دقت محكمة في باريس المسمار الأخير في نعش الساركوزية، وأدانت الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، منها سنتان بتهم الفساد واستغلال النفوذ، فيما عُرف بقضية "التنصت"، وسيمثل ساركوزي مجدداً في 17 آذار/ مارس الجاري، أمام المحاكم في أخطر قضية والتي تعرف باسم "بيغماليون"، حول التمويل الليبي لحملته الانتخابية، حيث تنتظره أربعة اتهامات خطيرة هي "الانتماء إلى عصابة من الأشرار" و"الفساد" و"التكتم على اختلاس الأموال العامة" و"التمويل غير المشروع للحملة الانتخابية".

اليوم وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على إسقاط نظام العقيد القذافي،  يكتب الإعلام الفرنسي ما لم تعلنه حكوماتهم عن دورها الخطير والقذر في ليبيا، مؤكدين العمل السري الذي قام به مسؤولوهم الدبلوماسيون والعسكريون، وعن دورهم في الاتصال مع المقاتلات الفرنسية القاذفة التي أرشدوها بالليزر، حيث ألقى سلاح الجو الفرنسي أكثر من أربعين طناً من الأسلحة في جبال نفّوسة فقط، وعن قيام القطريين بنقل الأسلحة سرّاً قبل أن تُلقى ليلاً بمظلات دقيقة وبتقنية عالية على أنها مساعدات إنسانية، ولن يطول الوقت الذي سيكتب فيه الفرنسيون أسراراً وخبايا وفضائح عن دور حكومتهم الخبيث والقذر في الأزمة الليبية. 

والحقيقة الثابتة، أنّ ساركوزي كان أول من سدد ضربته الأولى على الليبيين في صحرائهم الحارقة، انتصارا "لثورتهم" على حد زعمه، وانسجاما مع الرؤية الاستراتيجية لبرنار هنري ليفي المنظر الصهيوني العتيد، الذي يخطب "الثوار" العرب وده، باعتباره شفيعهم عند حلف الناتو صاحب اليد الطولى في تقرير مصائر الشعوب العربية في هذا الزمن الرديء!‏ 

لقد أظهر ساركوزي من العدائية والكراهية ما يكفي لإزالة مساحيق التجميل عن وجهه القبيح، بعدما توّرط حتى النخاع في خراب ليبيا وإراقة دماء أبنائها، لقد عمل واجتهد خارج حدود الإنسانية والأخلاق، وكان وحشاً ضارياً ومفترساً، في غياب العقل والحكمة، ولم يدرك أن الحماقات وحدها من أتت به ليعتلي العرش الفرنسي، ووحده الغباء و جنون العظمة من حوّله إلى رئيس بلا شعب، لن يسامحه الليبيون يوما عمّا فعله في الماضي وبالتأكيد عمّا يفعله ماكرون الآن... ويؤكد الليبيون أنهم لم يختالون يوما في أعدائهم ويعرفونهم تماما ويعرفون كيف يحطمون أحلامهم وحتى رؤوسهم. 

ما حصل قد حصل، ومحاكمة ساركوزي لا تعيد الحياة لمن قتل من الليبيين، ولا يُعمّر بلداً خرّبته ودمّرته، ولا تزال حرباً ظالمة، تستعر اليوم بأشكال ونماذج مختلفة، بقدر ما يشير إلى ما يحمله من إسقاطات في السياسة، تحتاج إلى وقفة متأنية.‏ والتوقف هنا ليس لطرح سؤال قد تطول الإجابة عنه أو تصعب إلى حدّ الاستحالة، لكنها الضرورة التي تقتضي التساؤل قياساً... هو كم تحتاج ليبيا، ومن كم مسؤول على شاكلة ساركوزي، قد يقلّون عنه في الحجم والثقل حيناً، ويزيدون طولاً وعرضاً في بعض الأحيان، وكم سنة تحتاج ليبيا كي يقف أولئك جماعة أو فرادى أمام المحاكم الدولية، لإطلاق ما يعتقدون أنها ساعة الحقيقة للإقرار بما اقترفت أياديهم، وما تسببت به سياساتهم ومواقفهم ولا تزال؟‏

