في واحدة من أقسى روايات السجن هي (تلك العتمة الباهرة) وكان مسرحها سجن تزما مارت يقول الطاهر بن جلون على لسان أحد أبطاله “إني أعرف مقدار ما يستطيعه البشر إذا قرروا أن يؤذوا بشرًا آخرين” وفي روايته (حين تترنح ذاكرة أمي) يقول “غريب أمر الناس هذه الأيام.

يتحولون إلى أطياف حين تحتاج إليهم” وهكذا يكون الروائي المغربي ابن جلون قد أقام عمارته الروائية في المسافة التي تفصل بين قسوة الألم وقوة الغياب، فكانت الهجرة مختبره الإنساني والمهاجرون المقتلعون من حيواتهم الحقيقية مفرداته التي حرص على أن يتأملها بعينه الخبيرة التي تدربت على الحب. في روايته (أن ترحل) يكتب “إن أعظم الأمور لا تُطلب أو تُنجز إلا بدافع الحب أو بفضله” وربما كان غياب الحب هو الذي دفعه إلى تأليف كتابه “العنصرية كما شرحتها لابنتي” في محاولة منه لكشط القشرة الزائفة ثقافيا التي تخفي تحتها المجتمعات الغربية أفكارها العنصرية عن الآخر المختلف.

 

المهاجرون مادته

في كل ما كتبه، لم ينس ابن جلون أن الشريحة الاجتماعية التي نذر نفسه من أجل رصد أحوالها وهي شريحة الشباب الأفريقي المهاجر إلى أوروبا تعنيه شخصيا، فهي تعيده إلى اللحظة التي وطئت قدماه فيها الأراضي الفرنسية عام 1971 يوم حضر إلى باريس من أجل الدراسة التي أفضت به إلى كتابة أطروحة الدكتوراه في علم النفس. كان هو الآخر شابا أفريقيا مهاجرا في مرايا العيون الفرنسية، بالرغم من أن ظرفه العائلي كان قد هيأ له حياة رغيدة، نجت به من أهوال الجوع والفقر التي يواجهها الجزء الأكبر من المهاجرين. كانت موهبته في الكتابة بالفرنسية قد ساعدته على أن ينشر مقالاته بانتظام في جريدة لوموند، وهو ما ضمن له دخلا ثابتا ساعده على تأليف روايته الأولى (حرودة) في العام 1973.

لم يتعرض ابن جلون في بداية حياته الباريسية للإحباط بسبب وضعه المالي المستقر، غير أنه استطاع من خلال كدح كتابي يومي أن يثبت للفرنسيين خلال سنتين فقط من إقامته الباريسية أنه يكتب بلغة فرنسية نقية الرواية التي حلم الكثير من الكتاب الفرنسيين في كتابتها عن بلاد كانت تقع ضمن جغرافيتهم السياسية من غير أن يتمكنوا من التسلل إلى روحها المشاغبة.

غونكور التي أفسدت محبته

حين نال ابن جلون جائزة غونكور عام 1987 عن روايته (ليلة القدر) اتهمه بعض الكتاب العرب، المغاربة منهم بالتحديد، بأنه يقدم عادات وطقوس ومعتقدات شعبه إلى الغرب على طبق استشراقي. كان رافعو ذلك الاتهام قد قفزوا للأسف على ما يمكن أن يستحقه كاتب من نوع ابن جلون من تقدير. فالمهاجر الذي تسلل إلى اللغة الفرنسية بثقة كان قد كتب قبل ليلة القدر عددا من الروايات التي أهلته ليكون كاتبا عالميا، فكانت (غونكور) مجرد اعتراف فرنسي بتلك المكانة. وهي مكانة تؤكدها ترجمة رواياته إلى معظم اللغات المرموقة في عالمنا.

لقد نجح ابن جلون في أن يكون ظاهرة مختلفة على مستوى الكتابة بالفرنسية التي وقع الكثير من كتاب بلدان المغرب العربي في أسرها مضطرين. لم تكن الفرنسية منفاه، كما كانت بالنسبة إلى الكاتب الجزائري كاتب ياسين. لقد حسم ابن جلون أمره. كان كاتبا فرنسيا من أصول عربية وهو ما هيأ له أرضية ثابتة لاستقرار نفسي سيعينه على تجاوز عثرات كثيرة، كان تشوش الهوية واختلالها مصدرها وحائط مبكاها. في حقيقة ما انتهى إليه كان ابن جلون كاتبا إنسانيا، لم تمنعه فرنسيته من أن يتخذ مواقف في الدفاع عن قضايا مصيرية كالقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي يمكن أن يجره إلى سجال، سيكون الطرف الآخر فيه عنصريا بكل تأكيد. كانت هوية ابن جلون واضحة دائما: الكاتب الإنساني الذي حرص على أن يكون مخلصا لضميره.

