ثمانية عشر مصرفا تجاريا ـ أو تزيد ـ تتنافس في موريتانيا على كسب ثقة جمهور محدود من الزبناء، من خلال تقديم ما تراه هذه المؤسسات أفضل خدمة بأقل تكلفة، لكنه "خدمات" باتت بالنسبة لصغار الموظفين الذي وقعو في شباك ديونها القاهرة - تحت سيف الإغراء والحاجة- لا تعدو كونها معاملات هدفها جباية الأقساط المجحفة، ومغالطته الزبون بأرقام وبيانات تبدو سليمة على الورق، لكن ما خفي في ذاكرة الحواسيب، ومن خلال العمليات المحاسبية الخاصة، يبدو "أعظم"..
من مفارقات سوق المال الموريتانية هذه أن تعدد المؤسسات والتنافس في إنشاء لا يحقق هدف تسهيل وتحسين شروط الحصول على القروض للأغراض العقارية أو الاستثمارية، التي تنعكس إيجابا على الاقتصاد، فزيادة عدد المصارف الوطنية أو فتح ممثليات لمصارف أجنبية يعني وقوع مجموعات من الموظفين والعمال في شرك الاستدانة بل ومضاعفة الأعباء على مقرضِين سابقين، وجدوا أنفسهم في حلقة مفرغة من مسلسل سداد الديون بالديون.
فاجتذاب عدد أكبر من الزبناء، هدف تسعى لتحقيقه البنوك الموريتانية، بما أوتيت من وسائل الإغراء والتسويق، ومن أجله تتسابق هذه المؤسسات في تقديم الوعود بقروض وأموال ظاهرها الحرص على مساعدة العملاء في تدبير مبالغ يحتاجونها آنيا، لكنها عاقبتها ديون ورسوم تضاعف قيمتها مبلغ الإقراض حتى ولو تطلب الأمر مخالفة القوانين الناظمة للعمل المصرفي، والتلاعب بأسعار الفائدة التي تحولت إلى أداة للمضاربة والضرب تحت الحزام بين هذه المصارف.
رحلة مع المعاناة
قروض مجزية تتنافس هذه البنوك في عرضها لأصحاب الدخول الدائمة كالموظفين الحكوميين وعمال الشركات والمؤسسات العمومية، لكنها تبقى وفق رأى المتضررين منها "سم في عسل" فهي تقضي على حلمه في التوفير والادخار لغد أفضل، مثلما تُجهز الأقساط الشهرية على دخله الهزيل أصلا مما يوقعه ضحية الوفاء بالتزاماته.
زحفت ظاهرة التوسع في تقديم القروض الاستهلاكية إلى موريتانيا كغيرها من الظواهر الناجمة عن العولمة والتأثر بالثقافات الوافدة، مخلفة وراءها مشاكل وأزمات اقتصادية، عمت بلواها الجميع وساهمت في إضعاف القوة الشرائية لضحاياها وتعرضهم لمخاطر الفقر المدقع.
وتحت ضغط الإكراهات المادية الطارئة، وتأمين مبالغ للحصول على مسكن أو سيارة، تبدأ قصة صغار الموظفين الموريتانيين مع القروض المصرفية، التي يقبلون عليها بنهمٍ يغذيه التنافس المحتدم بين هذه المصارف على تقديم العروض "المغرية" للترويج والإقناع بهذا النوع من القروض نظرا لكونه مضمونا، وهو في حقيقته ليس سوى مثلى لإملاء شروطهم حتى ولو خالفت القانون.
ومن خلال عملية حسابية معقدة لا يهتم أغلب المتعاملين بتفاصيلها وبنودها، يتبين لهؤلاء المتعاملين مبلغ الاقتطاع، وحجم المبلغ الذي حصل عليه كقروض، لتبدأ رحلة معاناة مع المصرف الذي لا يتوقف عند حدود إبرام تلك الصفقة المربحة له المجحفة بزبونه بل سيستمر سيف ضرائبه الظاهرة والمخفية مسلطا على ما تبقى من مرتبات هؤلاء الزبناء، محولا حياة وحلم هذا الموظف من حياة كريمة إلى سراب، فاتحا له بابا آخر من أبواب الاستدانة وهذه المرة من أطراف أخرى لسد عجزه عن الوفاء بالتزامات حياته اليومية.
"أبو بركه" موظف بسيط يعمل لدى إحدى المؤسسات العمومية جذبته ذات مرة هذه البنوك بعروضها المغرية ليتحول من عمال براتب زهيدة أصلا إلى موظف يعمل ب"السخرة" تقريبا لأحد هذه المصارف الذي تلتهم أقساطه أكثر من نصف هذا الموظف، ما يجعله مضطرا للبحث عن وسيلة إضافية للكسب بعد أن فشل المبلغ الزهيد الذي قبضه كقرض في تحقيق حلمه بشراء سيارة أجرة.
مضيفا أن المبلغ لم يستطع شراء سيارة قادرة على مساعدته في تحقيق دخل إضافي يعوضه مبلغ القسط المقتطع من راتبه، حيث كانت سيارة رديئة، الشيء الذي جعلها يعيد بيعها مبلغ أقل كثيرا مما اشتراها به.
وحمّل الموظف "أبو بركه" هذه المصارف مسؤولية تردي الظروف المعيشية وتدني القدرة الشرائية للموظفين من خلال عرضها أصلا لمغريات مالية أمام جمهور من الموظفين من ذوي الاحتياجات الكبيرة إلى المبالغ المالية نظرا لظروفه الخاصة، مما أوقع العمال في شرك الاستدانة الذي سيكون أمامهم سنوات طويلة من عمرهم المهني والوظيفي للتخلص منها.
