يصادف غدا الاثنين 12 يناير ، الذكرى الـ 41 لإبرام اتفاقية الوحدة بين تونس و ليبيا بتاريخ 12 يناير 1974. حيث وقع الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة و العقيد الليبي معمر القذافي على "بيان جربة" لتوحيد البلدين تحت راية جمهورية واحدة تسمى بـ "الجمهورية العربية الإسلامية" تكون وفق سلطة تنفيذية و تشريعية و قضائية و دستورية واحدة، على أن يكون بورقيبة رئيسا لها و القذافي نائبا له أو وزيرا أولا في حكومة الوحدة.
و تشير صفحات التاريخ التي مازالت لم تبح بجميع أسرارها بعد، في الحقيقة، إلى أن توقيع اتفاق الوحدة التونسية الليبية كان حدثا هاما و مفصليا في تاريخ تونس آنذاك نظرا للظروف التي حفت بإبرامه و تداعيات التراجع عنه بعد ذلك، الى حد انه تسبب في اندلاع أزمة سياسية و ديبلوماسية و اجتماعية حادة بين القطرين الشقيقين، لا سيما و أن المشروع الوحدوي لم يعمر سوى 48 ساعة.
و يؤكد مؤرخو العصر الحديث أن فكرة الوحدة كانت فكرة مضيئة و عملاقة لو تم تدارسها بعمق و تهيئة كل الظروف الموضوعية والواقعية لإنجاحها. في المقابل، يشدد آخرون على أن توقيع بيان جربة 74 كان خطأ جسيما و قرارا غير مدروس من طرف بورقيبة و من طرف مهندسي المشروع من جماعته و على رأسهم وزير الخارجية آنذاك محمد المصمودي، مقابل أوهام و تخريجات قذافية بحتة حالمة بتكريس الوحدة العربية التي أثبت الزمن فشلها واقعيا.
و بعيدا عن تقديم التفسيرات و التأويلات التي قد تخطئ أو تصيب إزاء حدث هام و حارق في تاريخ تونس، نظرا الى تأثيراته الجلية بل الكارثية، على واقع العلاقات التونسية الليبية، أثناء فترة حكم المجاهد الأكبر ابتداء من 1974، تحدثت "بوابة إفريقيا الإخبارية" إلى رجالات و شخصيات بورقيبية نافذة و مقربة من الزعيم وقتئذ، بحكم انها عايشت مرحلة إبرام الحدث الوحدوي بين البلدين عن كثب. و ساهمت بكل ثقلها في رسم معالمه الجيوسياسية، إن بالدفع في اتجاه تفعيل الوحدة التونسية الليبية أو في اتجاه إجهاضها، في التحقيق التالي:
وفي هذا الإطار، قال وزير الاقتصاد في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة، منصور معلى، لـ "بوابة إفريقيا الإخبارية" إن توقيع الوحدة بين تونس و ليبيا كان مفاجأة في بادئ الأمر مبينا أن بورقيبة زار ليبيا في تلك الفترة بمناسبة احتفالها بعيدها الوطني آنذاك و قام باستدعاء الرئيس الليبي معمر القذافي إلى تونس للحديث في مقترح القذافي حول مشروع الوحدة بين البلدين. و أضاف أن الزعيمين التقيا بعد ذلك في جربة بتاريخ 12 يناير 1974 بحضور عدد من وزراء بورقيبة ومن بينهم وزير الداخلية الطاهر بلخوجة و مدير الديوان السياسي محمد الفيتوري و محمد المصمودي وزير الخارجية و أنه تم خلال ذلك اللقاء توقيع الإتفاقية الوحدوية بين البلدين.
