عرف عن الشعر الإفريقي، أنه شعر لا يخلو من معاني التمرد في سبيل الحرية، فهو حجة طاعنة ضد العدمية، والعبودية، وأشبه بمعركة طاحنة تقوّض العبودية والاستغلال والاستبداد والظلم. لقد جمع بين الشيء ونقيضه، ولم يوحد بين المتنافرات، بل سعى إلى اختراقها، وذلك عبر الانفلات عن واقع الاستعمار الأوروبي، والتأسيس لملحمة الانعتاق والحرية في سبيل إرجاع الهوية الإفريقية والإنسانية المتعرضة، زمنا، للتهميش والنسيان.

نقرأ في هذا الشعر ظلام الأقبية، ورعب السجون، ونشاهد صور التعذيب والتنكيل، ولا نسمع في المفردات غير خبب الخيول وغضب السلاسل وصليلها في لحظة كسرها والتمرد عليها. لقد كانت الكلمة مضاهية للفعل، أي أنها لم تكن آتية من عدم ومحض بفعل كن فكانت، وإنما جاءت من مخاض العذاب، وتشويه الذات، وعدمية الواقع، وظلامية الحاضر، وانسداد أفق المستقبل، وهو ما مكن الشعر ليكون صوت الصحراء الإفريقية وواقعها بامتياز، وعلى غرار ذلك، لم يكن الشاعر مجرد لاعب وساحر ينسج الكلام فحسب، وإنما هو الآخر كان ضمير عصره المعذب، فحمل صورة المقاتل والمحارب والمناضل النقابي والسياسي والثوري. فكان أن صار الشعر بيان ردع ووسيلة لإدانة الموجود، في سبيل هندسة الأرواح وإعادة تربية الإنسان وتخليصه من كافة أشكال العبودية والاستغلال.في هذا الإطار، سنسلط الضوء على تجربة شاعر من دولة جنوب إفريقيا، وهو المناضل صاحب الكلمة الطاعنة في الكبرياء، "دينيس بروتوس" الذي ولد سنة 1924 وغادر الحياة في سنة 2009. وهو شاعر عرف بتمرده على سياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث كان يستعبد عشرة في المائة من نسبة عدد السكان تسعين في المائة منهم. كما كان مناضلا وشاهدا على الظلم ومخلفات الاستعمار الانجليزي الذي نكّل بشعبه وساهم إلى حد بعيد في استغلال ثرواته وتشويه ثقافته.

دينيس بروتوس مناضلا

ولد دينيس بروتوس عام 1924 في مدينة سالسبوري في روديسيا، وهي هراري، عاصمة زيمبابوي حاليا، وغادرها صحبة والديه إلى جنوب إفريقيا حيث مسقط رأسهما الأول.  شكلت أجواء الوضع السياسي والاقتصادي، هناك،  إيقاع تطوره، وتفاصيل تحوّلاته ونضالا ته  إلى يوم مماته. وانه لمن الواضح أنه من أفضل شعراء إفريقيا على الإطلاق، حيث لم يهتم بالكلمة وحدها، ولم يحارب بالشعر معزولا عن النضال السياسي، فقد كشفت حياته عن كونه  بدأ مناضلاً في صفوف المؤتمر الوطني، ضد النظام العنصري في بلاده، حيث وقف في صفّ الزنوج، والعبيد، والسود، مدينا كافة أشكال العنصرية، سواء كانت على سبيل العرق أو اللون، كاشفا بذلك تجلّياتها ومخلّفاتها ورجعيتها التي لم تؤسس لغير التنكيل بالحياة الإنسانية.كانت حياته حافلة بالسجون، نتيجة مواقفه النضالية، وهو لم يكن مجرّد مناضل عادي فحسب، بل كان من درجة الكبار، وعلى قيمة عالية، وانه لمن الطريف جدا أن يسجن أول مرة في نفس الزنزانة التي سجن فيها قبله الزعيم "المهاتما غاندي'"، في جنوب إفريقيا، حيث كان هذا الأخير مغتربا هناك. وحين حاول الهرب، كانت رصاصة قد اخترقت ظهره ولم ينج منها الا بأعجوبة، حيث تمت إعادته إلى السجن، في جزيرة روبن ، ليكون في الزنزانة المحاذية لزنزانة الزعيم التاريخي "نيلسون مانديلا".

