قد لا يصدق الكثير أن هناك عشوائيات مترفة ينفق عليها أصحابها ملايين الدينارات وقد تكون دولارات، ومن لم يصدق أقرب مثال لدينا في بنغازي هو شارع فينسيا، الذي أصبح بين ليلة وضحاها من أرقى وأفخم شوارع بنغازي.

ولمعرفة المزيد عن العشوائيات الفخمة والفقيرة، وكيفية حل مشكلة هذه العشوائيات بدون خسارة أصحابها قدر الإمكان، التقينا بالمهندس جلال مصطفى افتيتة مهندس تخطيط مدن منذ عام 1992م، متخصص في مجال التخطيط العمراني عمل بقطاع الإسكان والمرافق والبيئة وكلف بمتابعة وإدارة والإشراف على مشروعات الإسكان والبنية التحتية، وهو حالياً عاد لعمله الأصلي بجهاز تنفيذ مشرروعات الإسكان والمرافق بعد ترأسه في الآونة الأخيرة المدير العام لإدارة التخطيط والمتابعة لالهيئة العامة للإسكان والمرافق، ثم ترأس فرع مصلحة التخطيط العمراني بنغازي، ليحدثنا في دردشة امتدت لساعة من الزمن حول بنغازي قائلا:-


الكل يعلم ما تعانيه مدينة بنغازي في السنوات العشر الأخيرة من تدهور عمراني وبناء عشوائي، بنغازي مدينة ذات طبيعة خاصة جغرافيا ومكانية واجتماعية، تضم النسيج الإجتماعي لفسيفساء جميع مكونات المجتمع الليبي، هي إئتلاف وطني من جميع قبائل ليبيا، سواء تحدثنا عن حاضرة مدينة بنغازي أو على بنغازي الكبرى (إقليم بنغازي الفرعي) والذي يضم مجموعة من المدن والقرى والتجمعات السكنية المهمة على سبيل المثال قمينس – الأبيار – سلوق – دريانة – توكره، بنينا ...الخ والتي تعرف بمدن الطوق أو الحزام لمدينة بنغازي، وتعرف لدى مصلحة التخطيط العمراني بالمدن (الساتالايت) لإنتشارها كالإشعاع وبنفس الرسم الدائري أو الهلالي للمخطط العام للمدينة.

وبحكم مزايا مدينة بنغازي التجارية والخدمية وفرص العمل عبر تاريخها، فإنه مؤخرا زادت بها نسبة الزيادة على الطلب للحصول على أراض ومواقع سكنية وخدمية وتجارية وزاد التوجه نحو الإعتداء على الأراضي الزراعية والمواقع المصنفة متنفسات للمدينة والبالغ مساحاتها مئات الهكتارات داخل وخارج مخطط المدينة المعتمد لعدم وجود مخططات جاهزة لإستيعاب الطلب، فالطلب كبير والعرض قليل.

إنها الفراغات والمناطق والتي كانت مستقبلاً ستكون رصيداً من الأراضي يستوعب التوسعات المستقبلية وفق دراسات ومخططات ووفق احتياجات واتجاهات نمو المدينة وليس عشوائياً.

وهذا النمو والانتشار والتوسع سمة طبيعية للمدن في كل أنحاء العالم لأن المدينة كائن حي ينمو ويتوسع في كل الاتجاهات ولذلك هي بحاجة مستمرة الى مخططات وبنية تحتية متكاملة، وطرق وجسور وكهرباء وإنارة ويكون هذا التوسع مدروس وتحت السيطرة، وهنا يكون جزء كبير من مسؤولية هذا الإنتشار العشوائي من وراءه الدولة بتأخر إصدار مخططات عمرانية جديدة تستوعب الزيادة السكانية وتلبي الطلب وتقلل من العجز التراكمي الذي يواجه عنصر السكن ختى يومنا هذا، والذي بلغ حوالي 100 ألف طلب، والذي يمكن حله بإستكمال المشروعات الإسكانية القائمة قبل 2011م والبالغ عددها حوالي 35 ألف وحدة سكنية، علاوة على ضرورة إطلاق مخططات إسكانية وسكانية جديدة تتضمن كافة المناشط التجارية والخدمية والإستثمارية.

