يرتبط اسم الشاي بالموريتانيين اينما حلوا وارتحلوا حتي اصبح ايقونة لهم لدي الكثير من الشعوب الافريقية نظرا لحرص الموريتانيين علي تناول الشاي اكثر من حرصهم علي الاكل والشرب .
وتعلق الموريتانيون بالشاي منذ دخوله الي بلادهم قبل اكثر من قرن ونصف من الزمان، فأدمنوا علي تناوله بشكل مفرط،، ليصبح جزء من حياتهم الإجتماعية، ومعبرا في تقاليدهم عن معاني الكرم وحسن الضيافة والارتباط بالأصالة والهوية، كما يرمز أيضا لمشاعر الفرحة والتقدير لمن يكرم به في موريتانيا سواء البيت أو المكتب..، فالشاي هو المشروب الوحيد الذي يتناوله الموريتانيون يوميا في المتوسط أكثر من ثلاث مرات، والإقلاع عنه لساعات طويلة يعرض الإنسان الموريتاني لآلام مختلفة وصداع، وتقيؤ احيانا، و في أقل تقدير إلي زيادة التوتر والإنفعال، وهذا كله ما يحصل في موريتانيا للصائمين في رمضان بسبب الشاي خصوصا في الأيام الاولي من الشهر الفضيل.
فن صناعة الشاي عند الموريتانيين
تحتاج صناعة الشاي وإعداده في موريتانيا إلى شخص خبير ذوحس مرهف، يسمي ب"القيام" ليختار ثلث كأس صغير من الشاي يتم وضعه في "براد" صغير، يصب الماء الساخن عليه ويرج جيدا لتنقيته من الشوائب والمواد الحافظة، وبعد ذلك تصب هذه الخلاصة جانبا في كأس، وتسمى هذه المرحلة «تشليلة» بعدها يصب الماء الساخن مرة أخرى ووضعه على نار هادئة في موقد غازي صغير أو موقد للفحم يسمى «فرنة»، ويترك لدرجة تقارب الغليان، ثم يبدأ في عملية صنع رغوة في كافة الفناجين الصغيرة، وذلك برفع "البراد" عاليا وصب الشاي داخل الكؤوس حتى تتم العملية، ثم إعادته للنار مرة أخرى لتسخينه فقط، بعدها يضاف النعناع والسكر، ليوزع حينها في الأكواب الصغيرة حتى المنتصف، ويقدم في صينية صغيرة تسمى «سرفاية»، وتسمى هذه العملية «الكأس الأول» ثم تعاد نفس العملية للكأس «الوسطاني» أي الثاني، ثم الثالث (التالي)، ومن المستحب لدي الموريتانيين لمن يتولي إعداد وتحضير الشاي أن يتذوقه قبل تقديمه للضيوف، حيث يصب قليلا منه في كأسه، ثم يرتشفه ليختبر نكهته ومذاقه، وتسمى هذه الحالة محليا(الروزة) بتفخيم الراء .
كما يتعين على معد الشاي كذلك إتقان فن الإمساك بالابريق، وطريقة ادارة الكؤوس بين الجماعة، وتبدأ عادة من اليمين الى اليسار، و ينبغي عليه كذلك أن يتقن فن صناعة الرغوة في الكأس من خلال سكب الشاي بين الكؤوس، ويفترض فيه ان يكون دقيقا في ذلك بحيث لا تقطر اي قطرة من الشاي خارج الكأس، كما ان عليه ان يحافظ على نظافة كؤوسه، ويفضل ان يضع على الصينية التي توجد الكؤوس فوقها، حزمة من النعناع الاخضر، لتزيين المنظر .
وإذا كان الموريتانيون يفضلون من المشرف علي إعداده، ان يكون شخصا لبقا ومهذبا حلو الحديث، ومؤدبا عارفا بأدبيات صناعة الشاي او"اتاي" في اللهجة الدرجة عندهم، فإنهم كذلك يختارون لاعداده امرأة، غير متزوجة وصغيرة في السن، خصوصا إذا كان من يجلسون معا لتناوله من فئة عمرية واحدة، أو هم ممن يتناولون احاديث اللهو والغزل،
الجانب الإجتماعي للشاي في حياة الموريتانيين
لاترتاح نفوس الموريتانيين إلا علي تناول الشاي، كسلاح يقاومون به مشاق الحياة ومتاعبها المختلفة، ويستوي اغنيائهم وفقرائهم في في الارتباط به والتعلق بتناوله، فالكل يشربونه بنهم وينفقون بسخاء لشرائه، مهما شحت الموارد والمداخيل، بل إنه واكثر من ذلك يمثل لديهم بعدا اجتماعيا ملحوظا ، حيث لا تكاد تلتف المحافل واللقائات الاجتماعية إلا علي صرير تعاطي كؤوسه المترعة، كما لا تطيب مجالس الانس والطرب في المناسبات الاجتماعية، إلا علي تناوله، ومن علامات رضي الفتاة بخطيبها، اذا تولت بنفسها إعداد الشاي له ولأصدقائه، وفي الزواج بعد ذلك كانوا يلزمون العريس ان يكون في المهر الذي يتقدم به أكياسا من الشاي ذات وزن معتبر.
