ما معنى أن يتمرد الناس على البرلمانات التي يفترض أنهم انتخبوها، وتمثل سيادتهم الجمعية، وتحرس مصالحهم؟ وما معنى أن يكفر الناس بالأحزاب العتيقة التي احتكرت السلطة باسم الديمقراطية لعقود طويلة؟ وماذا يعني تمرد الشعوب على الحكومات التي تدير الشأن العام باسمهم؟ وما معنى أن يتشكل حراك شعبي جماهيري عابر للطوائف والطبقات والإثنيات التي شكلت عوائق رئيسية أمام بلورة أي معان للوطن والوطنية والمواطنة؟ وما معنى أن تتمرد الشعوب على الرموز والأصنام السياسية والاجتماعية والدينية التي أسبغ عليها التاريخ القداسة، ومثلت سلطة أمر واقع أخضعت الناس لقرون؟ ما معنى أن يتسمر الناس من كل المشارب والأطياف في الميادين والشوارع لفرض إرادتهم ورؤاهم فيما يتعلق بتسيير أمور أوطانهم؟ وهل قررت الجماهير أحيراً إلغاء العقد الاجتماعي المزيف، الذي وقع باسمها، وتم بموجبه اغتصاب إرادتها منها عنوة، لصالح حاكم يسوس أمورها باسمها ونيابة عنها؟ كل هذه الأسئلة تثيرها موجة الربيع الجديدة التي تشهدها المنطقة. فهل هي حالة وعي جماهيري غير مسبوقة في تاريخ المنطقة، أم إنها مجرد استخلاص واستقاء للدروس والعبر من موجة الربيع الأولي التي أتت على الأخضر واليابس؟ 

يبدو أن السحر قد انقلب على الساحر في المنطقة العربية والشرق أوسطية هذه المرة. فخرجت من رحم موجة ربيع 2011 المصنوع خارجياً بامتياز، موجة ثانية، غير متوقعة، لكنها محلية الصنع بامتياز كذلك. ففي الشكل اختلفت هذه الموجة عن سابقتها اختلافاًت جوهرية. ففي حين تقدم صفوف الموجة الأولى ونظٌر لها ودعمها بكل ما أوتي من قوة، الناشط الصهيوني برنارد هنري ليفي، غاب تماماً هو وأفكاره وشعاراته عن ميادين الموجة الثانية. كما ظهرت الجموع الثائرة المرابطة في الساحات العامة بشكل حضاري ومسالم، تنشد الأناشيد الوطنية وتغني للحياة والحرية، وتحرص على منع عسكرة الحراك أو السماح بالاحتكاك مع أو الأجهزة الأمنية والشرطية أو استفزازها، على عكس الجموع التي ظهرت في الموجة الأولى، وذهبت إلى العنف والعسكرة وامتشقت السلاح ودمرت وأحرقت وقتلت منذ اللحظة الأولى. وفي الوقت الذي رأينا فيه، على غير عادة، كبار قادة الإمبريالية والرأسمالية العالمية، من أمثال ساركوزي وكامرون وبرلسكوني وأوباما وغيرهم، وهم يذهبون لأقصى مدى نصرة لقضايا الديمقراطية وحرية الشعوب. ويقدمون كل أنواع الدعم السياسي والعسكري لثوار موجة الربيع الأولى، لا نرى اليوم أياً منهم ولا من خلفائهم، ولم نر أي ردة فعل صادرة عنهم، اللهم إلا بعض البيانات المقتضبة والباهتة. وفي حين تميزت الموجة الأولى باستنفار الأمم المتحدة وكل أجهزتها، وعلى رأسها مجلس الأمن، الذي أصدر القرارات، وحاصر الشعوب، وأحال ملفات من أراد إلى محكمة لاهاي، ووضع أسماء من أرادت على قوائم المطلوبين. ثم فوض حلف الناتو لشن حرب كونية غير أخلاقية لمساعدة الثوار على التخلص من الدكتاتورية ونيل حريتها وبناء ديمقراطياتها الزاهرة. أما اليوم فأصابها الصمم والبكم. وإبان الموجة الأولى انعقد مجلس الجامعة العربية على عجل لإحالة ملف ليبيا إلى مجلس الأمن، وتجميد عضوية سوريا، لكنه لم ينعقد لفعل الشيء نفسه هذه المرة، ليفوض مجلس الأمن للتدخل العاجل من أجل حماية المدنيين في السودان والجزائر ولبنان والعراق. بل غابت عن المشهد، وتوارت تماماً عن الأنظار، ولم تنبس ببنت شفة. وكذلك فعلت منظمة المؤتمر الإسلامي فيما يخص موضوع إيران. وفي الوقت الذي فتحت فيه كل القنوات الإعلامية، عربية وأعجمية، الفضاء لدعم "ثوار 2011"، وغصت استوديوهاتها بالخبراء العسكريين والمحللين والناشطين السياسيين لتسويق الأكاذيب وتصنع الأخبار الزائفة, تجاهلت بعض المحطات التي كانت متحمسة للجماهير في 2011، وأقفلت فضائها في وجه حراك الجماهير في 2019. 