وبغضّ النظر عن الإجابة، وما تقود إليه، فإن طرح السؤال يبدو كافياً للاقتباس والاستدلال على ما جرى ويجري، وما قد يجري لاحقاً في ظل هوَس بارتكاب الأخطاء إلى حدّ المشاركة في جرائم غير مسبوقة... في محاكاة المأساة الليبية وبيادقها المتحركة حسب الطلب تطول القائمة، وتكثر فيها الانكسارات الناتجة عن خطأ الاعتقاد وكارثية الاتجاه بفصوله وتخوم ما يتورّم فيه، أو على سطح تردداته الحالية، وهي قائمة لا تبدأ عند أركان الإدارة الأمريكية والبريطانية والفرنسية ومعها الرؤوس الأخوانية الحامية في الداخل الليبي والخارج، كما لا تنتهي بالتأكيد لدى أردوغان، مروراً بمن بقي منهم أو رحل، والعدّ فيها يحتاج إلى المزيد وفي جعبته المزيد.‏

الخطير ليس في اعترافات لا تعيد ما ذهب، بل في تجليات ما يحضر منها من مقارنة تدفع بالأصيل الغربي،   لتخيّل أن العالم كان أفضل، لو أن القذافي لا يزال على قيد الحياة، وهو حال يتساوى فيه الندم حين لا ينفع الندم، والاعتراف المتأخر حين لا جدوى من الاعتراف أو الإقرار، بينما حفنة من مرتزقة السياسة وأجراء الموقف وموظفي المهمة في زوايا المشروع الاستعماري التركي والغربي، الذين يصرّون على الخطأ والتغوّل داخله إلى حدّ التورّم والتمسك بأحلام مريضة، سقطت بتقادمها السياسي والمكاني والزماني.‏ والمشكلة أو المعضلة في سياق فهم لدور يعتقدون، أو يعوّلون، أو يتوّهمون، أن مزابل التاريخ يمكن في لحظة غافلة أن تحتويهم، رغم يقينهم أنها لا تتسع لهم، حيث على جوانبها يقفون، أو سيقفون في هوامش منسيّة، وقد ذهب بعضهم أو يكاد، ويتحضّر الكثيرون ممن تبقّى للرحيل السياسي أو العمري بحكم الزمن.‏

في ليبيا، اللائحة تطول إلى حدّ تتعب معها مساحات الجغرافيا على استيعابها، وهي تضم بين صفحاتها عشرات، وربما مئات ممن أخطأ بحق ليبيا وشعبها، ومن ارتكب الجرائم إلى حدّ الإثم بحق ليبيا، وحبل ارتكابهم وخطيئتهم على الجرّار، ومن دون توقف، فلا اعترافهم منتظر، ولا جرأتهم المفقودة والمهدورة كماء وجههم يمكن التعويل عليها، لكنها تصلُح لتكون وقفة تأمّل إضافية، لنعيد السؤال: 

ماذا نفعل بتدمير وطن كان مثالا للأمان يدعى ليبيا، أنا هنا باسم ملايين الليبيين والعرب والمهضومة حقوقهم أقول بأني لن أغفر ولن أنسى، من دمروا ليبيا، ولا أعتقد أن رئيسا فرنسيا سابقاً، هو ساركوزي، أن يبقى خارج المحاكمة على ارتكابه أفظع الخطايا بحق الليبيين حين ساهم بتدمير بلادهم وبقتل الزعيم القذافي بطريقة مهينة، رغم أن هذا الرئيس الليبي كان قد قدم له خمسين مليون يورو من أجل حملته الانتخابية، وبناء على ما ورد في معلومات صحفي عربي من أن رجل أعمال لبناني فضح ساركوزي بالقول أنه من حمل إليه أموال القذافي. وكذلك الحال مع البريطاني المستقيل رئيس الوزراء كاميرون الذي لعب دور التنسيق مع ساركوزي في عملية تدمير ليبيا، ولكي تكتمل صورة التآمر على ليبيا، لعبت هيلاري كلينتون دورا مهما أيضا حتى أنه تم تسمية ذلك بحملة كلينتون.

