في أماكن غير عالمنا العربي، يكون رأس السنة الميلادية حدثا استثنائيا، بفضل حجم التفاؤل الذي يُسوقه المحتفلون به عبر فتح الأفاق على أحلام ستتحقق وعلى بلدان سيعم فيها الخير والسلام. لكن ذلك الحدث "التاريخي" قد يصطدم بواقع عكس الذي يُصوّر لنا عندما نقترب من السياسة في مجتمعات مثل مجتمعنا العربي وفي منطقتنا المغاربية، التي تعيش على وقع العثرات الكثيرة منذ سنوات دون أن يلوح لها ضوء في الأفق ينهي "سنوات ضياعها".
فالحديث عن السياسة في الواقع المغاربي في العشرية الأخيرة إذا استثنينا موريتانيا الباحثة عن هدوئها الخاص، يأخذنا إلى سجل حافل بالخيبات والأزمات التي مازالت تنتظر الحل، وهذه السنة ليست استثناء، حيث تعيش أغلب الدول على وقع تأثيرات الصراع السياسي وأزمات الاقتصاد والأمن وحتى الخلافات البينية. ومع كل حصاد سنوي يجد المتابع نفسه أمام مشاكل لا حصر لها، والسنة التي مرّت لم تشذّ عن سابقاتها بالنظر إلى الأزمات التي يعيشها كل بلد.
ليبيا... انتخابات تهددها الحسابات الخاصة
كان الليبيون قبل عام من الآن ينتظرون تاريخ 24 ديسمبر بأمل كبير. كل المؤشرات وقتها كانت تشير إلى الوصول إلى موعد انتخابي ينهي حالة الأوضاع المؤقتة، ويوقف نزيف الأزمة التي طالت. حتى قوى الخارج كانت على قناعة أن لا حل لليبيا إلا بإجراء انتخابات يقرر الشعب فيها مصيرة، والاتفاق السياسي الذي وقّع وقتها، إضافة إلى نجاحه في إيقاف حرب "الأشقاء"، فقد أفرز أيضا حكومة موحدة أنهت الانقسام وبشرت بمستقبل أفضل لبلد أنهكته الخلافات والاقتتال.
لكن ولأن التعقيدات كبيرة، والحسابات قد لا تذهب فيما يريد الشعب، وصل التاريخ المحدد دون النجاح في إجراء الانتخابات. الحجج الظاهرة تقول أن الاستعدادات الكبيرة لم تنجح في توفير كل الظروف لنجاح العرس الانتخابي، لكن هناك أشياء خفية تشير إلى أن الخلافات مازالت قائمة والثقة مازالت مهتزة بين الفرقاء، وهذا يفهم حتى من تناقض المواقف بين من يريد التاريخ المحدد للانتخاب وبين من يسعى إلى التأجيل وهذا ما حصل في الأخير بتحديد يوم 24 يناير لإجراء الرئاسيات، بعد أن فشلت المفوضية العليا في حسم ملفات المترشحين.
وعلى الرغم من تحديد تاريخ جديد، إلا أن بعض الأصوات داخل ليبيا، تلمح إلى أن الإشكال ليس الوقت، بل التفاهمات التي مازالت بعيدة، فبعض الأطراف تريد تعديل بعض القوانين لغايات تعلمها هي قبل غيرها، وأخرى تريد كتابة دستور تُركَّزُ على ضوئه كل المؤسسات مستقبلا، وأطراف تسعى لإجراء الانتخابات وعبرها يتم تحضير هيئات وطنية تؤسس للمرحلة المقبلة، بما يعني أن الاتفاق الموقع قبل عام ما هو إلا حالة إنقاذ من الغرق لا تضمن استمرار الحياة للغريق فيها.
أشياء كثيرة طرأت في السنة الجديدة في ليبيا، فرقاء اجتمعوا بعد عداء السنوات، زيارات أشخاص إلى مناطق كانت إلى وقت قريب "ممنوعة" عليهم، استقالات من مؤسسات فاعلة بهدف الترشح للانتخابات، وغيرها من المفاجآت التي لم تكن تخطر على بال أكبر المتفائلين. لكن اللافت في العام الجديد في ليبيا هو عودة سيف الإسلام نجل الزعيم الراحل معمر القذافي، إلى الواجهة وتقديم ترشحه للانتخابات الرئاسية. معمم بعمامة والده، وناظرا بدقة إلى كاميراوات المصورين، وواثقا في نفسه أمام خصوم يترصدونه في الطريق، خرج سيف الإسلام طالبا ثقة شعب يئس ممن تاجر بدمائه، ومؤمن بأن البلد يحتاج شخصا خارج الصراعات المستحدثة وقادرا على إعادة ليبيا إلى هيبتها القديمة.
