يشبه الحديث عن ترسيم اللغة الأمازيغية في الجزائر كمن يسير فوق حقل من الألغام، ويصعب لأي شخص التعبير عن موقفه وآرائه دون تلقي انتقادات حادة تأتيه من الطرف الأخر، وقد قررت السلطة الحالية المضي قدما بتخصيص مادتين الأولى جاءت حول اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للجزائر، تلتها مادة تشرح علاقة الدولة باللغة الأمازيغية وتصفها باللغة الوطنية والرسمية كذلك.
وفي خضم الجدل السياسي، يعود النقاش حول المادة الرابعة من الدستور المقترح، والتي تنص في صيغته النهائية على أن “تمازيغت” هي كذلك لغة وطنية ورسمية، وأشارت المادة إلى أن الدولة ستعمل على ترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني، من خلال استحداث مجمع جزائري لها يوضع لدى رئيس الجمهورية، على أن يسند المجمع إلى أشغال الخبراء ويكلف بتوفير الشروط اللازمة لترقية تمازيغت قصد وضعها كلغة رسمية فيما بعد.
وقد حملت ديباجة الدستور تعريفا دقيقا للمكونات الأساسية للهوية كما جاء في نصها: “الإسلام والعروبة والأمازيغية التي تعمل الدولة لترقيتها وتطوير كل واحدة منها وتمتد جذور نضالها اليوم في شتى الميادين في ماضي أمتها المجيد”.
لغة رسمية بتحفظ
وكانت المادتان محل نقاش واسع كاد أن يعصف بمشروع الدستور ككل، ولا تزال تداعيات النقاش قائمة إلى حد الساعة، بما قد يؤثر على نسبة التصويت أو رفض مشروع الدستور المعدل والمقترح أمام الشعب للتصويت عليه يوم 1 نوفمبر المقبل.
ويوحي المقترح تبني الدولة لمبدأ العدل بين اللغتين الوطنيتين والرسميتين، غير أن التمعن في الصياغة اللغوية لا يعكس ذلك، بحسب ما أشار إليه الباحث في التاريخ القديم الأستاذ محمد الهادي حارش الذي يرى أن المادة تشير إلى أن “تمازيغث كذلك لغة وطنية ورسمية” حيث تم حذف “هي” الضمير الدال على التنصيص في المادة الثالثة وتعويضها بـ ” كذلك” في البند الأول من المادة الرابعة، وكذلك ” تتكون من كلمتين باقيتين على أصلهما وهما ” كاف” التشبيه و”ذلك” الدالة على الإشارة، مما يعني تشبيه ” اللغة الأمازيغية” باللغة الوطنية الرسمية.
وبعض النظر عن موقفه المحتفظ على مشروع الدستور من ناحية المبدأ، فإن الباحث أرزقي فراد يرى أن مكانة الأمازيغية في الدستور المنشود من طرف الشعب يجب أن تحل مسألة الهوية وقال أن :”المسائل التي تتعلق بالهوية لا تحل بالأغلبية وإنما بالتوافق”، مشيرا إلى أن قضية الأمازيغية لا يجب إختزالها في القراءة السياسية، خاصة بعد معاناة الشعب الجزائري لعقود من الذهنية الأحادية التي كرستها الأنظمة السياسية السابقة.
وأكد فراد أن اللغة الأمازيغية لا تزال ضحية الطرح التصادمي، وقد تحولت القضية لما يشبه الحرب بين أنصارها والرافضين لها، وقال فراد في هذا الشأن إن مصلحة الجزائر أن تتخلص من تلك الأصوات المتعصبة التي تستخدمها كورقة سياسية، ولا تفتح نقاش أكاديمي حقيقي حول جذور اللغة الأمازيغية ونفض الغبار عليها بعدما دفعت الثمن غاليا بسبب غياب ثقافة الحوار، وما زاد الطين بلة هو غياب الأبحاث العلمية التي تشرح العمق الأمازيغي للجزائر، في ظل وجود عدة لهجات حيث تختلف اللغة الأمازيغية التي يتكلمها سكان الصحراء عن اللغة التي يتكلمها سكان الشمال، وكحل لذلك يرى ضرورة الباحث ضرورة جلوس الباحثين بهدوء على طاولة واحدة قبل التوجه إلى سن القوانين والمواد الدستورية.
ويشدد باحثون في التاريخ على ضرورة التوجه إلى الإصلاح التربوي والإعتماد أكثر على علم النفس، ويرى الباحث أرزقي فراد الذي اشتغل على ملف الهوية الأمازيغية لأكثر من ثلاثين عاما أن مسألة وضع الأمازيغية في نفس المرتبة مع اللغة العربية يعد أمرا مستحيلا لعدد أسباب تاريخية وقال:” يجب أن تبقى الريادة في الجزائر للعربية مع التفكير في طرق ترقية الأمازيغية”.
أما الحقوقية الجزائرية ليندا سعد العود جبوري فترى من ناحيتها أن دسترة اللغة الأمازيغية، لم يكن يوما مطلبا شعبيا بالمفهوم الحقيقي :”الدولة تعاملت بحنكة مع الملف بالنظر إلى المخاطر التي كانت تواجهها خاصة بعد إعلان الأمم المتحدة لبرنامج الأقليات عام 1991″.
وتعتقد جبوري أن التأخر في ترسيم اللغة الأمازيغية يعود إلى كون أن هذه اللغة لا وجود لها بالمفهوم الذي روج له و بالمنطق الأكاديمي، بل توجد لهجات محلية لبعض المناطق في الجزائر. وتضيف أن “هذه المسألة ظهرت إبان الثورة لضربها تحت اسم الحركة البربرية” .
