قبل ان يتحول من الامارات الى السعودية كان رئيس الحكومة على قناعة بأن طبقة من الجليد السياسي تغطي تطلعاته الاقتصادية ولذلك صرح لوسائل الاعلام بما مفاده ان الهدف الأساسي من زيارته يتمثل في «اذابة جليد العلاقات الذي اثر سلبا على اقتصاد تونس» وانه «من واجب تونس ان تكون لها علاقات طيبة مع الجميع» وهذا يعني ان الرجل قد استبعد من ذهنه وهم النتائج الحينية والملموسة، وأطر زيارته في سياق ترتيب ما قبلي يزيل عوائق التواصل الديبلوماسي للمرور لاحقا الى طور التفعيل الاقتصادي..

ان اللحظة السياسية تكون في محلة صفائها قابلة للاستثمار الاقتصادي وهذا امر لا ينطبق على واقع الحال لان السيد جمعة ذهب الى الخليج محملا بإرث ثقيل لحكومة مستقيلة استنزفت كل أوراقها في عملية استتباع مكشوف لمحور أنقرة ـ الدوحة الآيل اصلا للتداعي والتفكيك.. هل هي زيارة اصلاح وترميم لسياسة خارجية سابقة كانت أضرارها اكثر من منافعها؟

وهل نجحت فعلا في رسم أفق التجاوز؟

لم يكن التونسيون فقط على قناعة بمحدودية الحصيلة الاقتصادية الناجمة عن الزيارة الخليجية بل كان الخليجيون أنفسهم ينظرون الى ما وراء بروتوكولات الاستقبال. الاماراتيون مثلا، كانوا أحرص في ردود أفعالهم المحلية على تجاوز الاسطوانة المكررة لميناء المياه العميقة بالنفيضة والمدينة الرياضية بتونس وركزوا أساسا على المعنى غير المعلن لزيارة جمعة، وهي مسألة نقلها بوضوح الصحفي التونسي حافظ الغريبي في مراسلة من أبو ظبي بتاريخ 18 مارس 2014، حيث أكد من خلال رصد ردود الأفعال محليا ان الاماراتيين يعتبرون ان «تونس بادرت بكسر العزلة العربية التي ضربتها سياسة الحكومة السابقة على نفسها ومن ورائها على البلد بحكم انتماءاتها السياسية ومواقفها الخارجية التي وصفها العديد بغير الموزونة خصوصا تلك الصادرة عن الرئيس المؤقت». لقد كان واضحا ان ارتسامات المداخلة «الرئاسية» في الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت بمثابة خطإ ديبلوماسي فادح فالتدخل في الشأن المصري بتلك الشاكلة جعل من تونس في حالة تواطئ «رسمي» مع جماعة الاخوان المسلمين، وفي حالة تضاد جوهري مع أهم المفاتيح الاستراتيجية في منطقة الخليج أي السعودية والامارات اللتان وضعتا كل امكانياتهما المادية والديبلوماسية في خدمة السلطات المصرية الجديدة...

 

الخليج.. والمعضلة الاخوانية

كان مهدي جمعة المحمل بمطبات صنعتها الترويكا المستقيلة برؤوسها الثلاثة (رئاسة ـ حكومة ـ مجلس تأسيسي) على موعد مع اخراج فعلي بل امتحان... انه ذاهب الى مفاوضات عنوانها المعلن انقاذ اقتصاد تونس ، وعنوانها المضمر تطارح مشكلة تصنيف الاخوان كمنظمة ارهابية ومدى ارتباط ذلك بالشأن التونسي أي بحركة النهضة التي أصرت في كل المناسبات على التلبس بشعار «رابعة» والتمترس المعلن في خدمة الرئيس الاخواني المعزول محمد مرسي.

كان استقبال المهدي جمعة من طرف السعوديين على درجة واضحة من البرود الديبلوماسي حيث استضافه النائب الثاني لرئيس وزراء المملكة الشيخ مقرن، ولم يكن السياق ولا درجة التصنيف البروتوكولي للزيارة يتحملان الحديث عن اعانات اقتصادية تظل دائما مشروطة بمعيار المصلحة.

ما مصلحة السعودية في اسناد دعم مالي الى بلد مازال «رسميا» يحوم في أفق محور «أنقرة ـ الدوحة» ويدعم الاخوان المسلمين الذين صنفتهم كحركة ارهابية؟ هذا سؤال أول.

ما مصلحة تونس في مواصلة التعويل على أنقرة التي غرق «إخوانها اللايت» في مشاكلهم الداخلية وفي مقدمتها شبهات الفساد الحائمة حول حكومة أردوغان؟ وما مصلحة تونس في مواصلة التعويل خليجيا على قطر المحاطة بدورها بما يشبه الكماشة الديبلوماسية، بعد ان قررت السعودية والامارات والبحرين سحب سفرائها من الدوحة؟

وكيف للمهدي جمعة، المرتبط بميثاق تعاقدي «وفاقي» مع حركة النهضة، ان يضحي بهذا الحزب لكسب الدعم الخليجي؟ هذا سؤال ثان وثالث ورابع...

وسط هذه الأسئلة ووفق مدلولاتها تأطرت زيارة السعودية، لتصل أخيرا الى صيغة تسوويّة عبّر عنها المهدي جمعة في حواره مع صحيفة «الرياض» السعودية.