خطر الوحدة بين مصر وليبيا
وأشار منصور معلى إلى أن فكرة إبرام الوحدة بين تونس و ليبيا كانت عميقة جدا لأن بورقيبة كان يعتقد أن تونس، البلد الصغير من حيث إمكانياته الطبيعية، لا يجب أن ينحصر بين عملاقين هما الجزائر و مصر موضحا أن مصر في تلك الفترة كانت تطمح إلى الوحدة مع ليبيا و أن المجاهد الأكبر كان يخشى إبرام هذه الوحدة بين مصر و ليبيا لأن الأولى لديها العسكر و الثانية لديها البترول، في حين لا تمتلك تونس سوى مواردها البشرية و هو ما قد يسبب بعض الإشكاليات و الخطر لبلادنا مؤكدا أن بورقيبة كان مهتما بتخفيف هذا الخطر الذي من الممكن أن يمس تونس إذا تمت الوحدة الليبية المصرية وفق تعبيره.
تضارب آراء و تراجع بورقيبة
و أوضح محدثنا أن توقيع المجاهد الأكبر لإتفاقية الوحدة مع ليبيا كان يهدف كذلك إلى إيجاد توازنات في منطقة المغرب العربي حتى يتم التكامل بين الإمكانيات الطبيعية الليبية و الإمكانيات البشرية التونسية بمعنى الكوادر و الأدمغة التونسية. و أكد أن فشل مشروع الوحدة كان نتيجة لتضارب الآراء بين القيادات الفاعلة زمن بورقيبة مبينا أن لقاء 12 يناير 1974 بين بورقيبة و القذافي تم في غياب الوزير الأول الهادي نويرة الذي كان مسافرا الى طهران وقتئذ. و أعقب بأن نويرة عندما عاد إلى تونس طلب من الرئيس بورقيبة طرد وزير الخارجية محمد المصمودي الذي كان مع تفعيل الوحدة التونسية الليبية و من المؤيدين للقذافي. و تابع بأن الوزير الأول لم يكن موافقا على إبرام هذه الوحدة مضيفا أن تشنجا حادا طغى على أعضاء الحكومة وقتها و أنه لهذا السبب قرر بورقيبة التراجع عن تطبيق ما كان قد وقعه مع الرئيس الليبي و طالب هذا الأخير بإعادة وثيقة جربة لتندلع على إثر ذلك أزمة سياسية و ديبلوماسية كبرى بين البلدين وصلت إلى حد طرد العمال التونسيين من الجارة الليبية.
لقاء مخجل بين الزعيمين بجنيف
و واصل منصور معلى بقوله بأن لقاء آخر جمع بين بورقيبة والقذافي بجنيف السويسرية بعد حوالي أسبوع من فشل مشروع الوحدة بحضور الوزير الأول الهادي نويرة و محدثنا و فيه طلب القذافي من بورقيبة توضيحا مقنعا يتضمن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تراجع الرئيس التونسي عن تفعيل ما تم الإتفاق حوله في جربة. و أضاف معلى أن بورقيبة حاول إقناع القذافي بأن هناك إشكاليات قانونية و دستورية لا بد من دراستها بعمق قبل تفعيل الاتحاد مع ليبيا مشددا على أن اجتماع جنيف كان مخجلا و غير مشرف من جميع النواحي حسب قوله.
بورقيبة كان راغبا في الوحدة و لكنه خذل
وعن حقيقة موقف بورقيبة من التراجع عن تفعيل الوحدة بين البلدين، قال معلى، إن بورقيبة كان راغبا في الوحدة لكنه تعرض إلى ضغوطات كبرى من طرف عدد من رجالاته وهو ما جعله يتراجع. و تابع بأن الفكرة الوحدوية بين تونس و ليبيا كانت عملاقة و لكن الزعيم لم يتمكن من تجسيمها لأنه لم يتلق مساعدة و مساندة من "جماعته" التي كانت خائفة من إمكانية تغول القذافي و لم تأمن له.
