سردت الإعلامية الليبية كونية المحمودي، مقتطفات من حياة "عائدة الكبتي"، أول مذيعة ليبية على شاشة التلفزيون الليبي. 

وقالت المحمودي، في ورقة بعنوان (كتبت عن كل الرائدات الليبيات فمن يكتب عنها؟) نشرته عبر صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، "هذا الإدراج كتبته عن السيدة "عائدة الكبتي" منذ أربع سنوات تقريبا، وتركته في "الدرافت" -سجل المحفوظات- كعادتي مع كثير من الإدراجات والنصوص التي لم أنشرها، وقتها كانت السيدة عائدة مترددة في الكتابة عن عصرها، رغم تشجيعي لها، ثم بدأت تكتب شيئا فشيئا عن حقبة من تاريخ ليبيا طالها الإهمال والنسيان، ولم يدرس جيلي عنها شيئا في مناهج الدراسة، وهي فترة الحكم الملكي، وبدايات تأسيس الدولة الليبية، ثم تطورت كتاباتها التي كانت تطلق عليها "الخربشات"، إلى أن ألفت معجما عن الرائدات الليبيات في كل المجالات، والأيقونات الرائعات اللواتي صودر تاريخهن، وعانين من الإهمال، والجحود، والتهميش، وهو مجهود جبار تستحق عليه الشكر خصوصا في ظروفها الصحية الراهنة. وإليكم الإدراج: صورها في الستينيات وطلتها تذكرني بنجمات الشاشة المصرية الجميلات أيام الزمن الجميل .. ليس لأنها مصرية الأم، ليبية الأب، وليس لأن الله حباها بحضور وطلة رائعة فحسب، بل لأنها - وحتى آخر مرة رأيتها فيها - لازالت تعيش ذلك الزمن الجميل بكل رقي وأخلاق في تصرفاتها، وفي كلامها، وفي مشاعرها وأفكارها، فالسيدة المذيعة "عائدة الكبتي" منذ أن تركت العمل الإذاعي في التلفزيون الليبي، يندر أن تراها تقف على الموائد، أو تتهافت على مكاتب المسئولين  و"آيات الله العظمى" في الإعلام الليبي الذين نسوها لعقود طويلة، في الوقت الذي أهدروا فيه المال العام على الردّاحات، وأشباه الفنانات، وأشباه الموزعين والمنتجين، والشركات الوهمية النصابة، وأغدقوا الفرص والوظائف على التنابلة، وهمشوا المخلصين والمهنين من أبناء الإعلام ، وكانت "نخلتهم دائما تلوح برا" كما يقول المثل الليبي. نستها الإذاعة .. لكن السيدة عائدة لم تكن بقادرة على نسيان هذا الكون العزيز على قلبها، فهي تتذكره في كل وقت وحين، وتتذكر معه مسيرة حافلة بالعطاء، وتحكي عنها بكل حنين، وإكبار، واعتزاز".

وتابعت المحمودي، :"نستها الإذاعة لزمن طويل جدا، رغم أنها كانت أول مذيعة ليبية تقرأ نشرة الأخبار على الهواء عندما تأسس التلفزيون الليبي سنة 1968، بل عملت فيه قبل تأسيسه بسنتين حينما كان التلفزيون يسمى ب "الملاحة"، حيث بدأت عملها كمذيعة ربط، ثم مذيعة تقديم برامجي، فمذيعة نشرة إخبارية، إلى أن أصبحت معدة ومقدمة لبرنامج الأطفال، وقتها كان مجرد خروج المرأة وقتها  للعمل العادي، ضربا من التمرد على العادات والتقاليد، فما بالك العمل كمذيعة في الإذاعة والتلفزيون. توقفت السيدة عائدة عن العطاء مبكرا رغم نجاحها، وغادرت الإذاعة و التلفزيون وهي ماتزال شابة، والتحقت بسلك التعليم لأنه وفر لها وقتا أكبر لرعاية أولادها الأربعة الذكور، الذين كانوا محتاجين لرعايتها وحنانها، خصوصا وفاة زوجها المهندس على القروي في منتصف العمر، تاركا لها مسئولية كبيرة وشاقة. وخلال سبع سنوات عانى فيها زوجها من مرض الزهايمر، لم تمد لها أي جهة في الدولة يد العون، فاضطرت لبيع مصاغها وأملاكها كي تصرف على علاجه، كما اضطرت بعد فاته لبيع بيتها الأنيق في حي الأندلس، واشترت شقة صغيرة لتقيم فيها، وبنت بالباقي بيتا لتعيش من إيجاره، وكرست جهدها في تربية وتعليم أولادها حتى تفوقوا في الهندسة بفروعها. وبعد تخرجهم توجه اثنان منهم إلى أميركا، و أثنان إلى كندا، بحثا عن فرص أفضل، وتفوقوا هناك، فيما بقت السيدة عائدة وحيدة في ليبيا".

