لقد أكد الروائيون الأفارقة، أن الأدب العظيم، هو ذلك المحاكي المواكب لعذابات عصرهم، وهو ذلك الخرق الذي يفضح ويعرّي الواقع برسم مساراته الخاطئة المؤدية إلى خصي البعد الإنساني فينا، وهو ذلك التأريخ الملحمي الذي لا يهدأ إطلاقا إلا إذا تحوّل إلى سلاح يفتك بالمستعمرين ويرسم مدى جشعهم ومساهمتهم في قتل وترويع الشعوب. وهؤلاء الروائيون، استلهموا كل طقوس حياتهم وأساطير شعوبهم كردّة فعل على ثقافة الآخر الغازي.

ولعلّ من بينهم نستطيع أن نذكر الروائي الموزنبيقي صاحب الرواية الشهيرة "مذبحة ويريامو"، وهي حادثة وقعت فعلا سنة 1972 بعد أن أقدم المستعمر البرتغالي على ذبح قرية بأكملها، وإنها لوصمة عار أبدية الدهر ستلاحق أصحاب النزعة العنصرية.

قسم "وليامز ساسين" روايته إلى خمسة فصول، كلّ فصل دارت أحداثه في يوم واحد. وكلّ يوم من هؤلاء تضمن الأجواء والتفاصيل التي مهدت لحبك فصول المذبحة الدموية. وإضافة إلى ذلك، لم يجعل الروائي من أبطال روايته زنوجا فحسب وإنما أضاف إليهم البرتغاليين، كشكل من أشكال إقحامهم بهدف تعريتهم وإدانتهم.

ترصد هذه الرواية قائدا برتغاليا تم اختطاف ابنه من قبل الثوار المقاومين للمستعمر، وهم اختطفوه كرهينة ولم يعمدوا إلى تعذيبه أو إذلاله، بل وكما نقرأ، نشاهدهم محاولين إقناعه أنهم أصحاب الأرض الحقيقية وأنهم ثوار لا همّج ولا قتلة ولا قطاع طرق، وما اضطرارهم إلى خطفه إلا محاولة لردع أبيه الذي نكّل بهم.

وتشمل في فصولها أبعادا أخرى ساهمت في سبك حبكتها الدرامية، وذلك من خلال تعريفه بالقرية "ويريامو"، فهي جمع من الأعراق وخليط من الديانات والناس والبشر، كما أننا نستطيع أن نكتشف من خلال شخصية الشاعر "كابالانجو" جلّ تخوم هذه القرية وكيفية انتظام الحياة الاجتماعية داخلها، حيث إنه انتقل من الشعر إلى حقيقة أوصلته بحتمية رفع البندقية والسلاح ضدّ المستعمر لأنه الوحيد المسؤول عن موت الإنسانية والجانب الروحي في قريته عبر تشويه الحياة وتكبيل حياتهم ضمن الاعتراضات اليومية.

ويعند "وليامز ساسين" في الأثناء إلى دفع مسار الأحداث، إذ يحدث أن يهجم الجنود البرتغاليين بشكل موغل في الكره والتشفي والحقد على القرية، ويذبحون أبناءها دون رحمة أو شفقة، فتروى أرض الزنوج بدمائهم ويخيّم الموت والظلام ليأخذ الزنجي حريق الانبعاث والولادة بينما يظل المستعمر مدانا دائما وأبدا.

أما "فرديناند أويونو"، فقد ولد سنة 1929، وتقلد عدة مناصب دبلوماسية، وكتب العديد من الروايات نشرت باللغة الفرنسية وترجمت إلى عدّة لغات، ولكن روايته "الشيخ والوسام" هي من أهمها، ذلك أنها لم تخرج إلى حقول التهويم أو التخييل، بل ظلت ضمير السياق الجغرافي وهمومه في الكامرون مسقط رأس الروائي، حيث قدم من خلالها الطقوس الكاميرونية بمختلف تجلياتها الاجتماعية، انطلاقا من رصد جلّ الهموم الحياتية هناك.

ارتكزت الرواية على بطلين من إحدى القرى الكاميرونية، وهما "ميكا" وزوجته "كيلارا"، أما الأحداث فقد دارت في سياق زمني معين، ألا وهو زمن الحقبة الاستعمارية عندما كانت الكامرون في الخمسينات من القرن الماضي محمية فرنسية. وحياة "ميكا"، هي بشكل أو بآخر ترمز إلى حياة عموم الكاميرون في تلك الحقبة، حيث إنها كانت بسيطة جدا من خلال الصلاة والتراتيل وشغفه بالكتاب المقدس، كمنطلق روحي يصدّ جنون المستعمر الذي أوغل في تخريب الحياة المادية والعبث بثقافات الشعوب.

تذهب الرواية إلى التعقيد من خلال انقلاب يحصل في حياة بطلها، وذلك أن تمّ استدعاءه من قبل المستعمرين الذين بلّغوه أنه سيتمّ توسيمه من قبل حاكم البيض، بتعلة أنه قدم خدمات جليلة كالصمت على مقتل ولديه والتخلي عن أرضه، وفي ذلك رمزية كبيرة للفرو قات العنصرية وتكريس لحيف الاستعمار وجوره ووضعية من يواجهه أو من يصمت على طغيانه.

إن خبر تقليد "ميكا" وساما من قبل حاكم البيض جعل من بيته محلّ أنظار العديد من الزنوج الذين توافدوا على بيته، وانه لمن المؤلم والغريب أن يحدث ذلك، وكأن الأبيض عنصرا متفوقا أو أنه بلغ من القداسة درجة تجعل من رضاه على احد الزنوج أمر غير عادي وكأنه ضرب من ضروب المعجزات والخوارق. ونكتشف ذلك من خلال ما أقدم عليه أحد أقربائه "انجامبا" الذي قرر نحر فحل ماعز احتفالا بالخبر، واجتماع البقية لمرافقة "ميكا" إلى الاحتفال حيث تجري مراسم التوسيم.

يصف الروائي البطل "ميكا" أثناء المراسم فنشاهده من خلال ما كتب، واقفا ينبغي عليه عدم التحرك من مكانه، بينما عيون زوجته وأبناء القرية ظلت تنتظر الأمر بشغف كبير، ولأنه زنجي لم يعرف عن تقاليد البيض شيئا، حدث وأن شرب كثيرا من الشمبانيا والويسكي إلى درجة جعلته يغمى عليه، وهو ما جعله يفقد الوسام بعد أن عاد إلى صحوته وهو يواجه الأرض الموحلة أثناء سقوط الأمطار، ممّا جعل من رجال الشرطة يقدمون على القبض عليه دون أن يصدقوا ما رواه لهم من أحداث.

بعد إطلاق سراحه، اكتشف "ميكا" أن البيض مجرّد غزاة وأن هذه الأرض هي أرض الكاميرونيين، ومن هنا كان منطلق الرواية أو بالأحرى هدفها، حيث ذهبت عميقا في كيفية رصد الوعي الجنيني للزنوج ومراحل تكوّنه كي ينتبه إلى أن المستعمر ليس متعاليا أو ضربا من ضروب الميتا المتعالية والمقدسة، بل جاء ليستعبدهم لا غير.وإنّ قراءتنا لهذه الرواية، تسمو بنا عن كونها مجرّد إبداع أدبي لتلامس الأبعاد الاجتماعية والتاريخية والنضالية والسياسية، وتخلّد ذكرى الزنوج وملاحهم وعذاباتهم ضدّ تغوّل المستعمر والبيض.