منذ سنة 2011، كانت فرنسا لاعبًا رئيسيا في الأزمة الليبية حيث لعبت السلطة الفرنسية حينذاك دورا محوريا لإنجاح الحملة العسكرية التي نفذها حلف شمال الأطلسي على ليبيا بهدف الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي بالتعاون مع عدد من الدول الغربية والإقليمية.

 إلا أن هذا الموقف وُصف بالغريب في الدوائر الأوروبية لما عرف من علاقة وطيدة بين الزعيم الراحل معمر القذافي والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في إطار استراتيجية القذافي لاستمالة المسؤولين الأوروبيين وتخفيف الضغط الذي عاشته البلاد لأكثر من عقدين من الزمن بمفعول الحصار.

من ذلك، يعتبر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تكساس الأميركية، إبراهيم هيبه أن العلاقات الليبية الفرنسية قديمة حيث يقول لموقع "أصوات مغاربية" :"لفرنسا نفوذ كبير في منطقة الساحل الأفريقي، وتعتمد الشركات الفرنسية على اليورانيوم المستخرج من هذه المنطقة، وترى في الجنوب الليبي امتدادا لمستعمرتها القديمة الغنية بالنفط والموارد الطبيعية، حيث ترى حصتها غير عادلة مقارنة بإيطاليا".

فالدور الفرنسي المتقلّب لم يتوقف عن النشاط في المسألة الليبية إثر أحداث فبراير 2011، إذ يمكن تصنيف باريس بالطرف الوازن في الساحة الليبية التي تعج بالصراعات حيث أعلنت فرنسا قبل حوالي 10 سنوات بحسب ما أوردت صحيفة "الجارديان" أنه من "المنصف والمنطقي" أن تستفيد الشركات الفرنسية من كعكة النفط الليبية، في إشارةٍ إلى الدعم الفرنسي للإطاحة بحليفها السابق، معمر القذافي.

وتسيطر شركة توتال من حقوق التنقيب عن النفط على 75% من حقل الجرف، 30% من حقل الشرارة، 24% من حقل قاع مرزوق، 16% من حقل الواحة كما حصلت "توتال" على 16.33% من شركة الواحة، وهي أهم شركة نفطية في ليبيا.

جدير بالذكر أنه قبل أحداث فبراير 2011، كانت تحصل فرنسا على% 17 من صادرات النفط الليبي ارتفعت بعدها إلى نحو 33% منها، وتستهلك المحروقات في فرنسا نحو 99% من واراداتها من النفط الليبي.

فضلا عن سعي فرنسا نحو أن تظفر بحصة مهمة من عمليات إعادة الإعمار التي ستشهدها ليبيا بعد استقرار الأوضاع الأمنية فيها، والتي قدّرت الحكومة الفرنسية في عام 2011 أن ليبيا تحتاج نحو 200 مليار دولار لإعادة الإعمار.

الهجرة غير النظامية كذلك تمثل موضوعًا أساسيا للحضور الفرنسي في ليبيا حيث تعد البلاد واحدة من نقاط الانطلاق الرئيسية للعديد من المحاولات للوصول إلى السواحل الأوروبية. وتبحث فرنسا عن سبل لاحتواء تدفق الهجرة من خلال انخراطها في ليبيا وإقامة روابط وثيقة مع القوى فيها.

فأمن ليبيا تعتبر مسألة شديدة الحيوية بالنسبة لباريس فيما يتعلق بالأساس بنفوذها الإفريقي بسبب التأثيرات على الجوار الجغرافي الليبي (تونس والجزائر ومصر وقبل كل شيء، تشاد والنيجر، ومالي وذلك لوقف إمدادات الأسلحة والاموال للجماعات الجهادية التي تهدد الحكومات الهشة في النيجر وتشاد ومالي.

سياسيًا، فرنسا كانت من عرابي اتفاق الصخيرات المبرم في المغرب سنة 2015، وقد سعت في أكثر من مرة إلى ضرورة الإعتراف بالجيش الليبي كرقم أساسي في العملية السياسية، إذ تراهن باريس على قدرة حفتر على فرض النظام على الدولة في ظل الفوضى المستشرية منذ سنوات فضلا عن اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجماعات الإسلامية التي تنشط في شكل ميلشيوي تستعين به السلطة في طرابلس.

