تخضع كل الحكومات في العالم لما يشبه التقليد أو "العرف" السياسي من خلال خضوعها للتقييم بعد أوّل مائة يوم من إستلامها السّلطة خاصة منها تلك الحكومات التي تأتي في ظروف خاصة و حساسة أو تلك التي تأتي نتيجة أزمات سياسية و لا شكّ أن المتابعين للشأن السياسي العالمي يذكرون –مثلا- تلك التغطية الإعلاميّة الكبيرة الذي حظي مشوار الرئيس الأمريكي باراك أوباما عند تخطّيه عتبة المائة يوم من الرئاسة الأمريكيّة ،و هو التاريخ الذي إنتظره الجميع لتقييم أوّل رئيس أمريكي من جذور إفريقيّة و الحامل للوعد بترميم صورة الولايات المتحدة الأمريكية المثقلة بغبار حرب العراق و أفغانستان فضائح أبو غريب و غوانتناموا و غيرها من الأزمات التي جعلت من فترة جورج بوش الإبن أسوأ الفترات في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكيّة .

و في إطار هذا "العرف" السياسي المتداول ، تبلغ اليوم الإربعاء 14 مايو/أيار 2014 حكومة المهدي الجمعة في تونس يومها المائة و هي التي خرجت من شقوق التصدّع السياسي الذي عصف بالبلاد نهاية العام الماضي ،فحكومة المهدي جمعة هي نتيجة "توافق" معظم الأطياف السياسية في تونس داخل الحوار الوطني الذي رعاه رباعي من منظمات المجتمع المدني على رأسها الإتحاد العام التونسي للشغل المنظّمة النقابية الأعرق و الأكبر في البلاد ،فقد كان هذا الرّجل مجهولا لكافة أطياف الشعب و الساسة التونسيين ،و لم يكن يعرف عنه شيء أكثر من أنه وزير الصناعة في حكومة الترويكا الثانية التي يترأسها المستقيل علي العريض ،و خرج إسمه فجأة و في آخر لحظة من المهملة التي منحها الإتحاد لكافة الأحزاب من أجل التوافق على إسم رئيس الحكومة .

خرج "المهدي المنتظر" بأدبيات الإعلام التونسي ملفوفا بعباءة المخلّص الذي جنّب البلاد دوّامة من التجاذب الحاد كاد يدخل بها أتون المجهول ،هذا الرّجل القادم من كواليس الحوار الوطني إستقبله الإعلام التونسي بحفاوة كبيرة و سوّقت له –في المجمل- صورة باهرة ربّما شفع له فيها رغبة الجميع في انهاء التجاذب السياسي و حدّة الإستقطاب في الصّراع الذي إنفجر بإغتيال المعارض اليساري و القيادي بالجبهة الشعبية شكري بالعيد يوم 6 فبراير 2013 و وصل ذروته القصوى يوم 25 يوليو 2013 بإغتيال المعارض القومي و النائب بالمجلس الوطني التأسيسي الحاج محد البراهمي أمام منزله في شهر رمضان .

قبل مائة يوم جاء المهدي و حكومته في إطار بنود خارطة الطّريق التي أفرزها الحوار الوطني و من أهم بنودها إشراف هذه الحكومة التي يكون أعضائها من "التكنوقراط غير المتحزبين" على إجراء إنتخابات حرّة و نزيهة بما لكل ذلك من مستلزمات ضبطها الحوار الوطني بالإنتهاء من الدّستور و تشكيل الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات و سن القانون الإنتخابي و بنود أخرى ترى المعارضة أنّ أهمّها هو تحييد المساجد و مراجعة التعيينات الحزبية في صفوف الإدارة و حلّ "رابطات جماية الثّروة" التي يتهمها الجميع بأنها "مليشيا" تابعة لحركة النّهضة الإسلاميّة  وعلى أن يتعهّد كل أعضاء الحكومة بعدم الترشّح لأي مناصب سياسية في الإنتخابات القادمة .

من هنا تبدو معايير التقييم واضحة في هذه المائة يوم :ما مدى إلتزام المهدي جمعة و حكومته ببنود خارطة الطّريقة التي أوصلتهم إلى سدّة الحكم بمباركة المجلس الوطني التأسيسي ؟ و مستويات التقييم في نظر الجميع هنا في تونس ثلاثة و هي تتراوح بين الإقتصادي و السياسي و الأمني .