بعد تجربة السجن، كان له أن يشهد عقوبة المنفى، فعاش رحّالا في عدة بلدان، واستقر لفترة في لندن، وعمل في مكتب المؤتمر الوطني الإفريقي، ومن ثم حصل على اللجوء السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك علم في العديد من الجامعات، إلى أن عاد إلى موطنه، بعد التغيير السياسي في جنوب إفريقيا، ووصول نيلسون مانديلا إلى سدة الرئاسة. ومن مواقفه الثورية، في جنوب إفريقيا أو خلال سنوات المنفى، أنه وقف ضد الشركات الاستعمارية الكبرى التي كانت تستغلّ العمال الأفارقة، وناضل ضدّها بضرواة، ورفع العديد من القضايا من أجل التعويض لضحايا الاستغلال. وإضافة إلى ذلك، تشهد مسيرته النضالية بكونه ظل مقاتلا في سبيل العدالة الاجتماعية، عبر مناهضة الاقتصاد العالمي والوقوف إلى جنب التظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية، وكافة أشكال التحرر ضد الاستعمار والعبودية.نستطيع أن نعقد مشابهة بينه وبين الشاعر الروسي "ماياكوفسكي"، فمثلما ذهب هذا الأخير إلى نقد الثورة، محاولا تخليصها من الأنظمة الجديدة التي وقعت فيها في الاتحاد السوفياتي، وقد بلغ به الأمر حد الانتحار، فإن هذا الشاعر الإفريقي، كان هو الآخر وعلى ما يبدو غير مرتاح للتغير الذي طرأ على الوضع في جنوب إفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الإفريقي. جزء منهم فاتهم بالتطرف اليساري واتهم أيضا بالليبرالية الجديدة. وقد قال في مقابلة مع مجلة "نيو ديموكراسي" الأميركية في عام 2005، أن أكثر ما أزعجه أن صديقه نيلسون مانديلا ذهب لمقابلة الرئيس بوش. وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنه على أنه أكثر الناس استمراراً في النضال التحرري لجنوب إفريقيا.

قصائد تفتح طريقها للشعوب

صدرت لهذا الشاعر، العديد من المجموعات الشعرية، والمقالات، وقد اشتركت جميعها في صوت واحد، وهو صوت إفريقيا، والإنسان، ولم تشهد إلا دعوته التخريبية التي طالت كافة أشكال طمس البعد الإنساني في العالم. فهو لم يكن يكتب إلا ليحوّل الكتابة إلى سلاح يهجو الظلم والقمع والاستغلال والاستعمار، ويمدح حركات التحرر، والجموح الثوري، وهدم السلطوية. ومن بين إصداراته نستطيع أن نذكر على سبيل المثال قائمة العناوين التالية، فقد كتب "صفارات إنذار"، ورسائل إلى مارتا"، ورسائل أخرى من سجن جنوب افريقية"، و"مفاصل أربعة"، وقصائد من الجزائر"، و"شهوة عادية"، و"أمل عنيد"، و"صمت صفارات الإنذار"، و"ذكرى سويتو"، و"أوراق تذروها الرياح".بعد موته، بقيت ذكرى دينيس بروتوس، خالدة في جنوب افريقيا، لا لشيء الا لأنه واحد من أولئك الذين قرروا خوض معارك دامية ضد الظلم، لهذا ظلت قصائده في كلّ الأمكنة التي مازالت تقاوم، وهو ما جعل من البعض يصفه على أنه شاعر عالمي، فشعره يدرس الآن في "روبن ايلند"، وفي العديد من المدارس والجامعات،

مقتطف من البيان الذي أدلى به أمام اللجنة المعنية بسياسة الفصل العنصري

إن الحالة في جنوب أفريقيا، هي الآن حالة يحاكم فيها الناس، ويسجنون بسبب معارضتهم للسيطرة العنصرية؛ وكان هذا النظام هو الذي أودعني السجن. وفي أيار/ مايو 1963، تم اعتقالي في مكاتب الاتحاد الأولمبي لجنوب أفريقيا، الذي كان محظورا آنذاك، ووجهت إلى تهمة حضور أحد التجمعات. وبسبب هذه التهمة، وما يتصل بها من اتهامات أخرى، حكم علي في النهاية بالسجن لمدة ثمانية عشر شهرا مع الأشغال الشاقة: وقد قضيت من هذه الفترة ستة عشر شهرا في سجن روبن آيلاند. وكان مجموع الفترات التي قضيتها في مختلف السجون اثنين وعشرين شهرا.