اتخذت باريس سياسة بأن لا ترمي جميع البيضات في سلة واحدة فرغم دعمها العلني للجيش الوطني الليبي إلّا أنها لم تدخل في صدام مع السلطة في طرابلس إذ لم تشهد العلاقات بين الجانبين توترا معلنا وتواصلت الزيارات والمعاملات بشكل اعتيادي.

التحركات الفرنسية النشيطة في ليبيا جعل من دول لها ارتباط تاريخي بليبيا و تسعى أن تكون لها يد طولى في البلاد لا ترحب بهذا التوغل الفرنسي، إذ كانت فرنسا قد صعدت موقفها تجاه التدخلات التركية في ليبيا منذ مطلع يونيو واصفة إياها بـ"غير المقبولة"، في حين أدان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان "الدعم العسكري المتزايد" لتركيا لحكومة الوفاق الليبية، والتي تمكنت بفضل الدعم التركي هذا من استعادة السيطرة على مدينة طرابلس وضواحيها بالكامل، بل والتوجه نحو مدينة سرت شمال وسط البلاد.

بدورها قالت وزارة الخارجية التركية في بيان إن المزاعم الفرنسية حول موقف أنقرة تجاه ليبيا تعد مؤشرا جديدا على "سياسة فرنسا المظلمة وغير المبررة تجاه ليبيا"، مضيفة أن أكبر عقبة أمام إحلال السلام والاستقرار في ليبيا هي الدعم الذي تقدمه فرنسا وبعض الدول لبعض الأنظمة غير الشرعية، في إشارة إلى حكومة الثني، بما يتعارض مع قرارات مجلس الأمن الدولي.

ولم تتوانى باريس عن تصعيد اللهجة تجاه أنقرة حيث اتهم الرئيس الفرنسي تركيا بتوريد الجهاديين من سورية إلى ليبيا "بكثافة"، قائلاً إنها تتحمل مسؤولية "تاريخية وإجرامية" عما يحدث في هذا البلد، وهو ما قوبل برد من وزير الخارجية التركي الذي قال إن فرنسا تلعب دوراً "تدميريا" في ليبييا.

في ذات الصدد،أعادت السفارة الفرنسية في ليبيا فتح أبوابها أخيرا، بعد سبع سنوات من الإغلاق. وعاود العلم ثلاثي الألوان الرفرفة فوق مبنى السفارة منذ يوم الإثنين 29 مارس/آذار في العاصمة طرابلس. يعد هذا الحدث علامة على عودة الهدوء للبلاد التي ابتليت بحرب مدمرة، وبداية مرحلة جديدة من الانتقال مع تعيين الحكومة الانتقالية، حكومة الوحدة الوطنية، التي نالت ثقة البرلمان الموحد في 10 مارس الماضي.

من ذلك،يرى مراقبون أن فتح السفارة في إطار سياق مخصوص للغاية، فمسألة الأمن ومستوى العنف والتقدم السياسي كل ذلك تطور بصورة سريعة للغاية خلال الأشهر القليلة الفائتة في ليبيا، لدرجة أنه شكل مفاجأة للعديد من الجهات الأجنبية، مثل فرنسا التي كانت على هامش العملية السياسية وراقبتها في كثير من الشك والريبة. فمنطقيا، يسعى الإليزيه للاستفادة من معطىً جديد في ليبيا حيث تغير المناخ السياسي بفضل أسلوب الحكم الجديد الذي يجسده رئيس الوزراء المنتخب.

قصارى القول، فالأزمة الليبية فرضت واقعاً جديدًا وربما مفاجئًا جعل باريس أمام حتمية التعامل مع المشهد الليبي بآليات جديدة في إطار براغماتي للحفاظ على مصالحها وتجنب التهديدات المطروحة في حال استمرار الأزمة وفشل الحل العسكري مما سيطيل المعارك ويبقي فرنسا ومصالحها عرضة لعمليات إرهابية ولموجات الهجرة.

لكن الحضور الفرنسي محفوف بعديد المخاطر لعل أهمها تنامي حدّة الصراع حول المغانم من الكعكة الليبية منها من ترى نفسها أن لها حقوق تاريخية في البلاد كإيطاليا وتركيا وترتبط مع ليبيا بمصالح استراتيجية عديدة، بل وشعبية أيضا، وهو ما يمكن أن يشكل عائقاً للطموحات الفرنسية في الانفراد بالملف الليبي والهيمنة عليه.