أنهكه المرض فتوارى عن الأنظار، لكن عقله وأفكاره هدما أسوارا، وقطعا مسافات بلا كلل أو ملل. هو الفقيد جسدا، الحاضر روحا وفكرا، والمستشرف أو المستبصر أو المتوقع، إنه المهدي المنجرة، الذي توفي يوم 13 يونيو الجاري، ذاك العقل المغربي الثاقب الذي استطاع أن يلتهم مبادئ الحضارة الغربية والشرقية من دون أن يشعر بالتخمة.

أجمع كلّ من تعرّف على أفكار الراحل المهدي المنجرة بأنه أدى رسالته العلمية ثمّ ذهب راضيا مرضيا، إلا من أولئك الذين لم تعجبهم صراحته الصادمة وجرأته في قول ما يتوجب قوله.

 

اعتزاز بالهوية

انحدر المفكّر المنجرة من عائلة مارست التجارة، لكنه اكتسب الشغف بالمعرفة عبر سبيل والدته، ومن حليبها رضع قيم الأصالة، وترعرع داخل عائلة مؤمنة بقيم التسامح والإسلام السني المعتدل.

تكوينه وقراءاته عززا لديه قيم النضال والدفاع عن الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة. هو المولود بمدينة الرباط في 13 مارس سنة 1933 حيث كانت الحركة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي متأججة وفي ذروتها، تعرّف إلى نخبة من الوطنيين وتشرب منهم حب الدفاع المستميت عن الاستقلال، وكانت الضريبة سجنه.

الكرامة والاعتزاز بشخصيته لازماه منذ كان صغيرا، وتلك الحكاية التي يرويها عندما كان مع عائلته في مدينة إفران أحسن تعبير عن هذا المعنى، عندما كان المهدي المنجرة بأحد المسابح في هذه المدينة الجبلية سنة 1948، وكان بها عدد من المغاربة والفرنسيين، يومها اقترب كلب من المسبح وبدأ يشرب من مياهه، الشيء الذي لم يعجب سيدة فرنسية، فأمرت بإبعاده. فتدخل أحد الفرنسيين قائلا: “إذا كان العرب يسبحون في المسبح فلماذا نمنع الكلاب من ذلك”. تلك العبارة البغيضة سقطت في أذن المهدي فلم يستسغ عنصريتها، فدخل في مشادة كلامية مع هذا الفرنسي، الذي لم يكن سوى رئيس فرقة الأمن الإقليمي بإفران، الذي اعتقل، مباشرة، المنجرة لمدة عشرة أيام. بعدها سيرسله والده إلى الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة دراسته هناك.

تعرف إلى العالم الغربي في بدايات حياته، فقد سافر إلى الولايات المتحدة الأميركة في الخامسة عشرة من عمره، فنهل من العلوم وتبحر فيها. يحكي عن هذه التجربة قائلا: “في هذه المدرسة الداخلية ليس هناك امتحانات، وليس ضروريا حضورك للفصل الدراسي، حيث أن لك حرية التصرف في الوقت، وفي آخر السنة ليس هناك تقييم كما هو معمول به في مدارسنا. اليوم مقسم لجزأين النصف الأول للدراسة النظرية، والنصف الآخر لخدمة الأرض. والطلبة هم من يكنس ويطبخ ويغسل إلخ… الكل كان يستعمل الحرية للتحصيل وقد تخرج منها رجالات تركوا بصماتهم بصدق في مجالات اختصاصاتهم".

الوعي بالماضي

 

مفكر من الطراز الرفيع ومرجع أساسي في الدراسات المستقبلية، حاز على أكثر من جائزة في أكثر من بلد، قطع مسافات طويلة وجالس أكبر العقول، واستنتج استنتاجات كانت جلها صائبة في مجالها. أكمل دراسته بجامعة كورنيل وحصل على الإجازة في البيولوجيا والعلوم السياسية. انتصارا لقيمه رفض التجنيد في الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الكورية، فنزح إلى أنكلترا وحصل هناك على الدكتوراه في الاقتصاد وناقش رسالة الدكتوراه في موضوع الجامعة العربية في عشر سنوات حيث توقع فشلها.