 وأود أن أورد ملاحظة مهمة هنا ألا وهي: 

إن المدينة مازالت تعيش بالبنية التحتية وشبكات الطرق والجسور التي تم تأسيسها في ثمانينات القرن الماضي، فقد حظيت بمخططات بنية تحتية كاملة من أكبر وأشهر دور الخبرة والاستشارات في العالم حيث تم التعاقد معها منذ فترة الستينيات والسبعينيات لتغطي الفترة حتى 2014م، والتي تم تنفيذ ما نسبته حوالي 40% فقط حتى العام 2003 – 2004م، ولكن منذ عام 2011م، لا زلنا نعيش على البنية التحتية السابقة مع بعض الصيانة والمعالجة هنا وهناك، ولم يتم استحداث شيء جديد نظرا للوضع الذي تمر به البلاد وحالة الفوضى التي دخلت بها. 

هذا الموضوع تحديداً ليس خاص ببنغازي فقط فهي مدينة من ضمن سلسلة من المدن والقرى والتجمعات يبلغ عددها حوالي 220 مدينة على المستوى الوطني، وكلها تعاني ذات المشاكل، ولكن كنا نتمنى أن يكون هناك عمل خاص لبنغازي في الفترة السابقة التي خاضت حربا ضد الإرهاب لمدة ثلاث سنوات متتالية تم تدمير جزء كبير منها ومن مبانيها ومن بنيتها التحتية، وتوجه لها آلاف النازحين من عدد من المدن. 

لأن الدولة بالكامل استقرارها محدود في الفترة السابقة، والصرف وتمويل هذه المشروعات يحتاج خطة وبرامج ومتابعة واشراف ويحتاج ميزانيات لا يمكن توفيرها في الوضع الراهن إلا بوجود دولة ومؤسسات تشريعية وتنفيذية ورقابية مكتملة الأركانـ وكذلك لدينا مشروعات كبيرة وعملاقة متعاقد عليها قبل 2011 وعندنا عقود معروفة وموقعة مع شركات عملاقة التي كانت تعمل هنا كالشركات التركية والصينية والبرازيلية و الهندية والألمانية والكرواتية وعدد من الشركات العربية كالشركات المصرية والتونسية، انها عقود قائمة و(معطلة) في نفس الوقت نظراً لأن التعامل معها من جديد يحتاج لحزمة من الإجراءات الفنية والقانونية وتدخل لمكاتب التحكيم المحلية والدولية، في حال سيتم إلغاء بعض من هذه المشاريع. 

إن عدم استكمال هذه المشروعات والاستفادة منها تسببت في تعثر تقدم أي شيء عمراني أو تنفيذي ما لم تحل مشاكل هذه المشاريع، وكذلك بالنسبة للمخططات فإنها تحتاج لتعديل وتحديث وتطوير منظومة التشريعات السابقة قبل 2011 من 1977 كانت معرقلة وغير محابية للتنمية العمرانية، وخاصة بعض التشريعات الخاصة بالملكية العقارية ودخول الأراضي للتخطيط العمراني ونزع ملكيتها للمنفعة العامة، هذا بحسب قانون التخطيط العمراني وبحسب قانون الأملاك.

هناك سؤال لدى المواطنون لماذا لا توجد مخططات جديدة؟

بصراحة وبعلم الجميع، لان التشريعات العقارية السابقة وعلى رأسها (الأرض ليست ملكاً لأحد) هي تشريعات غير مشجعة للعائلات التي تمتلك مساحات كبيرة من الهكتارات داخل وبجوار مخطط المدينة، فمثلا عندما تأتي أسرة للتخطيط العمراني ولديها 100 هكتارا وتريد تقسيمها، فيقوم التخطيط العمراني والأملاك والسجل العقاري بإحضار كتيبة العائلة لمعرفة المالكين أو ورثتهم  فيتم اعطائهم مثلا 10 أو 20 أو حتى 40 قطعة من المخطط وينزع الباقي للملكية والمنفعة العامة، ثم يخضع الأمر للتعويض العقاري والذي كان غالباً تعويض غير مجزي وغير عادل حسب وجهة نظر الملاك الأصليين. 