لقد سئل عن موقفه من قائمة الاحزاب التي صنفتها المملكة كتنظيمات ارهابية، دون ان يغفل الصحفي عن تذكيره بأن تونس تحتضن الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، وكانت الاجابة واضحة وغائمة، دقيقة وسطحية في آن واحد: «لدينا نفس الموقف في تونس، بأن لا مكان للارهاب ونعتبر أن أي خروج عن القانون نحن مخولون بمقاومته، ونحن مع المملكة منسجمون في هذه القراءة، وأن لا توظيف لأي ايديولوجيا».

عن أي إيديولوجيا تحدث مهدي جمعة، عن ايديولوجيا الاخوان كجماعة ام عن ايديولوجيا الاسلام السياسي كتعريف هلامي فضفاض؟ المهم انه هدأ السعوديين من جهة وحاول من جهة اخرى تبرئة حركة النهضة من «الشبهة الاخوانية»... لكن الحركة أجابته بعد يومين فقط من الزيارة بتجمهر في شارع بورقيبة ظاهره الاحتفال بعيد الاستقلال وجوهره مساندة محمد مرسي!!!

هنا تعود بالغيمة السياسية لتعرقل الطموح الاقتصادي فحركة النهضة تأبى على ما يبدو تصنيف نفسها خارج جماعة الاخوان، وبلدان الخليج ترفض بالتأكيد ان تساعد بلدا تحوم سلطاته السياسية في فضاء الأخونة...

 

المطلوب... اعادة صياغة الرؤية الاستراتيجية

كان واضحا أن السلطة المنبثقة عن انتخابات 23 أكتوبر 2011 غرقت في محاكاة ساذجة للمعادلة الاقليمية التي أنتجها «الربيع العربي»، ولم يكن لديها الحس الاستراتيجي الذي يمكنها من فهم انها صيغة ظرفية قابلة للتحول السريع.

علينا أن نخرج الان من هذه السطحية الفجة، ونطرح المسألة بعيدا عن العواطف الجياشة، وندرك ان مصالح تونس كدولة أعلى من مصالح الاخوان كجماعة.

لم تدرك الطبقة السياسية الرسمية أن ربيعا ثانيا قد اخترق المشهد الجيواستراتيجي العربي. ان مصر قد حددت في ثلاثة أيام ملامح المنطقة العربية لخمسين سنة قادمة، وبقطع النظر عن تقييم التغيير السياسي الذي حصل في 3 جويلية 2013، فانه يظل الحدث التاريخي الأبرز.

كيف ننظر الى الاستتباعات المزلزلة لهذا الحدث دون ان نشعر ان السعودية أي الحاضنة التقليدية للاسلام السياسي قد وضعت كل ثقلها في خدمة المنظومة المعادية لجماعة الاخوان؟ولماذا حصل ذلك ايضا مع الامارات والبحرين وقد يحصل اصلا مع مجلس التعاون الخليجي؟

ان السعودية تنظر مليا الى علاقاتها مع واشنطن، لكنها تسعى الى اعادة صياغتها وتعريفها، ولا مجال لذلك الا بتجريد قطر من أوراقها السياسية وفي مقدمتها الذراع الاخوانية. الرياض تريد استرجاع دور اقليمي محوري وقع بين فكي ايران الغريم الطائفي، وقطر الجار المشاكس الذي دخل لعبة اكبر بكثير من حجمه الجيواستراتيجي الفعلي. اما مصر العائدة بعد تجربة مريرة مع الاستبداد الاخواني الى حضن العسكر، فهي القاطرة المركزية التي ستغذي هذا الطموح، لان وجودها كظهير حليف للسعودية سيعيد صياغة التوازنات الاقليمية. يجب ان تنظر تونس الى هذا الامر بحس براغماتي مصلحي (وبمبدئية ان أمكن ذلك)، مجلس التعاون الخليجي يفلت من قبضة قطر، وهناك تنسيق أمني سيتخذ شكلا رسميا عبر مشروع «مجلس أمن» يجمع مصر والسعودية والامارات والبحرين وعمان ودولا أخرى، هدفه التصدي للارهاب الذي لم يعد يشمل فقط تنظيم القاعدة، بل يضم أيضا الجناح الاخواني العسكري الذي باشر مهامه القتالية بعد خروج الجناح «المدني» من السلطة... اذن هناك تحولات سريعة جارفة لا تنتظر أنصاف الجمل وأنصاف الحلول... إن مستقبل أي تعاون تونسي مع الدائرة العربية رهين خطوة شجاعة من الحكومة التي ينتظر منها اعلان موقف جريء ضد جماعة الاخوان المسلمين...

كما ان أهمية التغيير الكامل للمعادلة الديبلوماسية تكمن في كونه الآلية الوحيدة لإدماج تونس كطرف فاعل في المنظومة الاقليمية، وان الثقل الاستراتيجي لمجموع الدول العربية المضادة للاخونة يبقى أهم بما لا يقاس، من الشرعية الواهمة لتيار اخواني فاشل صار يمثل تهديدا للدول الشقيقة...

هل ستولد لحظة الوضوح في قلب هذه اللخبطة الديبلوماسية التي كرستها الحكومة السابقة، وعمقتها الرئاسة المؤقتة؟

منطقيا لا مناص من ذلك، وتطبيقيا لا مفر من الانتظار لان المفردات الحكومية الجديدة لم تنتظم في نص استراتيجي واضح المعالم.

*عن جريدة "الصحاقة" التونسية