 

الكاتب الفرنسي

وإذا ما كان ابن جلون قد وجد في حياته المغربية مسرحا لخياله، فلأنه كان حريصا على أن يكتب عما يعرفه، ليقدم ببيان فرنسي للفرنسيين ما لا يعرفونه. غير أن رواياته وقد ترجمت كلها إلى العربية كانت قد شكلت صدمة للقراء العرب حين اكتشفوا أنهم لا يعرفون شيئا عن بلد عربي أحبوه كثيرا، من غير أن يتمكنوا من النفاذ إلى أسراره. كانت رواياته المتلاحقة أشبه بالأمطار التي تنظف مجال الرؤية. فالروائي والشاعر والمسرحي والصحفي وكاتب السيناريو وأخيرا الرسام كان استثنائيا في قلقه وعميقا في أسئلته. كان شعوره العميق بإنسانيته يحثه على التصدي لقسوة الألم بكل ما تنطوي عليه من تحريض على العزلة. وهو ما شكل خيطا سحريا لأعماله الروائية (البلد، نزل المساكين، يوم صامت في طنجة، ليلة القدر، أقصى درجات العزلة، حين تترنح ذاكرة أمي، هلوسات على جدران الوحدة، أن ترحل، طفل الرمل، ليلة الغلطة، صلاة الغائب، الكاتب العمومي، حرودة وهي روايته الأولى).

ابن جلون المولود في مدينة فاس عام 1944 يرى في طنجة التي انتقل إليها مع عائلته عام 1955 مدينة إلهامه. هناك التحق بمدرسة فرنسية ليصبح بعدها مدرسا للفلسفة في تطوان، وهنا انتهت حقبته الوطنية. لو أنه خضع لمصيره معلما لما وهبنا القدر كاتبا بحجمه، ولخسرت الإنسانية واحدا من أعظم المدافعين عن قضاياها.

لقد فعل ابن جلون حسنا حين عبر هويته الوطنية فقرر أن ينتمي إلى اللغة التي لن ينطوي انتماؤه إليها نوعا من الخيانة. فالرجل ظل مغربيا على مستوى مزاجه الإنساني ولم ينظر إلى مغربيته بعين فرنسية. وكما أرى فقد كانت حاضنته الثقافية تتسع للكثير من المعاني الإنسانية. وهو ما يجعله يصرح باطمئنان أنه كاتب فرنسي.

بالنسبة إلى كاتب فرنسي فإن كل ما يقوله ابن جلون سيكون محل سوء فهم. هذا كاتب يحلل مجتمعه، يصغي لتأوهاته، يمشي وراء وجعه، يقبض على لعثمة مهاجريه في لحظة عجز أسطورية. هو كاتب مختلف. هناك ضرورة لكاتب من نوع ابن جلون في الثقافة الفرنسية التي لا تزال غير قادرة على فهم أسباب فشل اندماج المهاجرين بمجتمعهم الجديد. لا يقدم ابن جلون من خلال رواياته حلا، بقدر ما يضع رؤيته في متناول الجميع. في روايته (نزل المساكين) يضعنا في قلب المعادلة التي يصنعها الغرباء ليكونوا نوعا من كائنات كافكوية، قُدّر لها أن ترى في عزلتها فضاء لفكرتها عن العيش.

اختار أن يبكينا بدلا من أن يضحكنا

كانت العزلة بكل ما تنطوي عليه من صمت قدر أبطاله القادمين من قارات محملة بالكلام. سيكون لديه دائما ما يقوله عما لم يقل من قبل. هدفه في ذلك أن يكتب ما لا يُكتب. لا يتورع ابن جلون عن اختراق عالم مسكوت عنه. وهو ما جعله لا يكف عن إثارة الفضائح في كل كتاب جديد من كتبه. وهو ما دفع بالبعض إلى اعتبار كتابته نوعا من نشر غسيلنا الوسخ أمام أعين الغرباء. وهو ما فعله ابن جلون حقا، لكن ليس من أجل شراء رضا أولئك الغرباء، كما يزعم ذلك البعض بل من أجل الارتقاء بوعينا إلى مستوى التغيير.يخصص ابن جلون كتابه الأخير الاستئصال لمرضى السرطان، يقول “لقد حكيت بلا ماكياج، بلا غش أدبي، علما أن الرجال يتحدثون عن مرضهم هذا بصعوبة”. سيكون الألم الشخصي مدعاة لألم عام، مادته شعوب حرمت من النظر إلى مستقبلها بعيون مطمئنة ومستقرة. لقد اختار ابن جلون وهو الذي نشر أكثر من ثلاثين كتابا بالفرنسية أن يبكينا بدلا من أن يضحكنا ويضحك علينا.

*نقلا عن العرب اللندنية