إن الأعمال الأدبية المهمة والمؤثرة عبر التاريخ، والتي حققت شهرة كبيرة بسبب القضايا التي تناولتها فضلاً عن لغة الكاتب وأسلوبه. هي مرآة الواقع الاجتماعي و السياسي و الثقافي، فهي لا تسحر القراء فحسب، ولا تبقى رهينة الرفوف في المكتبات، بل ترتفع عن الزمن وتساهم إلى حد بعيد في تثوير العقليات الراهنة، وإضافة إلى ذلك، فهي تلك التي تحمل معها اسم كاتبها ليظل خالدا برغم الموت.وروايات الكاتب النيجيري الراحل، تشينو أتشيبي، علامة فريدة، ودليل قاطع على أنها لم تكن محض تجربة كتابية، بل كانت صوت نيجيريا الحر، الرافض للأنظمة الاستعمارية، وصوت إفريقيا وروحها وعالمها، فهي لم تقم حدا للجغرافيا، بل وذهبت إلى سماء العالم، لتكون حافلة بالأوجاع الإنسانية وتاريخها الذي يسرد ملاحمهما الفنية والوجودية. وهذا يدفعنا إلى تسليط الضوء عن صاحبها، حتى لا يبقى مهمّشا ومغيبا. 

حياته وآثاره

ولد "تشينو أتشيبي" في بداية الثلاثينات من القرن الماضي بقرية "أوجيدي" في شرق نيجيريا، وتلقى تعليمه في إحدى المدارس الحكومية بأومواهيا، ليكمل دراسته بجامعة ايبادن. بعدها سافر إلى لندن، ليتحصل هناك على شهادة الماجستير في اختصاص الأدب. وتواصلت رحلته هناك، فدرس الإعلام وعمل في العديد من الاختصاصات، إذ درس في خطة أستاذ جامعي في جامعة دايفيد وماريانا فيشر، كما درس في جامعة براون كاستاذ في الدراسات الإفريقية.توفي هذا الروائي في مارس 2013، في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية بعد معاناة طويلة مع المرض، وحضر جنازته عدد كبير من الشخصيات العالمية، من بينها مبعوثين عن دول أخرى، على غرار الرئيس الغاني "جون مهاما" والرئيس النيجيري "جودلاك جوناتان"، ودفن بمسقط رأسه في ولاية "أناميرا".لم يخلّف العديد من الآثار الأدبية، ولم يعرف بغزارته في مجال الكتابة، ولكنه كتب ما يجعل منه أيقونة الصحراء الإفريقية بامتياز، إذ عرفت عن انتاجاته، جرأتها وقدرتها الفائقة على اختزال الوجع النيجيري والإفريقي، في القليل من الروايات، فهو لم يكن في حاجة إلى التكرار أو الاجترار، وإنما سدد سهم الكتابة ليجعل منها وشما محفورا على أخاديد الإنسانية، وقال كلمته بكل جرأة وتركها تحفر في أذهان القراء وتحفزهم على التساؤل، وذلك من خلال تعريته لكافة أشكال الاستعمار والاستعباد.ومن أهم هذه الكتابات، روايته "الأشياء تتداعى" التي كتبها سنة 1958، والتي تناولت أثر الاستعمار في إفريقيا، وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة عالمية، وشهدت مبيعات قدرت بعشر ملايين نسخة. ومن رواياته الأخرى نذكر سهم الرب التي كتبت سنة 1964، وابن الشعب في سنة 1966، وكثبان السافانا في عام 1987، وتجدر الإشارة إلى أنه نشر بالإضافة إلى ذلك مجموعات قصصية وكتابات للأطفال وبعض المقالات النقدية.وكتابته جميعها، تناولت المخلفات المأساوية للإمبريالية البريطانية على المجتمعات الإفريقية، وهي بذلك، تعد سلاحا وقوة ردع، تفضح تلك الأيادي الهمجية التي طالت سحر إفريقيا وروحها.