ولذلك إذا أردنا مخططات عمرانية جديدة وبمشاركة أهلية ومجتمعية صحيحة، فإنه من الواجب إلغاء أو تعديل أو تغيير التشريعات والقوانين السابقة، فإنه لابد أن ننتظر صدور دستور موحد للبلاد ويحدد نظام حكمها، وهذا أحد عثرات التوسعات العمرانية الجديدة الرئيسية والأساسية (التشريعات والقوانين السابقة).

ولكن بالمقابل يوجد توسعات، ومخططات جديدة؟

نعم توجد توسعات  ولكن هي توسعات ومخططات تجارية وإستثمارية عقارية ضيقة ومحدودوة المنفعة، بل وهي عشوائية، وكل ما نراه على الأرض بملايين الدينارات، و لا نقول مليارات الدينارات، هذا كله للأسف تعديات على مناطق خضراء، ومناطق مصنفة ترفيهية أو سياحية أو منتزهات أو مناطق توسع مستقبلية.

إن العشوائيات منتشرة بشكل كبير، ويوجد لدينا عشوائيات بمختلف أنواعها، فيوجد لدينا العشوائيات الفقيرة، والمتوسطة، والغنية، ولك أن تتخيلي على سبيل المثال، شارع مثل فينسيا من العشوائيات، واعتقد أن الدائري الرابع يوجد به أكثر من مليار دينار استثمارات عقارية ما بين المباني القائمة وقيمة الأراضي، وجميعها غير معتمدة تخطيطياً.

وفي نفس الوقت أنا دائما متفائل كل العشوائيات تعالج ويتم تهذيبها في عمل في تخطيط المدن هناك علم اسمه تهذيب وتطوير المناطق المتدهورة والمتخلفة عمرانيا. 


قد يتساءل الناس كيف يتم تهذيب العشوائيات الغنية التي صرف أصحابها الملايين لإنشائها؟

موضوع التهذيب العمراني ليس شيء مرعب بل بالعكس هو شيء جيد والناس التي صرفت الملايين لن يخسروا شيئ لو جعلوا الدولة تتدخل وتشرع العمل في تطبيق معايير التخطيط العمراني على ما قاموا به من إنشاءات ومباني، ولو بالحد الأدنى بشرط مساعدة الدولة بالتوقف عن البناء والإنتشار، لحين صدور مخططات معاجة ومهذبة بشكل مقبول.

وهناك طريقة ثانية من المعالجة هي فتح مخططات جديدة، مثلا لو شخص لديه 100 هكتار وخطط وقسم 50 هكتار بطريقة غير قانونية، يتم تخطيط ال 50 هكتارا الاخرى بطريقة فنية وقانونية صحيحة، وتستوعب معها غير ما تم تنفيذه بطريقة غير قانونية.

فلا شيء في التخطيط الحضري والتخطيط المكاني لا يمكن تهذيبه أو معالجته خاصة العشوائيات، وبالدليل عندما تم تحديد حدود الدائري الرابع عند قاعة فينسيا للمناسبات تم إزالة نصف عمارة حتى يتم تخطيط الطريق بشكل صحيح ففي عام 1998 وعام 2000 جاءوا إلينا وأخبرناهم ألا يحق لهم أن يدخلوا لـمسافة القانونية والتي تتراوح من 25 إلى 35م مترا من الطريق القائمة، والذي احترم هذه المسافة (حرم الطريق) المحددة منذ عام 1997 اليوم لن يتم المساس به، لكن من لم يحترم ذلك تم تهديم ما قام ببنائه، وعلى فكرة حتى الاسوار في تلك الفترة قامت بتنفيذها الدولة متمثلة في مكتب المشروعات بأمانة اللجنة الشعبية للإسكان والمرافق (سابقاً)، الخلاصة إن الدولةتتحمل مسؤولية البناء العشوائي بنسبة لا تقل عن 90%، فكان من الواجب أن يسبق التخطيط الطلب، وتكون المخططات جاهزة أمام التوسع.

