هناك عقلية ترسخت في الذهن السياسي التركي منذ الدولة العثمانية وربما ترجع حتى لفترات أقدم، وهي تصور التفوق أو الرغبة فيه بما خلق شخصية قريبة من النرجسية غير المفهومة، وتواصل ذلك حتى مع الدولة "الأتاتوركية". هذه القاعدة بقيت موجودة خاصة في نظرتها إلى العرب. دائما ما كانت تغلب الأتراك السياسيين فكرة التفوق على العنصر العربي والتعالي عليه وهي موروثة أساسا من العثمانيين الذين تعاملوا معنا بالكثير من الدونية وبقي ذلك مستمرا حتى في العقدين الأخيرين مع صعود رجب أردوغان وحزبه إلى سدّة الحكم وتغيير السياسة التركية نحو تبني مقولات الإسلام السياسي ولو بالكثير من الليبرالية المنفتحة على الخيارات الغربية في مستويات مختلفة.

بالنسبة إلى السياسة "الأردوغانية" تجاه العرب هي تشبه الكثير سياسة الذئاب، التعامل مع الفريسة لا يكون بشكل مباشر، بل بالمخادعة في الظلام، بعدها يكون الهجوم، وقد انقسمت في العشريتين الأخيرتين إلى مرحلتين؛ مرحلة أولى كانت هادئة نسبيا ومخادعة، ومركزة على الجانب الاقتصادي مع الكثير من "البراغماتية" في العلاقات السياسية على قاعدة "الصفر مشاكل"، ومرحلة ثانية في العشرية اللاحقة عندما حشرت نفسها في التحولات التي شهدتها بعض الدول وكانت جزءا من خرابها وأزماتها، سواء في سوريا التي يسجل لها التاريخ أنها كانت رائدة التخريب ونشر الفوضى والإرهاب فيها، وسواء في دول المغرب العربي التي مازالت إلى اليوم تثير أسئلة كثيرة حول الدور الذي تلعبه فيها خاصة أنها كأي قوة أخرى تسعى إلى المنفعة الدائمة مغلفة طبعا بحلم الخلافة.

في نوفمبر من العام 2019، وبعد أن وضعت نفوذها لفرض التيارات الإسلامية في ليبيا لسنوات ودعمتها بالمال والسلاح ونشرت فيها كل أشكال الفوضى، نجحت تركيا في أن تفرض على حكومة السراج اتفاقيات لا تفسير لها إلا رغبة في الاحتلال غير المباشر عبر تكبيلها اقتصاديا ومنحها صكا على بياض في كل ما هو سياسي وعسكري، بالإضافة إلى مشكلة المرتزقة وما تمثله من إشكال في الحوار السياسي بين الليبيين.

وحتى بعد تغير الأوضاع عقب تشكيل حكومة الدبيبة بقي الأتراك يحاولون لعب نفس الأدوار، ويبدو أن السلطة الجديدة إما لا تملك آليات الحد من تغولهم أو أن الجميع مستسلم للواقع، خاصة بعد "التطبيع" الجديد لأنقرة في المنطقة وهذا يبرز من تكرر الزيارات بين مسؤولي البلدين والتأكيد على العلاقات القوية ومواصلة العمل بالاتفاقيات السابقة التي تبقى بكل تأكيد نقطة سوداء عند الشعب الليبي غير المتقبل لأي دور تركي في البلاد بسبب السجل السيء خلال العقد السابق.

في تونس الأمور لا تختلف كثيرا، فقبل حوالي سنة من الآن، كان البرلمان التونسي أمام جدل حول الاتفاقات التي تبرمها السلطات التونسية مع مجموعة من الدول في إطار بحث عن أفاق استثمارية تخفف بها الضغط الكبير على الاقتصاد وكيفية الخروج من الأزمات المتكررة. وفي إطار لعبة موازين القوى، ركز البرلمان المهيمن عليه من قبل حركة النهضة وحلفائها، على مشاريع استثمارية لدول حليفة من بينها تركيا التي كانت دائما محل خلاف بين السياسيين التونسيين بسبب دعمها للإسلام السياسي في المنطقة ومحاولة استغلال قوتها الإقليمية لفرض خيارات يفترض لا تناسب تلك الدول.

ذلك الجدل في الواقع لم يكن مربوطا بسنة مضت، بل بسنوات أصبحت طويلة بعد التحولات التي شهدتها البلاد في 2011، وصعود حركة النهضة إلى الحكم، وبقي السؤال يطرح عن مستقبل العلاقة مع تركيا والهدف من تمييزها عن بقية الدول. وتونس تقريبا مثل ليبيا هي جزء من مشروع تركي كامل يريد فرض نفوذه في منطقة كانت إلى وقت قريب بعيدة عن اهتماماته، والسبب في كل ذلك سياسي مرتبط أساسا بخيارات دولية أصبحت ترى في الإسلام السياسي "المعتدل" شريكا يمكن التعامل معه وهي خيارات تمثلها أساسا واشنطن ولندن وبدرجة أقل برلين التي كانت لسنوات ملجأ للفارين من دولهم.

لكن تونس اليوم تشهد تحولات جديدة على المستوى السياسي، بعد الإجراءات الأخيرة للرئيس قيس سعيد بحل الحكومة المدعومة من حركة النهضة، وتعطيل البرلمان الذي تمثل النهضة أيضا أغلبية نسبية فيه، وهي إجراءات ربما تكون لها تبعات في مستوى العلاقات الخارجية وتصحيح مسارها في علاقة بدول الإسلام السياسي الذي بدأ يخفت ضوءه في تونس تدريجيا.

المغرب أيضا وفي ظل وجود حكومة إسلامية تعتبر العلاقة مع تركيا جيّدة. الحالة المغربية هنا مختلفة قليلا؛ الدولة في وضع استقرار سياسي منذ سنوات، العلاقات الخارجية ليست تحت سيطرة الحكومة بشكل كامل، النظرة التركية نفسها ليس بنفس الشكل مع ليبيا وتونس، وبالتالي لا يمكن الحديث عن تعامل فوقي أو نافذ أو تدخل في غير محله في سياسات البلاد، وهذا تفهمه الرباط كما تفهمه أنقرة.

بالنسبة إلى الجزائر وموريتانيا العلاقة بأنقرة ليس فيها ما يشير بشكل مباشر لأي دور مشبوه، بالنسبة إلى الأولى قوة المؤسسات لا تسمح لأي دولة أن تتدخل في شؤونها إلا في ما هو مفهوم بين أي دولتين ةهذا راجع لتاريخ سياسي كامل يعتبر الدولة الحديثة مقدّسة باعتبارها بنيت بدماء الشهداء، أما موريتانيا فهي دولة تتعامل وفق حجمها دون أي عدائية مع أحد، وحتى أنقرة فاهمة لهذا الأمر ولم تراهن على الأقل فيما هو ظاهر على نواكشوط في نشر أي برنامج سياسي.

خلاصة القول أن المنطقة المغاربية اليوم، تعيش على وقع تحولات متسارعة فرضتها الظروف التي أعقبت 2011، فيها الداخلي عبر تغيرات كبيرة حصلت على المستوى السياسي، وفيها الخارجي عبر دخول قوى تريد فرض مشاريعها السياسية مستغلة ضعف بعض الدول، والدور التركي ربما يعتبر أحد أهم هذه الأدوار عبر لعب دور الداعم لأطراف الإسلام السياسي التي وصلت إلى سدة الحكم في بلدانها.