لغة الجسد وحدها التي تبقى.. إرتعاشاته وسكناته ورقصاته المجنونة لغة تستطيع الصراخ والضحك واللعب والكراهية ومقاومة الخوف والبلادة.. والشعوب الإفريقية هي أول من عرفت لغة الجسد أو تحديد (لغة الرقص) وهي أول من وطدت سلطة هذا الجسد..

وحتى اليوم لا يذكر التاريخ تفوقا ما لحضارة أخرى ومازالت الرقصات الإفريقية هي الأكثر قدرة على التعبير من غيرها .. 

وفي واحدة من أهم الدراسات الجادة عن الرقص الافريقي يقول د. عز الدين إسماعيل أن ثمة حقائق تاريخية لم يثار حولها الجدل بين أساتذة علوم الموسيقى والرقص وهي أن الشعوب الإفريقية هي أول شعوب العالم معرفة بفنون الرقص والموسيقى، كما أنها من أصدق الجماعات الإنسانية تعبيرا عن بيئتها الفنية لاسيما فن الرقص، حتى برع الإفريقي _ في عصر الصيد _ في محاكاة الحيوانات التي كان يصطادها في الغابة وتقليد حركاتها بطريقة تقليدية.. 

ولعل أقدم ما وصل إلينا من أشكال الرقص الأفريقي المدون ، تلك الرقصة التي عثر على لوحة منحوتة تصورها على إحدى صخور جنوب أفريقيا، تلك اللوحة التي قلدها الرسام (جورج ستاو) وعرضها في عام 1867 وفيها نرى رجلا يرقص وهو ممسك بعصا رفيعة طويلة وخلفه خمسة من الرجال يقلدونه في حركاته رافعين أرجلهم اليمنى، وأيديهم قليلا إلى الأمام مثله، بينما يوجد أسفل الصوره حيوان يرمز إلى الغزال الذي يعبر عن مصدر الحركة الراقصة.. والرقص الشعبي في إفريقيا كما يعرفه المفكر والفنان الإفريقي المعاصر »كتافوديبا« هو طابع طقوسي سحري من طابع الحياة الإفريقية لا ينفصل عن أي شيء آخر بها ، وهو مزيج من النغم والحركة أبعد من أن يكون فنا مستقلا، كما هو الحال بالنسبة للرقص الأوربي. يتعلمه الإفريقيون كما يتعلمون الكلام ليعبروا عن مشاعرهم وأحاسيسهم، ويتميز بمقومات درامية تعكس صورة الصراع المتبادل بين الإنسان الإفريقي وقوى الطبيعة المحيطة به. وهذا التعريف الموجز يشير إلى علاقة الرقص بالحياة، داخل المجتمعات الإفريقية وهي علاقة وثيقة متلازمة تكاد تجعل منهما شيئا واحدا أو على حد تعبير الكاتبة الزنجية الأمريكية (بيرل بريمياس): (الرقص عند الإفريقي هو حياته. وبين الرقص والحياة زواج مغناطيسي، وحين أكتب عن الناس والحياة في إفريقيا، لا أجد أمامي مصدرا أصدق من الرقص).. 

ومن هنا كانت الجماعية سمة أصيلة من أبرز مميزات الرقص الإفريقي، فالناس في إفريقيا كلهم يرقصون، الأطفال والصبية والشباب والشيوخ، رجالا ونساء. 

وليس من الممكن هنا أن نقدم حصرا كاملا لأنواع الرقصات الإفريقية التي تمار سها الجماعات على إختلاف مواقفها الجغرافية، لكن من المناسب أن نعرض فقط لأهمها، وأكثرها شيوعا. ومن التعرف على دوافع هذه الرقصات يمكن أن نتبين مدى أهميتها وأثرها العميق في حياتهم.. وهل من الأفضل هنا أن نقتفي أثر المنهج الذي إتبعته الدكتوره (بيرل بريمياس) في تصنيفها لمجموعة الرقصات التي تمثل في تتابعها دورة الحياة الكاملة من بدايتها إلى نهايتها وهي المجموعة التي تتكرر في كل مجتمع إفريقي.. وهي رقصة الإخصاب، فرقصة الميلاد ، فالتكريس أو البلوغ، فالخطبة، فالزواج، فالموت، وهي المراحل التي يمر بها كل كائن حي. 

قد يكون من الغريب أن نتصور مجتمعا يرقص في مناسبة الموت ولكنه تقليد لا يرى فيه الإفريقي هذه الغرابة التي يراها غيره، لأن الإفريقي يعتقد أن دورة الحياة إنما تكتمل بالموت أو على حد تعبيره بالعودة إلى العالم اللامنظور، لأن المرء حين يموت ينتقل إلى عالم الخلود مع أرواح السلف.. وفي هذا خير كبير لمن فارق حياة الأرض.. وعلى الأحياء أن يسعدوا بهذا الخير وأن يعبروا عن فرحهم المصوب بالغناء والطبل.. 

ولقد لخص الفيلسوف الإفريقي المعروف (ألكسيس كاجامي) سر سعادة الإفريقي بالموت، وعدم إحساسه العميق بالحزن بقوله *SYMBOL 76 Wingdings" 0 ذلك لأن الفلسفة الإفريقية تؤمن بالخلود، فالموت ليس إلا الإمتداد الأولي للحياة المنظورة. والإفريقي ينظر إليه باحترام، تماما كما ينظر إلى الميلاد.. ولهذا يحتفل بموت أقاربه وأعزائه بالرقص. لأنها المناسبة التي سيعود فيها الميت إلى أرواح أسلافه).