القذافي كان يطمح الى خلافة بورقيبة
و بخصوص مطامح أو مطامع القذافي من إبرام مقترحه الوحدوي مع تونس، بين منصور معلى، أن هذا الأخير، كان يبحث عن الإقتداء ببورقيبة حتى يصبح كبيرا أو بالأحرى شخصية نافذة، بما أن المجاهد الأكبر من كبار الزعماء مضيفا أن الرئيس الليبي كانت لديه نوايا أيضا بأن يصبح خليفة لبورقيبة على رأس الدولة التونسية الليبية بما أن الرئيس التونسي كان سيصبح رئيسا للبلدين المتحدين لو تم تفعيل اتفاق جربة. و أوضح في سياق متصل، أن القذافي كان يطمح كذلك إلى تأسيس دولة كبيرة تمتد من ليبيا إلى تونس حسب كلامه.
المجاهد الأكبر لم يستشر أعضاء حكومته
من جهة أخرى، بين محدثنا أن بورقيبة تراجع عن الوحدة لأنه خذل من قبل بعض رجالاته ولكن هذه المسألة لا يمكن أن تحجب حقيقة أن الزعيم ذهب إلى اجتماع جربة دون استشارة جميع أعضاء حكومته و أعضاء ديوانه السياسي و دون عقد اجتماعات و تشاورات معهم في الغرض.
و شدد في الأثناء على أنه كان لا بد من التروي و عدم التسرع قبل توقيع الاتفاقية لضمان دراسة المشروع الوحدوي من جميع الجوانب الدستورية و الاقتصادية و الإجتماعية و غيرها. و أضاف أنه لو توفرت الشروط المذكورة آنفا (أي التروي و عدم التسرع) لتم بناء الوحدة التونسية الليبية بنجاح و على أسس صحيحة و قوية و لتم تحقيق مكاسب كبرى لتونس و لليببا و لبلدان المغرب العربي ككل.
اختلاف في الرؤى و اغراءات
من جانبه، قال مدير التشريفات في عهد الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، عبد المجيد القروي، إن فشل اتفاقية الوحدة بين تونس و ليبيا يعود إلى عدة أسباب أهمها الاختلاف في الرؤى و التصورات بين الزعيمين بورقيبة و القذافي موضحا أن المشروع الوحدوي كان مقنعا من الناحية الإعلامية و ليس من الناحية العملية مضيفا أن الإغراءات التي قدمت لبورقيبة كانت كبيرة و أن الرئيس الليبي كانت له أطماع كثيرة وراء هذا المشروع و كان يزور تونس بصفة مستمرة من أجل تحقيق هدفه. و تابع بأن الشعب التونسي شعب طيب بطبعه و لكن كان يريد أن تتم الأمور بصفة مركزة و كان صارما في هذه المسألة وفق تعبيره.
قرار الوحدة لم يكن سهلا
و لاحظ مدير بروتوكول بورقيبة في اتصال مع "بوابة إفريقيا الإخبارية" أن النظام الحاكم في تونس وقتئذ عرف نوعا من الحيرة بحكم أن الوحدة مع ليبيا ستمكن تونس من دعم اقتصادي كبير جدا ولكنها لن تخلو من مشاكل في ذات الوقت، مؤكدا أن عوامل تاريخية و جغرافية و اقتصادية و مجتمعية عديدة كانت تربط بين الشعبين التونسي و الليبي و لكن تفعيل مشروع الوحدة بين البلدين لم يكن سهلا بالنسبة إلى تونس وقتها. و أكد أن الزعيم الحبيب بورقيبة لم يكن لينفذ أمرا هاما كهذا إلا بعد استشارة رجالات الدولة و التونسيين موضحا أنه عاش طيلة 14 سنة من عمره في ظل حكم بورقيبة و أن هذا الأخير لم يكن ليتخذ قرارات مصيرية دون استشارة بقية الوزاراء و رجال الحكم.