ويبقى المطلوب من الدولة حسب الحقوقية سعد جبوري أن تتعامل مع مسألة اللغة بمنطق اللهجات وعدم فرض لهجة على حساب أخرى، حيث تتواجد في الجزائر العديد من اللهجات من بينها؛ الشاوية والشلحية والتارقية وهي تختلف عن بعضها البعض في الشكل والمضمون.
علة لغة الأم للأمة
وفي منشور مفصل حول الجدل، قال الروائي الجزائري أمين الزاوي الذي يكتب باللغة العربية أن ترقية اللغة العربية لا يجب أن يمر عن طريق شتم اللغة الأمازيغية أو منع أو عرقلة تعميم تعليمها، وقد ناشد الرئيس بأن يعلن عن موقف صريح تجاه اللغة الأمازيغية وأن يقوم بتدعيمها في المدارس والحياة العامة، وقد وصفها باللغة الأم للأمة.
وعلى خلاف سياسة الأنظمة الجزائرية التي حكمت البلاد بعد الاستقلال، عمل الكثير من الباحثين و المفكرين في الجزائر على تأكيد مسألة الهوية الأمازيغية للبلاد، ومنهم بعض رموز الإصلاح الذين يصنفون في خانة رواد التيار العروبي، ولم يثبت أن تصادمت أفكار الشيخ أحمد سحنون (1907-2003) أو أحمد توفيق المدني (1898-1883) وهما من أبرز الباحثين المدافعين عن التيار الإسلامي العروبي مع الهوية الأمازيغية، بل ثبت أن جميعهم يعتزون بها.
وبالنظر إلى حساسية الموضوع بات العديد من الباحثين والأكاديميين يتحفظون على التعليق أو إثراء النقاش بآرائهم، حتى أولئك الذين اشتهروا بمداخلاتهم النارية سواء بالدفاع أو الهجوم، كون ما يثار من جدل، قد يدخل في نفق مظلم من الجدل الحساس، في وقت لا تزال النخب منقسمة حول الكثير من النقاط منها مسألة الحرف الذي تكتب به اللغة الأمازيغية (التيفيناغ، أم الحرف العربي، أم الحرف اللاتيني).
ويعتبر الأديب الجزائري الراحل مولود معمري (1917-1989) من الأوائل الذين اشتغلوا على هذه الجزئية من خلال جولاته عبر الوطن، وحاول بناء لغة أمازيغية معيارية تتكون من لغة فصيحة تشمل كل اللهجات.
وكان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة قال خلال السنوات الأولى لتوليه للرئاسة إنه لن يوافق أبدا على ترسيم اللغة الأمازيغية، ولكنه في الأخير كان أول من حجز لها مكانا بين مواد الدستور بصفتها لغة وطنية، وذلك عام 2002.
وقد دفع الخلاف السياسي والأيديولوجي الذي حدث عقب أحداث 2001 أو ما يعرف ب”الربيع الأمازيغي” الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لمحاولة امتصاص الغضب الشعبي في منطقة القبائل ووصل إلى العاصمة عن طريق تعديل الدستور وإضافة مادة في التعديلات الدستورية.
واستكمالا لذلك المسعى أقر بوتفليقة عام 2007 يوم 12 يناير الذي يصادف رأس السنة الأمازيغية، يوما وطنيا وعطلة مدفوع في خطوة جاءت لتستكمل الإجراءات التي اتخذت ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور فبراير 2016 .
ويرى الباحث في علم الاجتماع السياسي بجامعة الجزائر سابقاً ناصر جابي أن تعليم اللغة الأمازيغية يعد مكسبا تاريخيا للجزائر وللمنطقة المغاربية، وأشار في حوار مع صحيفة “ليبرتي” الجزائرية أن هناك تحديات عديدة ومتعددة يتعين على النخب التي تؤمن بهذه القضية أن تحققها في المستقبل. وإن كانت تحديات أقل صعوبة على الأجيال الجديدة، مقارنة بتلك التي واجهها الجيل السابق الذي كافح في ظروف أكثر تعقيدا ومواجهة شرسة مع التيار الوطني الذي سيطر على الحياة السياسية في البلاد بعد الاستقلال الذي رفضت الأمازيغية ومحاربتها.
وفي آخر خطوة جادة نحو تطوير اللغة الأمازيغية، استحداث البلاد جائزة خاصة للأدب المكتوب باللغة الأمازيغية وجائزة خاصة بأفضل البحوث والأعمال الأدبية المنجزة في مجال اللسانيات والأدب باللغة الأمازيغية والمترجمة نحو هذه اللغة والبحث في التراث الثقافي اللامادي الأمازيغي والبحث العلمي والتكنولوجي والرقمي، التي يتم تسليمها يوم 12 يناير من كل سنة بمناسبة إحياء رأس السنة الأمازيغية.
وقال الأمين العام للمحافظة السامية للأمازيغية سي الهاشمي عصاد خلال حفل تنصيب لجنة التحكيم إن الجائزة تثمن الإبداع والبحث للأمازيغيين في مختلف لهجاتهم المستعملة في الجزائر، وتساهم في بروز نخبة ادبية ومجتمع علمي يستعمل اللغة الأمازيغية. وتهدف جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة الأمازيغية التي أنشئت بمرسوم رئاسي إلى تشجيع البحث وإنتاج وترقية الأدب واللغة الأمازيغية.