 قضية الالتزام في عالم الكتابة

سعى أتشيبي في رواياته إلى إدانة الاستعمار الأوروبي في أفريقيا، والى فضح الأنظمة العميلة والمستبدة التي خلّفها بعد رحيله، حيث وجه أصابع الاتهام  إلى  الحكام والموظفين الأفارقة، الذين  أمعنوا في التنكيل بشعوبهم، من خلال الإمعان في إذلالهم وتحويل حياتهم إلى جحيم أكثر مما كان عليه في زمن الاحتلال. لقد جعل من بلده نيجيريا، رمزا من خلاله تفكّ جميع الشفرات في البلدان الإفريقية الأخرى، التي ظلت رهينة الاستبداد، ومحلّ تلك الصورة السوداوية الكئيبة، أو تلك النظرة المتعالية من قبل الغرب، حيث كشف عن جلّ معالم الفساد، ودموية الواقع من خلال مشاهد الرعب وخصي البعد الإنساني للإنسان الإفريقي.ففي «أشياء تتداعى»، وهي الأهم في تقديرنا، وفي تقدير معظم الباحثين الذين حاولوا دراسة مؤلفاته، كان ثمة نوع من الرثاء والحداد، لأن  التقاليد والعادات والطقوس غابت وتداعت وتفككت واندثرت بفعل طمسها من قبل الاستعمار، الذي لم يدّخر جهدا في تدمير المخزون الروحي الإفريقي. هذا الرثاء، أو الحداد، ليس حنينا إلى الماضي الإفريقي، بوصفه كان جنّة أو فردوسا، بل هو إدانة للاستعمار من جهة، ومن جهة ثانية إشارة إلى كون الموروث الضائع والمهمّش والمفقود، كان من الممكن أن يؤسس لحضارة افريقية تكاد تكون مكتملة وطاعنة في الكمال الإنساني، نظرا لطاقاته السحرية. ولا يذهب هذا الروائي إلى طرح حلول، بل يمارس فعل الأسئلة، وهو بذلك يحرض على النقد، ويعلم القارئ فن الفلسفة، وكيفية مواجهة الواقع وتحليله، كي يتمكن من تربية مملكته الفكرية.

إن رسم مشاهد القتل، وعقلية الثأر، وانصهار الواقع في تخوم من الانقلابات السياسية، أمام الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية المتردية، يعد نوعا من إدانة الموجود، ودعوة صارخة للبحث عن أسباب ذلك، وهو لا يعطي أجوبة بل يتركنا كقرّاء، نتعاطف بشكل أو بآخر مع الإنسان الإفريقي وهو ينازع الموت في كل لحظة، كما يحملنا معه إلى عالم البحث عن تلك الطقوس والعادات الروحية التي من شأنها تحقيق عالم أرحب وأكثر تماسكا.لقد استطاع هذا الروائي، على عكس البعض، أن يتجاوز النزعات الكتابية الشائعة في الأدب الانجليزي والعالمي، بل تبنى فكرة الأدب الإفريقي التقليدي، بالرغم من أنه كتب باللغة الانجليزية، واعتبر الفن وسيلة لخدمة البشر، وسلاحهم ضد كافة أشكال القهر. واستشهد في ذلك بحنينه إلى أزمنة البدء، ليقول بأن أسلافه ألفوا القصص، وتناقلوا الأساطير التي روت ملاحم الإنسان وصراعاته ضد غوائل الأيام. ومن هنا كان اتجاهه الأدبي الذي نظر الى الرواية على أنها رسالة تحمل غرضا وهدفا يخدم القضايا الاجتماعية والسياسية، عبر تثويرها في مصلحة البشر.هذا المسار الذي حدده لنفسه في مجال الكتابة، هو الذي ميزه عن بقية الروائيين النيجيريين، والعالميين أيضا، لأنه خلق خصوصية تتماشى وحجم الرعب الذي يعيشه الإنسان في مناخه الجغرافي، حيث الاضطراب والصراع العرقي والإبادات وصوت السلاح والخراب. يمكن القول، بأنه كان ضمير عصره بامتيازه، ونبيا أوصل رسالة الإنسان الإفريقي إلى العالم بكل صدق، وهو ما جعله يسمو إلى درجات العالمية، لأنه حول الوجع النيجيري، إلى ألم إنساني من الممكن أن يعيشه أي إنسان في العالم، وكأنه كان يريد أن يقول، انتبهوا فهذا الوجع ودموية الواقع قد تصيب العالم برمته. ويبدو أنّ صرخته هذه قد وصلت، لأن أكثر من سياسي ومن ناقد ومن روائي كانوا قد كتبوا عنه.

