الذي يعيش في جنوب تونس أو في غرب مصر يعرف أن الأغنية الليبية نجحت في أن تخترق الفضاءين المذكورين منذ سنوات طويلة. على امتداد عقود بقي النغم الليبي جزءا من اليومي في المنازل والمهرجانات والأعراس والمقاهي. الارتباط بين ليبيا وتونس أو بين ليبيا ومصر، لم يخضع في أغلب الأوقات للجغرافيا أو لما حددته ظروف الأمر الواقع. الحدود الفاصلة بين ليبيا وهذين البلدين، لا قيمة لها أمام المشتركات الكثيرة، وعلى ذلك الأساس كان الجانب الثقافي وتحديدا في مستوى الأغاني مؤثرا في تلاحم هذه الشعوب وتمازجها، وكانت الأغنية الشعبية الليبية صورة لبلد نجح إلى حد كبير في التسويق لثقافته لدى جيرانه.

في وسط التسعينات من القرن الماضي، اكتشفت الأغاني الشعبيّة الليبيّة. كنت طفلا لا أزال أبحث عن سماع الكلمة أو اللحن الجميلين في تلك الأغاني. أسعفتني الظروف أن ولدت وعشت في منطقة جنوب تونس، أقرب جغرافيا وربّما حتى وجدانيا إلى ليبيا. كل مظاهر الحياة اليوميّة عندنا مرتبطة بليبيا، في ملبسنا وملبس أجدادنا ومأكلنا، في ثقافتنا وموروثنا، في طبائعنا ربما وفي ما نحب ونكره. حتى في كلامنا كان أشقاؤنا في الوطن عندما يسمعوننا يعتقدون أننا ليبيون، وعلى ذلك الأساس كان هناك رابط نفسي يأخذنا شرقا، وكانت الأغنية الشعبية جزءا من هذا الارتباط.

في تلك الفترة فتحنا أذاننا على أغاني الفنان الشعبي الليبي فوزي المزداوي. الفنان الذي عرفناه واشتهر عندنا أكثر من كل فنّاني بلادنا. كانت حفلاته التي يقيمها في ملاعب كرة القدم مهرجانا بأتم معنى الكلمة. نتذكر أننا نقطع مسافة طويلة للاستماع إليه إلى آخر الليل ونحس أننا نستمع إلى ذواتنا. كانت أغانيه تعبيرة عمّا نريد باللهجة التي نريد وباللحن الذي نريد.

نفس الأمر يستقيم على الفنان الراحل عوض المالكي. لا نتذكر سيارات أبائنا يغيب عنها شريط للمالكي، وكنا نسترق فرصا لنسمع تلك الأغاني ونحن مستمتعين بما تحمله من كلمات تساير مراهقتنا وتعيش فينا ومعنا. لم نكن ليبيين انتماء نعم، ولكن تلك الأغاني جعلتنا جزءا من ليبيا عاطفة وهوى، وإلى اليوم مازالت تأخذنا الذاكرة إلى تلك الأغاني رغم تغير الظروف وبعدنا على الجغرافيا التي كانت قريبة إلى قلوبنا مثل قربها إلى قرانا.

لم نكن الجيل الأول ولن نكون الجيل الأخير. قبل سنوات طويلة سبقنا محبّون للأغنية الشعبية في ليبيا، وتغنوا بها في أفراحهم، ونحن سايرنا تلك الأغاني والجيل الذي نرى بعدنا نسمعه يغنيها، بل تكونت عندنا فرق موسيقية تغنّي تلك الأغاني، ولا أحد فينا يشعر بأنه يقوم بشيء غريب. تجد سكان الجنوب ينتظرون ما يصدر من أغاني في ليبيا.

في الأجيال السابقة كانت أسماء لامعة في الأغنية الليبية، نالت شهرتها في تونس مثل، الفنان الليبي الكبير عادل عبد المجيد بأغنيته الشهيرة "هز الشوق" التي غناها بعده ليبيون وتونسيون كثر لما في كلماتها ولحنها من تأثير. كذلك عرفت تلك الأجيال الفنانة تونس مفتاح بأغان بلغ صداها تونس كما مصر. 