عودة سيف الإسلام إلى الواجهة لا تعني أبدا عودته إلى حكم البلاد. في بعض المراحل الحاسمة ثقة الشعب لا تكون حاسمة دائما. هناك حسابات في الداخل والخارج هي الذي تأخذ الأمور إلى مساراتها المرغوبة، والقذافي الابن هنا يصارع على أكثر من واجهة؛ واجهة الداخل التي تعرف أن منافسا قويا عاد إلى الواجهة وتتخوف أن يخطف منها مواقعها وهي أطراف قد تختلف بينها حد الاقتتال لكن في معركة المواقع قد تكون في صف واحد.
كما أن حسابات الخارج قد تحدد ممثلي المستقبل في السياسة الليبية، وسيف الإسلام يبدو مركزا جيدا في تحديد تحالفاته، بل الأقرب أنه لا يراهن على قوى بعينها، بل على الإرادة الداخلية، وهذا ليس سهلا، خاصة أن القوى الخارجية أغلبها كان مشاركا في الإطاحة بنظام والده وتتخوف من أن لا يكون ضمن الاستراتيجيات المرسومة للمنطقة.
تونس... إجراءات رئاسية بخيارات غامضة
العام الجديد كان في تونس أيضا استثنائيا. فبعد أزمة كبيرة على المستويين السياسي والاقتصادي دامت لحوالي 6 أشهر، وانعدام مناخ الثقة بين مؤسسات الدولة، اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 يوليو، قرارا بإقالة الحكومة وتجميد البرلمان، من خلال الاعتماد على فصل دستوري يخص حالة الخطر الذي يهدد مستقبل البلاد، في حدث وصف بالزلزال السياسي، ثم أعقب الإجراءات الأولى بقرارات في المدة الأخيرة تخص تاريخ الانتخابات المبكرة والعمل على إصلاحات دستورية تتم عبر الاستفتاء الشعبي.
القرار الذي اتخذه الرئيس التونسي، عرف تأييد نسبة كبيرة من الشعب التونسي، حيث خرجت أصوات مؤيدة كثيرة للشوارع معتبرة أن ما قام به سعيّد هو عملية إنقاذ لسنوات من الخراب شاركت فيها أطراف عدة، على رأسها حركة النهضة، بينما اعتبرت أطراف أخرى أن ما قام به الرئيس انقلاب يجب العمل على رفضه بالمظاهرات والاحتجاجات وإلى اليوم تحاول أن تحرّض الشارع للخروج، لكن دون أن يكون لذلك تأثير كبير.
لكن بعيدا عن منطق التأييد والرفض اللذين يبقيان حالة عاطفية غير خاضعة للعقل، وغير قادرة على التغيير، هناك واقعا ثابتا، أن البلاد مازالت في حالة أزمة خاصة على المستوى الاقتصادي، حيث يؤكد جل الخبراء أن ما تعيشه البلاد قد يؤدي إلى نتائج غير محسوبة العواقب وهذا ما بدأ الرئيس نفسه بفهمه من خلال إرسال رسائل طمأنة بتجاوز الصعوبات خاصة المتعلقة بالميزانية.
الجزائر والمغرب... تصاعد الخلاف المتوارث
في الوقت الذي تسعى فيه الدول إلى تجاوز خلافاتها والنظر إلى المستقبل بأكثر هدوء ووعي. مازالت الخلافات المغربية الجزائرية تراوح مكانها. وإذا كانت السنوات الماضية هادئة نسبيا، كان العام 2021، مؤشرا إلى عودة التوتّر الذي بلغ في فترات درجة الخطر، عندما كانت المنابر الإعلامية والهيئات الدولية ساحات اتهام واتهامات بطرق مباشرة وغير مباشرة، تسببت في قطع الاتصال الدبلوماسي وإدخال البلدين في نفق هما في غنى عنه.
وككل المراحل السابقة كانت قضية الصحراء الغربية، هي نقطة الخلاف الرئيسي بين البلدين. ففي الوقت الذي تنفي الدبلوماسية الجزائرية أي دور لها في دعم فكرة انفصال الصحراء عن المغرب، تتهم الرباط جارتها بأنها جزء من المشكل وسبب في مزيد توتير الوضع في المنطقة وهو ما لا يمكن السكوت عنه.
سنة جديدة تنتهي في المنطقة المغاربية، لم تشذّ كثيرا عن سابقاتها. مشاكل كثيرة متواصلة ولا أفق لحلها جميعا، وصراعات سياسية مباشرة وغير مباشرة لا تؤشر لانفراج قريب، لكن يبقى الأمل معقودا بأن هناك أهل حكمة قادرين على تجاوز الخلافات والنظر إلى المستقبل بتفاؤل أكبر لكي تبني المنطقة مشاريعها نحو تكتل واحد قادر في كل وقت على تغيير واقعها المعقّد.