وطالب الموظف "أبو بركه" بتطبيق القانون الخاص بالقروض المصرفية حتى يتمكن الموظفين الذي وقعوا في الاستدانة المفرطة من استعادة كرامتهم وحريتهم بعد وقعو في غفلة من أمرهم "أرقاء" جدد للبنوك التجارية.
مسؤولية المصارف
الخبير مولاي الحسن ولد مولاي عبد المؤمن يرى أن الزبون قد يكون مطالبا بتحمل جزء من مسؤولية وضع كهذا لأنه هو من أقدم على طلب الإقراض بإرادته، إلا أنه لا يبرأ في نفس الوقت المصارف، فالقانون المالي الذين ينظم العلاقة بين المصارف والبنك المركزي – يقول الخبير المالي- يفرض قسطا من الاقتطاع لا ينبغي أن تتجاوز نسبة محددة من الراتب، مثلما يفرض نسبة فائدة ثابتة، وهو ما يلاحظ أن أغلب المصارف لا تلتزم به – يقول الخبير المالي- حيث تعمد في بعض الحالات إلى إقراض الزبناء مبالغ لا تتناسب مع رواتبهم، مما يجعل عملية استرجاعها تتطلب اقتطاعا يتجاوز نسبة 50 بالمائة من الراتب.
كما أن تنافس هذه المصارف في استقطاب الزبناء جعلها تتلاعب أحيانا بنسبة الفائدة المحددة قانونا ب12 بالمائة، من خلال وقوعها في فخ المساومة مع هذا الزبون أو ذاك، وهو أيضا ما يكشف قصورا لهذه المصارف في تطبيق القانون بصرامة.
وعن عوامل نشوء هذه الظاهرة، يرى الخبير المالي أنها تأتي انعكاسا لحدة التنافس على السوق المصرفية الموريتانية التي لا تتحمل وجود20 مصرفا حاليا، 5 إلى 7 منها بنوك أجنبية، حيث أن هذه السوق لا تستطيع أن تشغل عددا من المؤسسات المصرفية بهذا الحجم، في وقت لا تزال فيه نسبة التعامل مع المصارف متدنية جدا بالمقارنة مع بقية بلدان العالم، وهو ما يحتم في نظره وجود سياسة مالية جديدة للحد من هذا التزاحم في فتح المصارف من خلال إجراءات مالية معينة، وهو ما بدت بوادره – يقول الخبير المالي- من خلال تحديد سقف 6 مليارات أوقية حد أدنى أمام طالب الحصول على رخصة إنشاء مصرف جديد.
ومن بين المؤشرات التي تعكس ضيق السوق المصرفية عن استيعاب عدد متزايد من المصارف وجود بعض الأرقام التي تبين أن عدد الوكالات المصرفية في العاصمة والمدن الداخلية يزيد حاليا على 110 وكالات، في حين أن رقم الأعمال الإجمالي لهذه البنوك لم يتطور تبعا لذلك بل لوحظ أنه تناقص وفق ما يقول الخبير المالي.
معالجة الانعكاسات السلبية لهذه الظاهرة التي أصبحت ملفتة تتطلب وفق الخبير المالي أيضا اعتماد خطة لمواجهة حالة استدانة تأسر أعدادا متزايدة من موظفي المؤسسات العمومية، وذلك من خلال برنامج تتبناه هذه المؤسسات على نفقتها الخاصة تهدف إلى تخفيف العبء على هؤلاء الموظفين والعمال ضحايا الاستدانة المفرطة.
مجلس السياسة النقدية
تفاقم معاناة الموظفين جراء الانعكاسات القروض المصرفية ذات الشروط المخالفة للقانون، كانت وراء تعميم أصدره مجلس السياسة النقدية قبل أشهر – بدأ تطبيقيه وفق ما هو متوقع- ينظم القروض المقدمة للأفراد من أجل مواجهة الدين المتزايد للأسر و تشجيع الدين العقارى.
ووفق القرار الموجهة إلى المصارف الوسيطة- فان فترة الدين محدد الاستخدام لا يمكن ان تتجاوز أربع سنوات، والدين الشخصى ثلاث سنوات، أما الدين العقارى فتبلغ فترته 15 سنة .
كما الزم المجلس حصول المقترض على عرض مسبق متضمنا المبلغ و معدل الفائدة الفعلي الاجمالى قبل التوقيع على القرض و أن يعطى فترة سبعة أيام لدراسة بنود العقد.
و حدد المجلس ثلث الدخل المنتظم و الثابت للزبون كالجزء الممكن التنازل عنه من الراتب، وهذه النقطة الأخيرة تشكل مصدر أمل بالنسبة للموظفين الذين يدفعون لبعض البنوك حاليا أقساطا تقترب من 50 بالمائة من رواتب، ويرزحون تحت وطأة أرباح تزيد على ثلث مبلغ القرض، وهو ما يعني حسابيا أن الفائدة ستناهز 26 بالمائة وهو رقم يضاعف مبلغ الفائدة القانوني الذي وقع عليه الزبون في الورق والوثائق والتي هي في حدود 13 بالمائة.
شريحة معينة من الزنباء هم الذين يجدون أنفسهم في مواجهة هذا "السخاء" المفرط للمصارف الموريتانية، إنهم الموظفون والعمال من ذوي الاعتمادات المالية المضمونة من الدولة أو المؤسسات ذات الطابع العمومي، أما غيرهم هؤلاء من عملاء المصارف فهم خارج مجال الاستفادة من هذه العروض- إلا من رحم ربك- وتلك قصة أخرى تكشف، غياب روح المبادرة والمغامرة لدى هذه البنوك واعتمادها على المضاربة والتكسب، دون اهتمام يذكر بدعم النشاط الاستثماري في البلد.