تنفرد ليبيا عن دول الجوار في منطقة شمال إفريقيا بافتقارها لمصدر مياه تقليدي من أنهار أو أنهار موسمية، الأمر الذي جعلها تعاني من شح المياه وخطر الجفاف، وهو خطر يتهدد مصير سكانها الذين يتركزون بشكل أساسي في الشريط الساحلي، والذين طالما اعتمدوا على مياه الأمطار التي لاتأتي إلا في مواسم محدودة وبمعدلات أقل بكثير من متوسط المعدلات العالمية، كما يعتمد سكان ليبيا على المياه الجوفية التي يلاحقونها عن طريق الأبار التي كانت المصدر الأساسي للمياه حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي.
بالنظر لتزايد الطلب على المياه، ونضوب العديد من الآبار وتسرب مياه البحر لمساحات كبيرة من مستودعات المياه الجوفية في المناطق الساحلية، تفاقمت معاناة المواطنين، وتقلصت مساحات الأراضي الزراعية، فكان الاتجاه طبيعيا للبحث عن بدائل مناسبة لتوفير مياه الشرب والري والسقاية، وجاءت الاقتراحات متعددة، من بينها توريد المياه من أوروبا عبر ناقلات مماثلة لناقلات النفط، وتحلية مياه البحر، إلا أن هذه الاقتراحات التي كانت قيد الدراسة تلاشت أمام المقترح الثالث والذي اعتمد على المياه الجوفية التي أثبتت الدراسات وجودها بكميات كبيرة في المناطق الجنوبية من البلاد.
ونظرا لوجود كميات المياه الكبيرة في مناطق الجنوب غير المأهولة كان التفكير بين خيارين أن تبنى المدن والمجمعات الحضرية حيث المياه –وهو السياق المعتاد تاريخيا حيث تؤسس المدن والحواضر وتكون مصادر المياه- أو أن يتم نقل المياه إلى الشمال حيث التركزات السكانية، وهو أمر كان محل دراسة وبحث، إذ كيف سيتم نقل كميات مياه تقدر بملايين الأمتار المكعبة يوميا من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في رحلة تقاس مسافاتها بألاف الكيلومترات، ومن هنا كان التحدي الذي استجابت له إرادة الليبيين، بقرار من القيادة السياسية وبدعم من الشعب الذي أقر عبر "المؤتمرات الشعبية" تنفيذ مشروع نقل المياه وتمويله ليسجل إنجاز أضخم مشروع لنقل المياه عرفه التاريخ والذي تمثل في النهر الصناعي العظيم.
تتفق معظم المصادر أن اكتشاف كميات المياه الجوفية التي تمثل منابع النهر الصناعي، جاءت بعد انتشار شركات التنقيب عن النفط في الخمسينيات، حيث إكتشفت شركات التنقيب الغربية في مناطق الجنوب الليبي مخزون هائل من المياه الجوفية النقية، تم وصفه بمخزون نقي منذ العصر الهولوسيني ويصل إلى معدل استهلاك سنوي 2 مليار متر مكعب من المياه، إلا أن فكرة استغلال هذه الكميات لحل مشكلة المياه في الشمال بقيت بعيدة عن قرارات الدولة، حتى سنة 1983 عندما عرض الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الفكرة فشهر أكتوبر أمام المؤتمرات الشعبية لاتخاذ قرارا بتنفيذ مشروع ضخم لنقل المياه تحت اسم "النهر الصناعي العظيم"، وهو ما تم إقراره، ووضع "القذافي" حجر الأساس للبدء في تنفيذ المشروع بمنطقة السرير في 28 أغسطس 1984.
وتعتمد فكرة النهر الصناعي على نقل المياه الصالحة للشرب والري والسقاية من باطن الأرض في أقصى الجنوب إلى الشمال عبر شكبة أنابيب ضخمة تصنع لأول مرة في ليبيا عن طريق مصنعين في البريقة والسرير، وتمتد شبكة الأنابيب المدفونةتحت الأرض على طول 4000 كيلومتر تغطي معظم مناطق ليبيا في مجموعة مراحل تغطي كل منها جزء من البلاد وتتكامل فيما بينها في المراحل النهائية، يبلغ قطر كل أنبوب أربعة أمتار وطولها سبعة أمتار، لتشكل في مجموعها نهراً صناعياً بطول يتجاوز في مراحله الأولى أربعة آلاف كيلو متر، تمتد من حقول آبار واحات الكفرة والسرير في الجنوب الشرقي وحقول آبار حوض فزان وجبل الحساونة في الجنوب الغربي حتّى يصل جميع المدن التي يتجمع فيها السكان في الشمال.
تتجمع مياه فرع النهر القادم من واحات الكفرة والسرير عند وصولها إلى الشمال في خمس بحيرات صناعية معلّقة أقلها سعة أربعة ملايين متر مكعب، وأكبرها سعة أربعة أضعاف هذا الحجم مملؤة بالمياه طوال العام.
بالعودة إلى تاريخ المراحل التي مر بها النهر الصناعي، فقد بقيت بعض التواريخ كعلامات بارزة شاهدة على نقاط التحول والتطور منذ البدايات إلى تدفق المياه وتكامل المراحل المتلاحقة، حيث كانت البداية في 3 أكتوبر 1983 حيث تقرر في جلسة لمؤتمر الشعب العام "البرلمان" تمويل المشروع من قبل الشعب الليبي، وفي 28 أغسطس 1984، وضع الزعيم الراحل معمر القذافي حجر الأساس في منطقة السرير حيث أكبر حقول المياه التي تمثل منبع النهر، وفي 28أغسطس 1986 تم افتتاح مصنعي البريقة والسرير لانتاج أنابيب نقل المياه والتي تعتبر أكبر أنابيب من أسلاك الصلب سابق الإجهاد، وفي شهر سبتمبر 1989 وصلت المياه إلى أجدابيا، حيث خزان التجميع الرئيسي الذي تتفرع منه شبكتي بنغازي وسرت، اللتين وصلتهما المياه في 30 أغسطس 1991، وفي أول سبتمبر عام 1996 وصلت المياه إلى العاصمة طرابلس والمناطق المجاورة لها عقب وصولها عبر شبكة جبل الحساونة إلى خزان التجميع في منطقة سيدي السائح، لتتلاحق فيما بعد تغطية بقية مدن المنطقة الغربية، وفي شهر سبتمبر عام 2007 تم تدشين وصلة القرضابية السدادة التي تربط بين المنظومتين الشرقية الغربية، وتغطي العديد من المدن والقرى والبلدات المنتشرة في المنطقة الوسطى.
وعلى الرغم من أن العمر الافتراضي لمنظومة الأنابيب يقدر بحوالى 50 سنة، إلا أن كميات المياه التي تقدر بمليارات الأمتار المكعبة، التي تشير العديد من الدراسات بأنها متجددة، ما يشير إلى امتداد عمرها إلى مئات السنين، حيث أظهرت دراسات حديثة أجرتها الدكتورة إيمان محمد غنيم، مدير معمل أبحاث الفضاء بقسم الجغرافيا والجيولوجيا بجامعة نورث كرولينا بولمنجتون، بالولايات المتحدة الأمريكية، وجود ممر مائى عملاق قديم مدفون أسفل رمال الصحراء الكبرى يربط وسط أفريقيا بساحل البحر الأبيض المتوسط، مروراً بالأراضى الليبية حتى خليج سرت، وأكدت الدراسات ذاتها أن حوض الكفرة الذي يعد أحد منابع النهر الصناعي هو أحد مكونات هذا الممر الذي يعد بمثابة نهر جوفي.