لو جربتَ أن تقرأ النفّري برفقة موسيقى، مهما كانت هذه الموسيقى هادئة أو راقية، فسوف تفشل حتماً، فالنفّري لا سيما في رسالة المخاطبات يمتصّ ذهنك بالكامل يحتاج منك حضوراً كاملاً يتطلب ليس أقل من الانقطاع عن أيّ شاغل خارجي، نصّ النفّري كما النصوص القديمة المقدسة يتطلب إخلاصاً كاملاً له، وهو بقدر ما تعطيه من إصغاء داخلي بقدر ما يمنحك من لذة، تفسير اجتماعي نفسي للتصوف: “في الاغتراب والغربة عن المجتمع المادي المنحدر إلى مزيد من الدونيات والماديات تولد الصوفية” لأن من طبع الشيء أن يحرّض نقيضه على المجيء إلى الوجود، لهذا بدأ التصوف الإسلامي في العراق خلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري إذ أن ذلك الإقليم الذي احتوى على عاصمة الممالك الإسلامية قد استحال إلى أكبر مستودع للمال في الدنيا بأسرها، وذلك ابتداء من عصر هارون الرشيد، أو قبل ذلك بقليل أو بكثير.

 

أقل من تحدث عنهم التاريخ

يقول الناقد يوسف سامي اليوسف عن صمت ما بعد الحلاج: “والنفّري أقل من تحدث عنه التاريخ، رغم أنه أكثر من أثّر في حركة التصوف الإسلامي” ولقد كان سوء طالعه أن ظهر في القرن الرابع للهجرة، في قرن ساده الخوف من الفقهاء الذين كانوا يراقبون المتصوفة، فلم ينطق خوفا من الموت كما فعل الحلاّج، فبعد الموت البشع للحلاج صمت الصوفيون قرناً ونصفا كما يقول الباحث العلاّمة يوسف زيدان، ومع ذلك -وربما لذلك- فقد تأثّر به عدد من كبار المتصوفة كأبو مدين المغربي وعمر بن الفارض وتاج العارفين بن عطاءالله السكندري وهؤلاء هم أبرز من ساروا على طريق النفّري رغم أن المسافة الزمنية التي تفصل بينه وبينهم ليست بالقليلة.

 

الخروج عن الصمت

دوّن النفّري أفكاره في قصاصات، جمعها حفيده في رسالتين هما “المواقف” و”المخاطبات”، هما رسالتان أو نصّان نشرهما بعد قرون آرثر جوهان أربري المستشرق الإنكليزي سنة 1934 وصدرت في كتاب عن دار الكتب المصرية شمل المخاطبات والمواقف كما حققها آرثر وكذلك ترجمته للرسالتين إلى اللغة الإنكليزية، لكن أربري كما يقول البعض نشر رسالتي النفّري بالاعتماد على مخطوطة واحدة، فيما يبدو واضحاً أنه نشر الكتاب بالاعتماد على خمس مخطوطات هي: المكتبة الهندية بلندرا، والمكتبة البودليانية بأوكسفورد والمكتبة التيمورية في مصر ومكتبة ليدن في بريطانيا، ثم يأتي الأب بولس نويا سنة 1973 لينشر ما لم ينشر من رسالتي المواقف والمخاطبات في كتابه الهام “نصوص صوفية غير منشورة”، ومن بعدهما يأتي الشاعر العراقي البياتي فينشر بعضا من كتابات النفّري وكذلك فعل أدونيس الذي كان له دور في تعريف جمهور المثقفين العرب ولا سيما الشعراء على النفّري الذي صار عندهم المتصوف المفضّل والرؤيوي الذي لا يبزّ، واستعان أدونيس بكتابات النفّري ليقول إن هناك مرجعية تاريخية عميقة وهامة لقصيدة النثر العربية، ولطالما حاول شعراء عرب وبالأخص سوريون تقليد النفّري في طريقة كتابته، فصرت تجد ضمن دواوينهم فصولاً تضم مقولاتهم الفكرية أو “الرؤيوية” محاولين اقتفاء النفّري في الشكل والمقاربة أو التناول لموضوعات فكرية أو حسيّة.