على المستوى الإقتصادي أكّد المهدي الجمعة منذ الأيّام الأولى لتوليه رئاسة الحكومة بأن الوضع الإقتصادي في البلاد "صعب للغاية" مطالبا بــ"ضرورة العمل بصفة جماعية لجلب القروض الممنوحة لتونس من أجل تسديد الأجور والإيفاء بالالتزامات." و قد قام المهدي جمعة داخل هذا السياق بعديد الجولات الخارجية الى الجزائر و دول الخليج و الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا من أجل جلب الإستثمار و القروض و توجت هذه الزيارات بالمنتدي التونسي الخليجي للإستثمار الذي عقد بداية الشهر الحالي و بقرض و هبة مالية و وديعة بنكية كبيرة من الجارة الجزائر آخر محطاته الدّولية كما تم إعلان الإكتتاب الوطني من أجل قرض رقاعي وطني بقيمة 500 مليون دينار يساهم فيه أعضاء الحكومة بــ10 بالمائة من رواتبهم مع خصم 10 بالمائة أخرى لفائدة الدّولة .

على المستوى الأمني يعتبر الكثيرين بأن حكومة المهدي جمعة قد نجحت على هذا الصّعيد من خلال إرادتها العملية الواضحة في القضاء على الإرهاب الذي نخر المجمتع التونسي طيلة الثلاث سنوات الأخيرة و تجلّى في عديد المظاهر منها الإغتيالات السياسية و التفجير و الذّبح و التنكيل بالجثث و استهداف الأمنيين و الجيش في كمائن مسلّحة ،فالعمليّة العسكريّة الكبرى التي دخلها الجيش التونسي منذ الشهر الماضي في جبل الشعانبي تعبّر في رأي الكثيرين عن رغبة واضحة في وضع حدّ للتراخي في التعامل مع هذه الظّاهرة ،إضافة الى الحملة التي تقوم بها الدّولة بالتحقيق مع الجمعيات "الدعوية" و "الخيرية" ذات التمويلات المشبوهة و ذات العلاقة بأطراف متشدّدة أو إرهابية ،إضافة كذلك إلى ملف الذاهبين للقتال في سوريا .

على المستوى السياسي يعتبر الكثيرون أن نسق أداء حكومة جمعة خاصة في ما يتعلّق بملف مراجعة التعيينات "بطيء جدّا" فالجبهة الشعبية على لسان عضوها زياد لخضر كان قد أكّد على هامش ندوة صحفية عقدت بالعاصمة يوم الجمعة 9 مايو/أيار 2014 لتقييم 100 يوم عمل من حكومة المهدي جمعة إن أداء الحكومة بطيء جدا مقارنة بالمهام المناطة بعهدتها انطلاقا من خارطة الطريق ومبادرة الرباعي الراعي للحوار وأوضح زياد لخضر أن حكومة مهدي جمعة لم تتقدم في مسألة التعيينات خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات .

الإتحاد العام التونسي للشغل راعي الحوار الوطني نفسه و على لسان أمينه العام حسين عباسي و في كلمته بمناسبة عيد العّمال في الفاتح من مايو/أيار الجاري قال بأنّه  كان يأمل من الحكومة "لو استوفت ما تعهّدت به بشأن تطبيق خارطة الطريق، خصوصا في ما يتعلّق بالتعيينات، وبحلّ ما يسمى بروابط حماية الثورة وبتحييد المساجد حتى يطمئن الناخبون بشأن سير العملية الانتخابية" و هذا ما يعني انتقادًا آخر لبطء العمل على هذه المحاور التي يعتبرها الكثيرون في تونس الاكثر أهية و أولوية من أجل توفير كل الظّروف لإنتخابات حرّة نزيهة و شفافة تنهي الفترة الإنتقالية في تونس التي طالة لأكثر من ثلاث سنوات و الدّخول بالتالي في مرحلة البناء و التأسيس للجمهورية الثانية .

 و بمناسبة مرور مائة يوم على إستلامه مهام رئاسة الحكومة يعقد المهدي جمعة مساء اليوم الإربعاء على الساعة السادسة و النصف بتوقيت تونس ندوة صحفية للحديث عن النقاط التي أنجزت في خارطة الطريق و عن الوضع السياسي و الاقتصادي و الأمني العام في البلاد و لمزيد تسليط الضوء عن باقي مراحل الفترة الإنتقالية  الحالية .