلتحام قوى التهريب والأرهاب في بوتقة واحدة هدفها السيطرة على المكان والحيلولة دون بسط الدولة سلطاتها من خلال جيش وأمن قويين

ويساعد هذا الوضع على أن يمارس الحكام المفروضون عنوة ، وأغلبهم من المستوردين وذوي الجنسيات المزدوجة ، كل أشكال الفساد المالي والإداري ، يتضّح ذلك من جرد حساب المجلس الوطني الأنتقالي وحكومات الكيب وزيدان والثني ،والموتمر الوطني زمن المقريف ثم بوسهمين ، حيث ذهب ما يقارب 300 مليار دولار هباء منثورا ، وبات المصرف المركزي خاضعا لحكم الميلشيات ومن وراءها من الساسة ، وكشفت الأيام عن ثروات طائلة تقدر بمليارات الدولارات أضحت  في حسابات مسلحين كانوا يعيشون على الكفاف قبل 17 فبراير 2011

الشارع الليبي الذي يتابع غرائبية المشهد يرى أن وراء الأكمة قطر ، الدولة التي إستطاعت أن تقود الى الإطاحة بصديقها السابق القذافي ،وأن تضع يدها على مفاصل القرار المركزي الليبي من خلال دعم الميلشيات  والتوفيق بين الإخوان والقاعدة بواسطة الجماعة المقاتلة وقائدها عبد الحكيم بالحاج ،رجل الدوحة الأول في طرابلس ،  وأن تسيطر على الخطاب الديني من خلال عضوية مفتي البلاد الصادق الغرياني للإتحاد الدولي لعلماء المسلمين الذي يرأسه القرضاوي ،

ويتفق هذا الوضع مع ما رواه محمود جبريل ، من أن قطر كانت قد أعلنت رفضها لتشكيل جبش وطني ليبي ، وإستظهرت بوثيقة أمريكية تدعو للإكتفاء بتشكيل حرس وطني لحماية الحدود ، ذات الأمر رواه عبد الرحمان شلغم ، عندما قال أن أمير قطر السابق عارض فكرة تشكيل جيش ليبي ، بدعوى أن الجيش قد ينقلب على الديمقراطية ،وأن الميلشيات قد تضمن الإستقرار أكثر

ولكن من يقود الميلشيات ؟ الجواب ليس صعبا ، فالميلشيات تخضع لأوامر قيادات متشددة دينيا ،وأخرى مطعون في ماضيها ، ولكنها تجتمع تحت لواء المشروع الإخواني القطري ، وكذلك للمشروع الإخواني التركي القطري وخصوصا في مدينة مسراطة ذات المكانة الخاصة عند العثمانيين الجدد

وتتخذ المسألة أبعادا أخرى عندما يتحول الصراع في ليبيا الى حرب العقلية الميلشياوية الحضرية الساحلية تحديدا على القبائل البدوية الليبية ،ذات المرجعية الإجتماعية المختلفة ، فالقبائل البدوية والعربية الليبية قد تختلف تكتيكيا ولكنها تبقى على تحالفاتها وتوازناتها الإستراتيجية ،نرى ذلك من خلال موقف قبيلة الزنتان التي كان لها دور مهم في الإطاحة بنظام القذافي ، ولكنها رفضت تسليم نجله سيف الإسلام الى سلطات الميلشيات في طرابلس خوفا من تصفيته أو تعذيبه ، دافعها الى ذلك القرار معرفتها بموقف القبائل الكبرى التي لا تزال موالية للنظام السابق ،وإحترامها لروابط تحالفاتها التاريخية مع قبائل عدة منها قبيلة القذافة ،وهي تحالفات قد تحتاج إليها في أي مرحلة قادمة ، وهي القبيلة المستهدفة بكل المقاييس

والزنتان التي تمتلك لوائي القعقاع والصواعق بما يمثلانه من حضور مهم في طرابلس ، إستطاعت أن تحول دون تغلغل  أكبر للإخوان والقطريين في العاصمة ، وماإن أعلن اللواء خليفة حفتر من بنغازي عن معركة الكرامة حتى كان الرد سريعا من قوات القعقاع والصواعق ،  وكان البيان الي ألقاه العقيد مختار فرنانة الزنتاني مساء الأحد إعلانا حاسما عن دخول ليبيا مرحلة جديدة : إما إنهاء  سريع لمرحلة « الإحتلال القطري » و« إستقواء الإخوان بالتكفيريين والميلشيات » أو بداية حرب أهلية قد تتواصل طويلا