نحن لدينا أغرب عشوائيات في العالم فهناك مولات ومراكز تجارية وفنادق تفوق قيمتها العقارية بأسعار خيالية تفوق 150 مليون بما فيها قيمة الأرض، ولكن تعتبر عشوائيات.

العشوائي معروف في العالم هو أي شيء تالف ومعرض للانهيار إلا في ليبيا بإستثناء بعض الإنشاءات السكنية والورش والمخازن الرخيصة والضعيفة، ومن المؤسف إن كل هذه الإنشاءات والمشروعات والمباني لا تستفيد منها الخزانة العامة بشيء، ولا تحقق أي إيرادات حتى على المستوى المحلي أو البلدي.

وعن الحلول لهذه العشوائيات يقول: -

كل الأخطاء التي حدثت في المخططات يمكن تفاديها، لو قلنا إن ما يحيط بمدينة بنغازي من 35 إلى 45 ألف منزل ومبنى عشوائي ومخالف، وهي من مستوى قصر وفيلا فارهة إلى منزل ربط حتى العشش والأكواخ الخشبية والصفيح، ولكن يقطنها سكان، وهذه جميعها تريد مياه وكهرباء وتصريف صحيح للآبار سوداء التي تضخ الآن في المجاري والأراضي الزراعية وتختلط بمياه الشرب.

كل سنة تأخير لإيجاد حل لهذا التدهور العمراني واجتياح المناطق الزراعية والزحف عليها هي بمثابة كارثة وطنية، ومحلية على رصيد المدن، بنغازي دائما لديها رصيد توسعات، ولديها حزام أخضر وعندها محددات واتجاهات نمو، وأنا أرى إن ما نسبته 85% يمكن معالجة هذه الأمور، بالعقل والتريث والهندسة والتفكير الجماعي، والمشاركة المجتمعية، والإستعانة ببيوت الخبرة والشركات الهندسية الوطنية وجامعة بنغازي لديها مكتب استشاري كبير لابد أن يتم وضع خطط منطقية وواقعية للحد من هذا التمدد العشوائي.

ماذا عن الاستثمار عن طريق العقارات؟

الإستثمارات العقارية من أنجح وأفضل وأكثر المشاريع نجاحاً في مجال الإستثمارات على المستوى العالمي والدولي، بعد تقنية المعلومات والإتصالات والطاقة، فقد أجد عذر لما هو حادث بمدينتنا الحبيبة بنغازي، ولكن أتمنى أن تعم فائدة هذه الاستثمارات على الجميع وعلى المظهر العام للمدينة وعلى الاقتصاد الوطني والمحلي.

حوارنا قارب على الانتهاء بماذا تحب أن تختمه؟

أقول لابد من معالجة العشوائيات والمناطق المتضررة والمتدهورة عمرانيا، فنحن اليوم في الشهر الثاني من العام 2021م، فأعتقد إنها ستكون أسوأ في 2022 إن لم نشرع في الدراسات وإيجاد الحلول المرضية بأثل الخسائرلأن المشكلة أكيد ستتفاقم، فقد تم الزحف على المساحات الخضراء، والمشاريع الزراعية مثل مشروع الصفصفة بعدما كان مشروع زراعي تم تحويله إلى بيوت وعمارات ومناشط صناعية وتجارية.

التهذيب والتطوير لا تعني الإزالة والهدم، بل هي تطبيق معايير تخطيطية وخدمية إنسانية بالدرجة الأولى، ينعم بها الجميع، فيجد خدمات قريبة وشوارع واسعة وأرصفة ومناطق خضراء ومتنفسات وأماكن للرياضة والترفيه والاستجمام، مخططات مدروسة تحترم فيه الخصوصية واحترام الجوار، وضبط الإرتفاعات.

سنجد بعد تطبيق التهذيب مدارس ومساجد ومصحات ومسارح ومقاهي وفنادق ومراكز تجارية كلها بمعايير التخطيط العمراني وقانونية وذات كفاءة تخديمية عالية لمصلحة الجميع وعلى رأسهم المستثمر.