حتى في الجيل الحالي أمر طبيعي أن تجد تونسيا من الجنوب يسمع أغان للفنان الليبي وليد التلاوي أو للفنان عصام الطويل، أو للفنّانة أسماء سليم. الجنوب التونسي بالمفهوم الجماهيري والتجاري هو سوق للأغنية الشعبيّة الليبية. وأي صدى لتلك الأغاني في ليبيا يقابله صدى أيضا في الجنوب التونسي وخاصّة الشرقي منه.

ارتباط الأغنية الشعبيّة الليبية بالجنوب التونسي التمسناه من خلال ما كان ينتظم من مهرجانات في بلداتنا، أو ما نسمعهم في أعراسنا واحتفالاتنا. قد يمر مواطن عربي بأحد الأعراس في الجنوب التونسي، فيعتقد أنه في إحدى المناطق الليبية. التقارب الثقافي جعل الأغاني الليبية جزءا من اليومي عندنا وجعل التمييز صعبا لدى كل غريب يزور المنطقة.

هذا الأمر بالتأكيد يسري على الطرف الشرقي من ليبيا في ارتباطه بغرب مصر، وكيف أثرت الأغنية الليبية هناك، ما جعلها سفيرا ثقافيا وعرّف بليبيا وأغانيها وثقافتها. ففي مقال للكاتب المصري مصطفى عبيد، ورد حديث عن الارتباط الليبي المصري في قرية الأصفر، قائلا "تبدو قرية الأصفر بأقصى محافظة الفيوم على بعد مئة كيلو متر (جنوب غرب القاهرة) من ملامحها الأولى بلدة صغيرة خرجت من قطرها المصري إلى وجدانها الليبي حاملة أنماطا أخرى".

في المقال حديث عن قبيلتي "أولاد علي" الممتدة على الأرض المصرية، وعلى قبيلة الجوازي، المنتشرة أيضا منذ عقود هناك. القبيلتان كانتا تحملان مخزونا ثقافيا ضاربا في مصر على عدّة مستويات، يبدو واضحا لكل من يزور المناطق التي تتواجدان فيها.

في مرسى مطروح أقصى غرب مصر على حدود ليبيا قد تكون الصورة أوضح. يكفي للمشاهد العربي أن يستذكر الفيلم المصري "أبو علي" ليكتشف ارتباط الموروث الغنائي الليبي بمصر. ففي جزء من أحداث الفيلم يظهر حفل زواج قرب الحدود مع ليبيا فيه صورة مكتملة من حيث اللباس والغناء اللذين لا يختلفان، ويعبران عن وحدة ثقافية بين البلدين تجاوزت العقبة الجغرافيّة.

على الجانب المصري مع الحدود الليبية، هناك نمط الأغنية الذي يسمى المجرودة. بمجرد سماع الأغاني سنعرف التأثير الكبير للطابع الليبي فيه. المجرودة في حد ذاتها عرف بها فنّانون ليبيون، لكنها منتشرة أيضا على كامل المناطق الغربيّة المصرية، ويغنيها فنانون شعبيون شباب مثل خالد بوعلام، وأحمد الترباني ورواق بوناجي المحفوظي الذين يظهرون بلباسهم التقليدي الذي يلبسه الليبيون.

ما يميّز الأغنية الليبيّة أنها فريدة الكلمات، الأمر الذي جعلها لمن يفهمها ذات قيمة كبيرة. فنانون عرب كثيرون غنّوها، سواء في طابعها التقليدي المعروف، سواء في طابعها الشعبي الأقرب إلى النّاس. ومثالا تونس ومصر كافيان لمعرفة قيمة تلك الأغنية في الحياة اليوميّة، حيث صنعت انصهارا بين سكان المناطق الحدودية مع البلدين وليبيا، وجعل منها قيمة وحدوية مع جيرانها، لم تستطع منغصات السياسة أن تمنعها لأنها ليست خاضعة إلا لمواقف الناس وما يطيب في خواطرهم.