تشينو أتشيبي في نظر النقاد والسياسيين

لا يمكن القول بأن هذا الروائي سينسى من ذاكرة الأدب العالمي، ولا يمكن أيضا ألقول بأن أعماله ستهمل في يوما ما، فهي قد استبقت عصره بعد أن كانت مرآته، وستظل محلّ دراسات ونقاشات ببقاء أسباب وعوامل كتابتها، ولا يمكن للموت أن تنسينا هذا الروائي الذي خلدته أعماله القليلة من حيث الكمّ والكبيرة من حيث المضمونة والوقع، ولنا فيما قاله البعض شهادة على ذلك.وصفته "نادين غورديمير"، وهي من دولة جنوب افريقيا، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب سنة 1991، بأنه أبو الأدب الأفريقي الحديث، وهو فعلاً يستحق بكل جدارة أن يطلق عليه هذا اللقب، لأنه كتب بكل ضراوة عن أوجاع إفريقيا.وأكد "وول شوينكا" الأديب النيجيري الحائز علي جائزة نوبل في الآداب عام 1986، بأن أعماله تأتي من عمق الشخصية الأفريقية، وروحها المشبعة بسحر الأساطير، ولا تصور الرجل الأفـــريقي على أنه همجي ومتخلف كما أرادت له عقلية الاستعماري الأبيض.أما الناقد الأدبي "بروس كين" في مقدمته للأدب النيجيري، فقد أخبر أنه أول كاتب نيجيري نجح في نقل الرواية من النمط الأوروبي إلي الأدب الأفريقي، وبأنه لم يخضع إطلاقا للاجترار والتقليد وقوة التأثير التي تسلطها الأنماط الكتابية الأوروبية، مشيرا بذلك إلى أن هذا الروائي ساهم بشكل كبير في نحت وتخليد الخصوصية الإفريقية ليسمو بها أمام الثقافات الإنسانية الأخرى. وهو ما دفع بالكاتبة "توني موريسون" الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب لتقول بأن هذا الروائي هو  الذي أضرم علاقة الحب بينها وبين الأدب الإفريقي تاركاً أعظم الأثر على بداياتها ككاتبة.أمّا الزعيم الإفريقي، نيلسون مانديلا، فقد عبر عن إعجابه بهذا الروائي، وكان له أن صرح ليقول بأنه الكاتب الذي تهاوت في حضرته جدران الزنازين والسجون.

مواقفه الأدبية والسياسية

كان هذا الروائي، على غرار ثورته في مجال الإبداع وفن الرواية، رجلا له مواقفه الثورية الحاسمة، إذ يذكر أنه رفض جائزة، كان من المقرر أن يمنحها له الرئيس غودلاك جوناثان، بسبب عدم معالجته المشاكل السياسية في نيجيريا، كما يذكر أيضا أنه رفض اللقب الوطني، كقائد الجمهورية الاتحادية، سنة 2004، عندما كان أولوسيغون أوباسانجو رئيسا للبلاد. وهو لم يكن كاتبا فحسب، بل كان على غرار ذلك، مناضلا سياسيا، عرف بنزاهته، والتزامه بقضايا شعبه الذي كتب من أجله ومن أجل الإنسانية برمّتها، إذ وقف في صفّ المقموعين والمهمشين، معارضا للنظام النيجيري وناقدا له، مما عرض حياته للعديد من المخاطر. ولم يقرر الخروج من بلاده إلا متى خانه الجسد على اثر حادث أليم، دفعه للاستقرار في الولايات المتحدة، كي يكون قريبا من المستشفيات القادرة على معالجة مرضه المزمن.

مكتسباته

تحصل سنة 2002، على جائزة رفيعة، في السلام، منحتها له رابطة ناشري وبائعي الكتب الألمان تقديراً لدوره كروائي وكاتب أخلاقي إفريقي رائد، وفي عام 2007 فاز بجائزة البوكر العالمية.ويذكر أنه حصد العشرات من درجات الدكتوراه الفخرية والجوائز الأدبية الدولية. وهو عضو فخري في الأكاديمية الأميركية ومعهد للفنون والآداب، وترجمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة.وتجدر الإشارة إلى أن ‏"ذا غارديان"، وهي كبرى الصحف النيجيرية، كانت قد اختارته للفوز بلقب "نيجيري عام 2011"، وهي جائزة تمنحها هذه الصحيفة سنويا، وجاء اختيار أتشيبي آنذاك، بفضل التزامه بقضايا شعبه النيجري.وإضافة إلى ذلك، ففي استطلاع أجرته مجلة فوربس بين قرائها، تمّ اختياره كأشهر شخصية أفريقية لعام 2011، متقدماً على شخصيات تسلَّط عليها الأضواء بشكل أكبر، من موسيقيين وأبطال رياضيين وممثلين. وهو ما يؤكد بقاءه حيّا في ذاكرة إفريقيا وعالم الأدب العالمي.