والشاي عموما حاضر بقوة وبشكل ضروري في البيوت الموريتانية وفي المكاتب العمومية والسفارات الاجنبية المعتمدة في نواكشوط لاولويته عند حلول الضيوف والزوار.
والجميع يحرص علي توفره وادخاره بشكل مستمر، وحتي ان الاحزاب السياسية الموريتانية تخصص له ميزانيات مالية ليكون متوفرا بأستمرار في مكاتبها، مثلها مثل كل المؤسسات العمومية والخصوصية في موريتانيا، كما يجب التذكير ان الشاي وأدواته ترحل مع الموريتاني أينما حل وارتحل، في الأسفار الداخلية والخارجية، فكل الموريتانيين المسافرين إلي الخارج يحرصون علي اصطحاب الشاي الموريتاني معهم، يقول محمد ولد محمد الامين 40 سنة عن هذا الموضوع: انه كلما سافر الي خارج البلاد يصطحب معه كمية من الشاي مع الادوات التي تصنعه، وفي احدي المرات وبعد مكوثه في إحدي الدول المغاربية لأكثر من اسبوع نفد الشاي الذي كان بحوزته، ولم يتسني له من مكان إقامته التواصل مع الجالية الموريتانية في تلك الدولة من أجل الحصول علي الشاي، مما جعله يمضي بقية إقامته لعدة أيام وهو فاقد للتوازن الكلي وتغير كبير في الميزاج، مما أثر في كل نشاطاته ومهامه التي كان يشتغل بها، وهذا ما دفعه للاسراع في العودة إلي بلاده للحصول علي الشاي حتي يعود إلي صحته الطبيعية" .
الشاي في الثقافة الادبية الموريتانية
دخل الشاي قديما في المنظومة الثقافية الموريتانية فتغني به الشعراء وسجلت بعض المساجلات والخلافات الفقهية حول جواز تناوله من الناحية الشرعية والدينية، حيث كان بعضهم في ذلك الحين يري أن لون هذا المشروب وطريقة إعداده وتأثيراته المختلفة كالإدمان تقربه إلي حد ما من الخمر، بينما فند آخرون هذه الادعاءات مثل الفقيه والشاعر الموريتاني الكبير سيد محمد ولد الشيخ سيديا الذي عاش في اواخر القرن ال18م، وذلك بقوله في احدي القصائد ردا علي من يلومونه في مسألة تناوله ويحاولون تحريمه ببعض الفتاوي الشرعية:
دع الإكثار من قـال و قيـل
كفاك اللومُ بالكَلِـمِ القليـل
أقلني إن عثرتُ على عِثـاري
فخير الصحب كل فتى مُقِيـلِ
وإلا تزدجـرْ عمـا علـيـه
جبلتَ من التهـوُّر والصهيـل
فإني لستُ منك ولستَ منـي
وليس رَعيلُ خيلِكَ من رعيلي
ولستَ إلـى لقـاء الله منـي
بمنزلـة الرفيـق ولا الزميـل
ولم تك في الحساب غداً حسيبي
ولم تك لي بمولـىً أو وكيـل
تُلَـوِّمُ أن تَعاطَيْنـا كؤوسـاً
تذكرنا كـؤوس السلسبيـل
تحـاول أن تحرمهـا عليهـا
متى احتاج النهار إلـى دليـل
أصول الحِلِّ عدوهـا فعـدوا
نبات الأرض من تلك الأصول
وقبلَك ملَّ فيها القـولَ قـومٌ
فما أغنوا بذلـك مـن فتيـل
وليس اللـوم فيهـا اليـوم إلا
أحاديثٌ تعد مـن الفضـول
وفي البعد الأدبي والثقافي للشاي عند الموريتانيين تري الكاتبة والباحثة الاجتماعية الموريتانية السيدة تربة بنت عمار:
إن الشاي الموريتاني الأصيل لم تستطع العولمة تغير نمطه ولم تكدر صفوه مظاهر التمدن وظل يتربع على سلطة ذوقنا الجمعي منذ ما يناهز قرنين من الزمن .. مما يجعله مدر إلهام الشعراء ومقصد من مقاصد الطرب والنشوة يقول احد الشعراء المتقدمين في موريتانيا:
لولا"الأتاي" ولولا البيض والعيس
لما وجد بين الإنس تأنيس
وتضيف بنت عمار "ان الشاي عند الموريتانيين ما زال ذو أهمية قصوى مع أن كثرته ساهمت بشكل لا إرادي في اختفاء مكامن الجمال التي هي مصدر إلهام الشعراء المبدعين والتي خلقت ثقافة خاصة به ومصطلحات ودلالات تحمل ثقافة ما هي إلا جزء من الثقافة الصحراوية البسيطة.
كما ان الشاي ظل زمنا محتكرا على الأمراء ومجالسهم مما خلق عند المحرومين نوعا من أدب الحرمان، وقد لجأ بعض المتعلقين به إلى استخدام الصمغ العربي وكذلك بعض الأعشاب نظرا لندرته، وأصبح "للسكاكه" اي المتطفلين لتناوله سلوك خاص وظلت المرأة مبعدة منه مثلما أبعدت عن أشياء أهم، وقد سمى به بعض الشعراء إلى أن جعله توأم العلم حيث قال:
فلا عيش يطيب بغير علم
وكأس لها في العظام دبيب
فلولا الكأس ما شرحت صدور
ولولا العلم ماعرف اللبيب.