وأضافت المحمودي، :"السيدة الكبتي كانت جارتنا، وصديقة لأمي، ثم انقطعت عني أخبارها منذ سنة 2007، إلى أن وجدتها بالصدفة في هذا الفضاء الافتراضي، وعرفت أنها انتقلت للإقامة مع أولادها في أمريكا، فأرسلت لي طلب صداقة، وكلمتني وقتها وأنا في باريس لمدة ساعة بلهفة الأم المحبة التي تسأل عن ابنة لها، لتطمئن عنى وعن أحوالي، عندها تجاذبنا حديث الذكريات حول مشوارها الإذاعي في الستينيات، ولأول مرة علمت أنها كانت قد أجرت حوارا مطولا مع الشاعر أحمد رامي حين جاء إلى ليبيا في الستينيات، وأنها هي من أستقبل السيدة أم كلثوم في المطار، عندما جاءت لتغني في ليبيا، وكان معها في استقبال كوكب الشرق زوجه عازف الكمان الشهير أحمد الحفناوي الذي كان يقيم في ليبيا وقتها، ويعمل مع فرقة الإذاعة، وزوجة السفير المصري في ليبيا، والإذاعية عويشة الخريف. وهنا أصغيت بانتباه واستمتاع، واستأذنتها - وهي على الهاتف - بأن تتوقف وتنتظرني كي أعد فنجان من القهوة، فالحديث عن الست - ولو كان على بعد أميال وقارات -  يلزمه فنجان من القهوة كي أستطيع أن أتعاطاه، واستوقفتها عديد المرات، وطلبت منها أن تحكي لي بالتفصيل الممل عن هذه الزيارة التاريخية، وعن ظروف الحفل الذي أذكر أنني سمعت من والدي أيضا أنه حضره، ولكنه لم يحكي لي عنه الكثير، حيث كان أبي لايسمع الأغاني أمامنا نظرا لصرامته، ولكن حين كنا نتسلل إلى غرفته، كنا نجد فيها اسطوانات كثيرة لكوكب الشرق، ومحمد عبد الوهاب، فقد كان - رحمه الله - لايسمع غيرهما، إلى جانب قرائه المفضلين أمثال الشيخ محمد رفعت، وعبد الباسط، ومصطفى إسماعيل، والمنشاوي. وقد ذكرت لي، أن الشاعر أحمد رامي قال لها في اللقاء الإذاعي الذي أجرته معه أنه كان يكتب أشعاره بالفصحي، وأنه لم يكن مقتنعا بغير الفصحى، إلا أن السيدة أم كلثوم هي من أقنعه بكتابة الشعر والأغاني التي كان يقدمها لها بالعامية، وروت لي أيضا كيف استاءت السيدة أم كلثوم عندما وضعت رجلها في مطار طرابلس لأول مرة، ولم تجد الملكة في استقبالها، وكيف تعبوا في إقناعها بأن المكلة لا تخرج إلى المجتمعات العامة، وليس لها أي نشاط اجتماعي".

واختتمت الإعلامية كونية المحمودي، ورقتها قائلة :"كنت أسألها وكانت تجيب، وكنت أقرأ في إجاباتها متعة الحديث عن كون جميل تعتز وتفخر بالانتماء إليه هو "الإذاعة الليبية"، فضاء أحبته، لكنها تركته بمحض إرادتها، لتتفرغ لتربية أولادها. وحينما أخذتنا مسارب الذكريات إلى عروس البحر سألتني السيدة عائدة عنها وقد كنت للتو قادمة منها، كانت نبرة الحزن وحنينها إلى الوطن الذي أصبح على الطرف الآخر من الكرة الأرضية تخترق مسام قلبي وتدميه، وكنت أستشعر كل حرف ينساب عبر أسلاك الأثير بحواسي و جوارحي ، فمن غيري يحس بشعور الغريب الذي يقف محتارا بين خيارين أصعب من بعضهما، وقد وصفت هذا الإحساس في إحدى نصوصي بقولي " قلبي ممزق بين مدينة النور، ومدينة الظلام، بين قبر أبي، وفلذة كبدي.. تركتها بعدما أخذت منها عهدا بأن نلتقي في طرابلس في أول زيارة قادمة، وأسجل منها بعض تلك الذكريات التي استشعرت أهميتها، فهي شاهدة على عصر غني وفريد، عصر عاش فيه الكثير من الرموز الوطنية، وعرف الكثير من التحولات  الثقافية والسياسية في ليبيا والوطن العربي. وعدتني السيدة الكبتي أيضا بأن تسلمني نسخة من أرشيف صورها الذي تبقى، بعدما احترقت شقتها في طرابلس سنة 2007 بسبب التماس كهربائي، وضاع معها الكثير من الذكريات، والصور، والتسجيلات، والأوراق التي تمثل ذاكرة مهمة لعصر كانت شاهدة عليه. السيدة الكبتي لم تترك طرابلس رغم كل ما جرى في سنة 2011، لكنها اضطرت لمغادرتها سنة 2016 كي تلتحق بأولادها في أمريكا بعد ضغوطات شديدة منهم، ونظرا لرغبتهم الشديدة والملحة في أن لا تبقى والدتهم المريضة وحيدة بدون رعاية، ونظرا لخوفهم الشديد عليها بسبب تكرر الاشتباكات الدامية في محيط  مقر سكناها أكثر من مرة، وهي تحن الآن  إلى بيتها، وتعد الثواني للرجوع إليه في أول فرصة، وتقول بأنها لن تقضي بقية عمرها غريبة  في أمريكا. وأنا أنصت إليها خطر في بالي سؤالا كان يتردد باتساع السماء: لماذا يضيق الوطن عن أمثالها من عشاقه الشرفاء ويصبح محرما عليهم، ويتسع لكل أفّاق باعه بثمن بخس، وقبض الثمن جهارا نهارا".