الاتفاقية وقعت في غياب الوزير الأول
و تابع بأن الزعيم كان يؤمن بضرورة تفعيل الشراكة مع ليبيا التي تملك إمكانيات اقتصادية كبرى و أنه لهذا السبب وافق في بداية الأمر على دخول تونس تحت راية الوحدة مع القطر الليبي ليتراجع عن ذلك لاحقا بعد استشارة رجالات حكمه. ولا حظ أن الوزير الاول الهادي نويرة كان خارج الوطن لما تم إمضاء اتفاقية الوحدة التونسية الليبية في جربة بتاريخ 12 جانفي 1974. و استطرد عبد المجيد القروي بأنه في ذلك الحين كان لا بد من التروي و التفكير الجيد و العميق لأنه ليس من السهل إبرام وحدة بين بلدين بهذه البساطة، بل انه كان لا بد من توفر شروط و مصالح معينة من أجل تفعيلها موضحا أن مقترح القذافي بإبرام الوحدة التونسية الليبية كان مقنعا نظريا أو بالأحرى إعلاميا و لكن بورقيبة كان لديه شعبا و كان عليه التروي قبل تنفيذ الإتفاقية على أرض الواقع و لذلك تراجع عن تفعيلها حسب ما جاء في كلامه.
خطاب البالمريوم
و ختم محدثنا بأن الخطاب الشهير الذي ألقاه المجاهد الأكبر في "البلماريوم" يلخص كل ما حدث في جربة يوم 12 جانفي 1974، مضيفا أن هذا الخطاب وثيقة تاريخية نادرة من شأنها كشف عديد المعطيات و التصورات عن هذا الحدث الهام و المفصلي في تاريخ تونس.
اتفاق متسرع و غير قانوني كتب على "ورق كاغط"
أما مصطفى الفيلالي، وزير الفلاحة و عضو المجلس القومي في عهد بورقيبة، فأوضح أن اتفاق الوحدة كان مبادرة سريعة و متسرعة جدا لأنها وقعت في غياب الوزير الأول الذي كان في زيارة عمل بإيران. و أضاف أن وزير الخارجية محمد المصمودي كان وراء هذا المقترح الذي تم توقيعه بطريقة غير قانونية و غير ديبلوماسية مبينا أن وزير الخارجية قام أيضا باختيار تركيبة الحكومة ، "حكومة الوحدة". و أعقب في الأثناء أن بورقيبة و القذافي قاما بتوقيع اتفاق الوحدة التونسية الليبية على ورق "كاغط" تابعة للنزل الذي تم فيه اللقاء في جربة.
بورقيبة رئيسا للدولتين
و أكد أن بورقيبة تم إغراؤه نفسيا بأنه سيصبح رئيسا لدولتين أو بالأحرى لدولة كبيرة تجمع كل من تونس و ليبيا مبينا أن معمر القذافي أغرى بورقيبة بأنه سيصبح زعيما لقطر مغاربي كبيرا جدا و أنه هو
من اقترح عليه رئاسة "دولة الوحدة" ليكون القذافي وزيرا أولا أو وزيرا للدفاع. و تابع بأن الاتفاق تم كذلك على أن تكون تونس العاصمة، عاصمة كبرى و طرابلس عاصمة صغرى.
خطأ جسيم و تونس ليست ليبيا
و شدد الفيلالي على أن إبرام عقد الاتفاق الوحدوي بين تونس و ليبيا في غياب رئيس الحكومة و زعيم الحزب الدستوري الحاكم الهادي نويرة كان خطأ جسيما بالنظر إلى حجم نويرة الكفاحي و النضالي و الذي كانت بيديه كل السلط التنفيذية. و تابع بأن المجاهد الأكبر لم يقم باستشارة المجالس النيابية و أعضاء الحكومة و لا قيادات الحزب الدستوري و لا حتى التشاور معهم قبل الدخول في مفاوضات مع دولة أجنبية . و بين أنه ليس من الهين الدخول في وحدة مع بلد آخر بهذه الطريقة المتسرعة بحكم وجود عديد الإشكاليات المتعلقة بطريقة توزيع السلط و تنظيم الدولة و تلك التي تخص مستقبل الشعبين و المنطقة عموما. و لاحظ أنه هناك نقاط تباين و تفاوت كبيرة من جميع النواحي السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية بين تونس و ليبيا حالت بدورها دون تطبيق مشروع الوحدة بين البلدين. و استطرد بأن تونس كانت تزخر بالكفاءات العلمية و ببرامجها التعليمية و كوادرها العليا الرائدة و أن هذا التفاوت الاجتماعي مع ليبيا جعل تفعيل الوحدة غير واقعي.