عندما يُشَرِّحُ واقعنا فهو يضغط على الجرح بلا رحمة “من أسباب تخلفنا هو عدم اهتمامنا بذاكرتنا، إذ لا مستقبل دون ماض”. لقد تخصص المهدي المنجرة في علم المستقبليات وعقله عارف بقيمة الماضي جيدا. لذا كان دائما يصحح لنا المفاهيم عن الماضي الذي كتبه الآخرون، ويلح على أن نقرأه بعيوننا وليس بعيونهم، وتلك هي مشكلتنا.

الدراسات المستقبلية ليست علما، كما هو متعارف عليه، لكنها شيء جدي وليست ديماغوجية، لأنها تتأسس على إحصائيات وأرقام وقراءات متينة. قال بأنه يتوجب علينا نحن العرب المسلمين أن “نعرف من خلالها ماضينا، وكيف سنتحرر في حاضرنا، وواجب أن نفكر في مستقبلنا، وصعوبة هذه العملية تتجلى في ارتباط تلك المراحل الثلاث، ولا يمكن العمل على واحدة منها دون الأخرى".

حكمته في هذا الباب “لا يمكن أن تعرف إلى أين أنت ذاهب دون أن تعرف من أين أنت آت”. إن الدراسات المستقبلية ليست رجما بالغيب إنها طريقة ومنهجية تمكنك من رؤية الأشياء قبل تحققها، إنها تماثل مفهوم الاستبصار في الحضارة والقيم الإسلامية.

حديثه عن الإسلام اتسم بمنطق العارف والمنظر والمستقبلي في نظرته للأشياء، فهو يقول إن الإسلام جاء بدينامكية التغيير اليومي، وبأن هناك فرقا شاسعا بين المستقبل والغيب الذي لا يعلمه إلا الله. ويتعمق كثيرا في هذا الباب عندما يؤكد على أن الخلق والتنوير والإبداع هي حقائق ثابتة في الإسلام. فمستقبل الدول الإسلامية الذي ركز عليه في جميع محاضراته ينبني على تجديد الإسلام، وهو هنا لا يتحدث عن المساس بأركان العقيدة.

إنه يتحدث عن إسلام الاجتهاد وليس التقليد، إسلام متفتح ومتكيف مع المستجدات والتحولات. وأوضح قائلا في إحدى المحاضرات “لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم لديه قوة التوقع لما كان الإسلام منتشرا الآن في بقاع الأرض كلها".

وقال في هذا السياق بأن “الخطيب يوم الجمعة أو الواعظ الديني من الواجب عليه أن يكون له إلمام بمادة العلوم الطبيعية، لكي يتمكن من فهم صحيح لما جاء في القرآن الكريم".

لقد أكد المهدي المنجرة بعين المتفحص أن في عالمنا العربي والإسلامي ليست لنا رؤية، والرؤية تتحقق بالحرية، حيث أنه لا يمكن لمؤسسات تسير بعقلية القرن 18 أن تساير التطور السريع الذي يحدث في القرن 21. فالطبيب أو المهندس، مثلا، الذي لا يتابع الجديد في مجاله يصبح خطيرا على مجتمعه وعلى الإنسانية ككل. الدراسات المستقبلية تتطلب عمل فريق متعدد الاختصاصات ومتابع لكل جديد، ويعتبر الحد الأدنى في الدراسات المستقبلية هو 20 سنة، ونسبة مهمة من هذه الدراسات التي تفوق 70 في المئة يحتكرها القطاع العسكري والشركات المتعددة الجنسيات.

هو الباحث في الدراسات المستقبلية، توقع أن تنشب حروب حضارية، كانت حرب الخليج أولها، قبل أن يصيغها صمويل هنتينغتون في مقالته. توقعاته ظلَّت تحكمها إشارات ومقدمات لما سيحدث مستقبلا.

 

*نقلا عن العرب اللندنية