ولكن أية طريق لإنتصار الجيش الليبي بقيادة حفتر ودعم الزنتان ؟

أن الإنتصار في المواجهة يحتاج الى موقف موحّد من قبائل وسط وغرب ليبيا ، فلا أحد في ليبيا يستطيع تحقيق الإنتصار دون بني وليد وترهونة وورشفانة والصيعان والنوايل والرياينة والمشاشية والأصابعة وغيرها ، كما أن لا أحد يستطيع وضع اليد على الجنوب دون المقارحة والقذاذفة وأولاد سليمان والتبو والحساونة والطوارق ، وهذا يحتاج الى تجاوز الخلافات القبلية الطارئة وتقديم مصلحة ليبيا ، فالمعركة اليوم ليست بين ثوار وأزلام ،ولكنها بين الشعب الليبي وأعدائه الداخليين والخارجيين من عملاء قطر والتكفيريين الساعين الى تحويل البلاد الى صومال جديدة أو أفغانستان أخرى

هذا المبدأ أدركته الزنتان عندما دعا بيان ضباطها الى المصالحة الوطنية وعودة المهجرين ،ويؤمن به اللواء خليفة حفتر وقواته ، ولكن ترفضه الميلشيات والإخوان  وقطر والقاعدة

الميلشيات تجد مصالحها في مزيد الإنقسام المجتمعي وفشل الدولة وعجزها عن تشكيل جيش وشرطة

الإخوان يجدون مصلحتهم في إبقاء ثلث الشعب مهجرّا ، وثلاثة أرباع البقية مقصيا من العملية السياسية ليتموا  وضع اليد على كل مفاصل الدولة المتهالكة وثرواتها

قطر تجد صالحها في سطلة ميلشيات خاضعة لحكم إخواني ينفذ أجندتها كاملة

والقاعدة تعمل على الإطاحة نهائيا بالدولة والحيلولة دون قيام مؤسساتها العسكرية والأمنية بهدف تشكيل مشروعها البديل على غرار ما يجري حاليا في مدينة درنة

ثم أن المليشيات والإخوان وقطر والقاعدة ، ترى أن بقاء القبائل الكبرى على الحياد يخدم مصلحتها ، نظرا لأن ثلاثة قبائل فقط وهي ورفلة وترهونة وورشفانة تساوي ثلثي الشعب ،وهي قبائل محسوبة في غالبيتها الساحقة على الولاء للنظام السابق ،وترفض بقوة العملية السياسية القائمة ،وتعادي الإخوان والتكفيريين ، وتمتلك مقومات تغيير الوضع في البلاد متى إجتمعت على هدف واحد مشترك ،فإن تحالفت مع الزنتان وقوات خليفة حفتر وقبائل الشرق ، إستطاعت أن تطيح نهائيا ،ولو بعد حين ، بالمشروع القطري الإخواني التكفيري الذي يبدو منعزلا في ليبيا ،ولا يستقوى إلا بالخلاف الحاصل بين الموالين لنظام القذافي وبين قادوا حرب الإطاحة به وباتوا اليوم من المدافعين عن إستقلالية القرار الوطني الليبي وإعادة هيبة الدولة

وحسب المعطيات الأولى فإن الخلاف لن يستمر ،والمصلحة الوطنية العليا ستنتصر ، خصوصا مع ضرورة إجتماع الطرفين على تحقيق المصالحة الوطنية وعودة المهجّرين والنازحين وإطلاق سراح معتقلي السجون السرية وإرساء العدالة الإنتقالية وإلغاء قانون العزل السياسي الذي تم فرضه تحت قوة سلاح الميلشيات ، وحل العصابات المسلحة ، وتطهير البلاد من الإرهاب ، وإنقاذ مؤسسات الدولة من المد الإخواني والتدخل القطري ، وبناء جيش وأمن قويين ،ومحاسبة الفاسدين ، وإعادة الإعتبار للضحايا

قال هيرودوت قبل  2500 عما : من ليبيا يأتي الجديد ، وقد يكون الجديد هذه المرّة ،موقف يليق بأحرار ليبيا وشرفائها وتاريخها ومكانتها