لا مقارنة بين بورقيبة و القذافي
وعن التفاوت السياسي و الفكري بين زعيمي الوحدة، قال مصطفى الفيلالي ل "بوابة إفريقيا الإخبارية"، إن الحبيب بورقيبة كان زعيما كبيرا و لا يمكن مقارنته أبدا بالقذافي لا من الناحية السياسية و لا الفكرية و لا من حيث الخبرة بدواليب الدولة و الكفاح الوطني و النظرة الإستشرافية للأمور و غيرها من الباع و الذراع السياسيين الذين كان يمتلكهما المجاهد الأكبر. و اعتبر في ذات الصدد، أن تونس وقتها كانت تمتلك مؤسسات و قوانين و مجلس نيابي و دستور و غيرها من ركائز الدولة، إضافة إلى أنها كانت بلد حضارة و إدارة و كفاح وطني و تعج بالكفاءات. في حين كانت ليبيا فضاء مقسما ترابيا و فارغ من الكفاءات وقتئذ و هو ما مثل بدوره حجر عثرة في طريق نجاح المشروع الوحدوي بين القطرين.
صعوبات اقتصادية وطمع في النفط الليبي
و أقر وزير بورقيبة، بأن تونس وقتها كانت تعاني من صعوبات اقتصادية و لذلك طمع جزء من التونسيبن في النفط الليبي بحكم أن البلاد تفتقد للثروات الطبيعية مقارنة بالجارة الليبية مضيفا أن الثروات الليبية كانت تغري عدد من التونسيين.
و عن تقييمه للتجربة ككل، قال الفيلالي، إن مشروع الوحدة التونسية الليبية كان من الممكن أن ينجح لو تمت دراسته بطريقة أعمق و الاتفاق على تفعيله على مدى آجال معينة قبل الدخول في مزج مع دولة أخرى حتى لا يقع الإضرار بمستقبل تونس و "باش ما نبيلكوش" البلاد، بجرة قرار عشوائي و غير مدروس حسب ما جاء في كلامه.
تفاصيل دقيقة
و بخصوص أدق التفاصيل التي حفت بإمضاء بيان جربة، قال وزير الداخلية في عهد بورقيبة، الطاهر بلخوجة، ل "بوابة إفريقيا الإخبارية" إنه رغم مرور 41 سنة على هذا الحدث، إلا أنه شخصيا مازال يراه كأنه وقع البارحة اي منذ تاريخ امتطائه الطائرة الخاصة التي أقلته إلى جانب الرئيس بورقيبة و الحبيب الشطي مدير ديوانه و علالة العويتي كاتبه الخاص إضافة إلى وزير الخارجية محمد المصمودي و محمد الصياح مدير الحزب الدستوري وقتها وكذلك عبد المجيد القروي مدير التشريفات في اتجاه جربة، أين التقى الوفد التونسي بالعقيد الليبي معمر القذافي الذي وصل جربة يوم 11 جانفي 1974.
الارتباك كان سيد الموقف
و لاحظ بلخوجة أن الإرتباك كان سيد الموقف في مشوار الرحلة إلى جربة مؤكدا أنه شخصيا شعر بخطورة ما يجري لأنه يعرف جيدا نوايا العقيد و كانت لديه عديد الهواجس التي تؤشر على انه هناك خطورة ما تنتظر تونس من جراء هذا التوجه. و أضاف أنه على نقيض ذلك كان بورقيبة منشرحا وو اثقا في نفسه و متألق النظرات كما هو شأنه دوما في اللحظات الصعبة متابعا بقوله بأنهم وصلوا جربة بعد حوالي الساعة و هناك التقوا بالقذافي الذي انفرد ببورقيبة في اجتماع خاص بعد ذلك، ليخرج لاحقا من الاجتماع مهنئا بقية أعضاء الوفد بالاتفاق على الوحدة بقوله: " مبروك" و كذلك بادر بتهنئة الرئيس الجديد للقطرين التونسي و الليبي، الزعيم بورقيبة. و أشار بلخوجة إلى أن محمد المصمودي قام على إثر ذلك بقراءة بيان الوحدة المعروف على الوفد المرافق للرئيس، لتتم قراءته من جديد بعد ذلك على المسؤولين الجهويين بجربة و على الضيوف الليبيين وفق كلامه.