من واجب مجتمعات هذه الأسماء محاسبة هؤلاء السياسيين، إلى حد إنزال العقوبات بحقهم بما ارتكبوه عن سابق إصرار وتعمد، من تدميرهم المباشر لوطن أفلت من عقاله... كل ذلك من أجل إخفاء الرشاوى التي تلقاها ساركوزي كما تلقاها السواد الأعظم من "ثوار فبراير" وتجار وسماسرة الحروب... ومن المؤسف أن تغتال ليبيا لهذه الغايات أولا ومن ثم لأسباب أخرى، يدفعنا إلى القول أننا لن نغفر ولن ننسى، وأن الليبيين مطالبون عند خلاص بلادهم من الادعاء على هؤلاء أمام المحاكم الدولية، لكن للحقيقة وللتاريخ، يبقى أن أمين عام جامعة الدول العربية عمر موسى آنذاك، له اليد الطولى في ما جرى لليبيا بإعطائه الموافقة الكاملة، بل الإشارة على ارتكاب هؤلاء جريمة إسقاط ليبيا في هذا الأتون. 

فقد كانت ليبيا الحبة الثانية من العقد العربي الذي فرطه المستعمرون القدامى والجدد بتعاون عربي رسمي كانت أداته جامعة الدول العربية التي عقدت اجتماعها الشهير في الثاني عشر من مارس عام 2011، وخلص فيه الملتئمون من وزراء الخارجية العرب إلى التدخل العسكري ومطالبة مجلس الأمن الدولي بعقد جلسة عاجلة لتبني نتائج اجتماعهم الشهير هذا، والذي دون شك أصبح وصمة في تاريخ جامعة الدول العربية، وعلامة بارزة على جبين النخوة والشهامة العربية، فالقرار الذي أصدره مجلس الأمن رقم 1973 في السابع عشر من مارس عام 2011 كان أول صك شرعي دولي لحلف شمال الأطلسي للتموضع في ليبيا، ولذلك عد الحلف تأييد جامعة الدول العربية لعملية المباشرة الفعلية لتدخله العسكري هامًّا وأساسيًّا جدًّا.

خلاصة الكلام: الكثير من الليبيين الذين دمر وطنهم وشردتهم حرب دبرت بليل، ينتظرون يوما يتم فيه محاسبة كل من شارك في شن هذه الحرب على ليبيا، وجاء بأتباعه على دباباته لينشروا فيه الخراب والقتل والظلم والفقر... وبالتأكيد ليس السيد ساركوزي وبيرلسكوني وكاميرون وهيلاري كلينتون وأردوغان الذين تجب محاكمتهم محاكمة عادلة تليق بهم و بأمثالهم، بل في طليعة من يجب محاكمتهم قائمة تطول لتشمل كل أولئك الذين أجمعوا فيما بينهم على تجميع الذئاب البشرية من كل أصقاع الأرض وإرسالها لتعيث خراباً ودماراً في بنية الدولة الليبية، و لو كانت هناك عدالة دولية حتى في الحدود الدنيا فإنه يجب محاكمة أمثال هؤلاء محاكمات قاسية، لأن ما تسببوا به لدولة حرة مستقلة و عضو في الأمم المتحدة الشيء الكثير، فقد جعلوا هذا البلد مرتعاً خصباً للجماعات التكفيرية الإرهابية، و أرادوا لها أن تكون موطناً لهم كي تبقى المنطقة على صفيح ساخن لا تعرف الهدوء و الاستقرار ولا تشعر شعوبها بالأمن و الأمان.