 

نص النفري

يذهب بعض الدارسين للقول إن نصوص النفّري لا يمكن شرحها بطريقة منطقية، “لأن للمنطق حدوداً، والكلام هنا – في مواقف النفّري- بلا حدود، الشرح إحاطة بالمعنى، وهنا المعاني لا تحيط بها العبارة، لقد تحول فعل الكتابة معه إلى كتابة جديدة تؤسس بقدر ما تمحو، وترمز بقدر ما تكشف اللغة، وتحولت اللغة على يديه إلى هوة ملأى بالغرابة والعجب والهدم بالمعنى المبدع”، وربما كان الفرق في الظاهر هيّنا وبسيطا ما بين الرسالتين “المواقف” و”المخاطبات”، لكنه بالنسبة إلى الممحّص فارق كبير، فالمواقف مبنية على عبارة “أوقفني وقال لي”، وهي حال من يأخذ الوحي عن ربه، فيفوه بكلامه، وهي حاله الفهوانية وهي حال معروفة عند المتصوفة، وكما نعلم فالوحي أنواع أعلاه التنزيل وهو وحي الله جل جلاله لنبيه المصطفى، ووحي الإشارة كما أوحى سبحانه لأم موسى، ووحي الإلهام كما للأولياء والقديسين، يقول عفيف التلمساني إن “أوقفني وقال لي” معناها “أيقظ قابليتي لتلقي التجلي أو عرّفني بأن رُفِعَ حجابي فكأنه (قال لي)” أي يغيب القائل والمخاطب، فيستحيلا واحداً.

المخاطبات

أما المخاطبات فهي في حال أدنى حيث يصبح النفّري هنا في حال العبد، وتبدأ كل من كلماته بـ”يا عبد”، وهنا يبدو القائل والمخاطب، كما أن للمسألة وجها آخر حيث يأخذ النفّري موقف الخاطب فكأنه يأخذ مكان الله سبحانه وهو يخاطب عبيده، سُمّي الكتاب “المواقف” لأنه عنوان الرسالة التي كتب النفّري كلماتها وبداية كل منها: “أوقفني في (كذا) وقال لي” وكلها حالات نفسية وعقلية. تبدأ المواقف بموقف العز والعز هو العلم، ويأتي بعده موقف القرب والقرب هو المعرفة، ومن ثم موقف الكبرياء، والكبرياء هو العز، والعز هو القرب، وليس في كتب الإلهيات في الشرق والغرب كمثله كتاب، وإن كانت كتب الشرائع للعامة وكتب الحكمة للخاصة فكتاب المواقف هو لخاصة الخاصة، إن هذا الكتاب جدير أن ينذر طلاب الصوفية حياتهم للتنقيب في معانيه، فلربما كان من أعظم كتب العرفان قاطبة.

 

الاختلاف في موطن النفري

 

اختلفوا في البلاد التي جاء منها النفّري، ولا غرابة فالعظماء الكل ينسبهم إلى أرضه أو بلده، يقول البعض إنه النفزي وليس النفّري وهو من نفزة شمال تونس لكن المشهور أنه من نفّر في العراق وهو الثابت، والبعض يقول إنه مصري، ويقول التلمساني إنه توفي في القاهرة –هذا يعني أنه دفن فيها- سنة 375 للهجرة الموافق 965 للميلاد، ولا يؤكد التلمساني ذلك، مكتفياً بالقول: “الله العالم في مماته”.

 

إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي

يريد الصوفيون لا سيما الأقطاب منهم أن ينزّهوا عبادة الله وليس تنزيه الله فقط، فتنزيه الطلب والمطلوب شرط الإيمان بالله وحده لا شريك له، لا شريك من معبود ولا مطلوب حتى لو كان الجنة. فالفرق كبير على قول رابعة العدوية بين عبادة التجار وعبادة الأحرار، الأولون يريدون منافع من عبادة الله والأحرار لا يطلبون شيئا سوى الله.