وفي هذه الموجة الثانية انقلبت الصورة رأساً على عقب. وفضحت ازدواجية معايير النظم الدولية والإقليمية؛ السياسية والإعلامية والقانونية. كما تكشفت سياسة الكيل بمكيالين التي طالما انتهجها الإعلاميون المأجورون والخبراء المضللون، والسياسيون المزيفون. في هذه الموجه سقطت أقنعة الإسلام السياسي الشيعي، بنفس الطريقة التي أسقطت فيها الموجة الأولى أقنعة الإسلام السياسي السني. وعلى الرغم من أن أقنعة الإسلام السياسي الشيعي كانت قد وقعت في فخ العمالة منذ العام 2003، عندما أعلنت مرجعياته حينها، الجهاد ضد بلادها من على ظهور الدبابات الأمريكية والبريطانية. إلا إنها تمكنت، من خلال، إثارة النعرات الطائفية وإدعاء المظلومية التاريخية، من التلاعب بالناس لإطالة أمد بقاءها في سدة الحكم. اليوم تنكشف سوأتها وهي توجه فوهات بنادقها إلى صدور العراقيين الشيعة قبل السنة. وبانت حقيقة عمالتها للإيرانيين ضاربة بعرض الحائط مصالح وأمن محيطها العربي. واليوم سقطت كذلك أقنعة المقاومة والممانعة ومحورها المزعوم من بيروت إلى طهران. إن مصالح النخب الأيديولوحية في إقامة هلال سياسي شيعي يخدم مصالح الملالي بدعوى دعم المقاومة وتحرير فلسطين، لم تعد تنطلي على الإيرانيين قبل اللبنانيين والعرب. فتصاعدت هذه الأيام صرخات الشعب الإيراني في المدن والقرى الرافضة لدعاوى آيات الله وتبديد موارد الدولة الفارسية لخدمة أجندات أيديولوجية ودعائية لا علاقة لها بالمقاومة. وحتى فيما يسميه حزب الله "البيئة الحاضنة للمقاومة" تصاعدت صرخات الرفض لمسار ملالي لبنان.    

أما في المضمون، فيبدو أن هذه الموجة هي ربيع للشعوب وليست ربيعاً لأعدائها. وها هي الجماهير الشعبية التي غصت بها الميادين والساحات من الجزائر والسودان إلى طهران قد تجاوزت الطائفية والإثنية ومزقت أستارها، فاعتصمت في الساحات والميادين كتفاً لكتف، من الجزائر والخرطوم إلى طهران مروراُ ببيروت وبغداد. هذه هي المقدمة لاستعادة الجماهير إنسانيتها وآدميتها، وافتكاك كينونتها من أيدي الذين تسلطوا عليها وجثموا على صدورها باسم الطائفة والمذهب والعرق أو أي لافتة أخرى. وهي بداية استعادة العلاقة الأساسية المسلوبة منها ألا وهي "المواطنة" الخام التي تعني تساوي الناس رجالاً ونساء، من حيث الحقوق والواجبات.         

وفي هذه الموجة تدق الجماهير أول المسامير في نعش الحزبية ونظرية النيابة والتمثيل. لم يعد يقنع الناس وجود نواب عنها. ولم تعد مستعدة لتسليم رقابها لنخب مصطنعة تتلاعب بمصائرها كيفما أرادت. الجماهير تيقنت من أن ممثليها لا يمثلونها، وإنما يمثلون أنفسهم ومصالحهم. في السودان يحارب الثائرون الحزبية وتعمل جماعات من المثقفين على بلورة شكل سياسي يسمونه "برلمانات الأحياء"، وهي مرحلة وسطي، أقرب إلى تجربة المؤتمرات الشعبية، منها إلى الأحزاب التقليدية. وفي العراق ولبنان يصر الناس على رفض كل الأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ويطالبون بحكومات تكنوقراط واختصاصيين ليس لهم انتماءات حزبية. كما يرفضون الطائفية السياسية ويصرون على تجاوزها. والأمر لا يختلف في العراق، إذ سأم العراقيون من استغلال الدين والطائفة للوصول إلى السلطة. وسئموا كذلك من التخندق الطائفي والديني والعرقي الذي أدى إلى تفتيت العراق. والذي أنتج طيفاً سياسياً مشوهاً أدى بالبلاد إلى شفير الهوية.

في هذه الموجة أظهرت الجماهير رفضها للتبعية والوصاية والتدخلات الأجنبية. فرفض الجزائريون محاولات التدخل الأوروبية، وأحرق العراقيون القنصلية الإيىانية في النجف، وعبر اللبنانيون عن حساسيتهم من تدخلات السفراء الأجانب فيما يدور في الشارع. وربما أراد المحتجون أن يرسلوا رسالة للجميع مفادها أن هذه الشعوب راشدة وتعرف مصلحتها وتعي جسامة مسئوليتها التاريخية، ولا تريد أن تفتح الأبواب لكي يركب الأجنبي موجتها ليحقق من خلالها مصالحه وأجنداته. 

إن هذه الموجة تمثل حالة وعي حقيقية تشكلت بعد مرحلة من التضليل قادتها النخب المزورة المرتبطة بمشاريع عابرة للوطنية. الشعوب اليوم تؤكد جدارتها بالحياة وتقدم موقفها الوطني على مواقف كل الطيف السياسي الذي ادعى لوقت طويل تمثيلها وحقق مصالحه الخاصة من خلال استغلالها وإثارة غرائزها المعنوية. لسان حال هذه الجموع اليوم يقول:

الملايين أفاقت من كراها ..

ما تراها؟

ملأ الأفق صداها ..

خرجت تبحث عن تاريخها ..

بعد أن تاهت على الأرض وتاها ..

حملت أفؤوسها وانحدرت

من روابيها وأعوار قراها ..

فانظر الاصرار في أعينها ..

وصباح البعث يجتاح الجباها..