ويكاد يكون العفيف التلمساني الرجل الوحيد الذي تصدّى لشرح رسالتي المواقف والمخاطبات، بل هو العلم الوحيد بالفعل، ويعترف التلمساني بأنه لم ير في مكتوب ولا سمع في مسموع منذ أكرمه الله تعالي بالانتماء للصوفية أفصح عبارة من هذه التجليات التي تعجز عنها قدرة البشر‏.‏

ويقول التلمساني عن أسلوب النفّري‏:‏ “أسلوبه يحمل في طياته إشارات غير واضحة‏، واعترافات في نصف كلمات‏، ومناجاة سرية كادت تكون مصوغة‏،‏ ولغة متكسرة وإن كانت رائعة، ولسانا مبهما وإن كان منورا‏،‏ وتعبيرا متقطعا وقفزا من قمة إلى قمة فوق هاوية هي بالنسبة إلينا الفراغ الذي لا تستطيع عقولنا أن تملأه‏، بينما هي بالنسبة إلى النفّري العمق الذي يربط قمم التجربة ويخلق فيها التواصل”‏.‏

 

مواقف من النفري

يقول البعض إن النفّري تأثّر بالمانوية، وفي زمنه كانت واسعة الانتشار، ويدللون على ذلك بقرب مدينته نفّر -التي هي نيبور السومرية- من بابل مدينة ماني مؤسس المانوية وعاصمتها، وكذلك اهتمامه بالمتضادات أو المثنويات: الظاهر والباطن، النطق والصمت، الليل والنهار، الحياة والموت، المعرفة والجهل، العبد والرب، النور والظلام، والنار والماء وذهب القلّة إلى أنه تأثّر بالنصيرية، لأنهم يأخذون بنظام المواقف بزعم البعض، ولأنه كان “رقيق الدين” بزعم آخرين.

 

كلمات للنفري

ـ ليس هو أن تتعلم الإقبال، هو أن تتعلم الانصراف.

ـ اطرد عقلك عن الحكمة المرتبة.

ـ العلم المستقر هو الجهل المستقر.

ـ الجهل عمود الطمأنينة.

ـ إنما أحادثك لترى، لا لتُحادثَ، فإذا حادثتُك رأيت فإذا رأيت، فلا حديث.

ـ بيتي في الحكمة وليس للحكمة باب ولا سور. وكل بيتي أبواب ولا سقف له يظلّه، ولا أرض له تقلّه.

ـ لكل شيء سر، إذا وقفت عليه، حملته ولم يحملك، ووسعته ولم يسعك.

ـ السر في العمل، حصول الآخرة وبها استجاب العمال للعمل، وفي استجابتهم للعمل، يختلفون فيه ويفترقون عنه، فالعلم مختلفٌ، ومن استجاب له، يختلف باختلافه.

ـ سرْ فأنا دليلك إليّ.

ـ لن تراني، حتى تراني أفعل.

ـ العلم كله طريقٌ إلى العمل.

ـ المحادثة لسان من ألسنة المعرفة.

ـ العلم حرف لا يعربه إلا العمل، والعمل حرف لا يعربه إلا الإخلاص، والإخلاص حرف لا يعربه إلا الصبر، والصبر خوف لا يعربه إلا التسليم.

ـ الحروف كلها مرضى إلا الألف، أما ترى كل حرف مائل، أما ترى الألف قائماً غير مائل، إنما المرض الميل وإنما الميل للسقام فلا تمل.

ـ لن تدوم في عمل حتى ترتبه وتقضي ما يفوت منه وإن لم تفعل لم تعمل ولم تدم.

ـ إن كنت ذا مال فما أنا منك ولا أنت مني.

ـ إن لم تدر من أنت لم تفد علماً ولم تكسب عملاً.

ـ صاحب الرؤية يفسده العلم كما يفسد الخل العسل.

 

*نقلا عن العرب اللندنية