توجس من قائمة القذافي
و أضاف وزير داخلية بورقيبة أنه بعد قراءة البيان تم الإمضاء عليه من طرف بورقيبة و القذافي ليقدم هذا الأخير على إثر ذلك قائمة بتركيبة حكومة الوحدة للرئيس بورقيبة موضحا أن الوفد المرافق للرئيس التونسي لم يكن على علم بهذه القائمة. مبينا أنه ومن معه توجسوا خشية من هذه القائمة التي قام بورقيبة بالتمعن فيها. و أعقب محدثنا بأن الوفد التونسي عاد بعد ذلك الى العاصمة و أنه اي بلخوجة رفض طلب الرئيس المتعلق ببقائه في جربة حتى يرافق القذافي في اليوم الموالي إلى طرابلس لترتيب الأمور الوحدوية هناك.
دور زين العابدين بن علي
و أكد بلخوجة أن القائمة التي قدمها القذافي الى بورقيبة تتعلق بتركيبة حكومة الوحدة. و أضاف أن هذه القائمة كانت تضم اسم زين العابدين بن علي مشددا على أن بورقيبة و نويرة طلبا منه توضيحات حول تضمن القائمة لاسم بن علي كمسؤول على الإستعلامات بالنسبة للجيشين التونسي و الليبي موضحا أن القذافي هو من كان وراء اقتراح بن علي. و استطرد أن جوابه كان بأنه هناك تواطؤات ما مؤكدا في ذات الصدد، أن تواطؤات ما كانت موجودة وقتها رغم أنها كانت بدون دليل. و بين أنه اقترح على بورقيبة وقتها القيام بإجراء عاجل وهو المسك الجيد بوزارة الدفاع و هو ماتم فعلا بإقالة عبد الله فرحات وزير الدفاع و تعيين الهادي خفشة وهو من المقربين للرئيس بورقيبة مكانه. و كذلك تعيين أحمد بالنور كمكلف بالأمن العسكري بوزارة الدفاع. و تابع بأن الإقالات تواصلت لتشمل وزير الخارجية محمد المصمودي يوم 14 يناير 1974.
وسيلة بورقيبة كانت غائبة و "تجاهل" الوفد التونسي في الجزائر
و لاحظ وزير داخلية بورقيبة، أن اتفاق الوحدة جرى في غياب الوزير الأول الهادي نويرة الذي كان في طهران و في غياب وسيلة بورقيبة التي كانت في رحلة الى الشرق، مبينا أن عودة الوفد من جربة الى العاصمة تزامنت مع عودة نويرة من إيران و أن اجتماع جمعه شخصيا بالوزير الأول و الحبيب الشطي في منزل هذا الأخير وقتها. و أكد أن الأحداث تسارعت بعد ذلك و كان أولها اتصال أجراه بورقيبة بالرئيس الجزائري هوراي بومدين مقترحا عليه الالتحاق بركب الوحدة التونسية الليبية، إلا أن بومدين أجابه بقوله:" لا أمتطي القطار و هو يسير".
و استطرد بأن بورقيبة قرر بعد ذلك إرساله مع الحبيب الشطي الى الجزائر موضحا أن طريقة استقبالهما هناك كانت مخالفة للأعراف الديبلوماسية رغم أنهما مبعوثي الرئيس مبينا أن بومدين لم يستقبلهمها و أن اللقاء اقتصر على وجود وزير الخارجية الجزائري آنذلك عبد العزيز بوتفليقة و وزير الداخلية حسين المدغري، و أشار الى ان الجزائريين أطنبوا في تذكيرهمها بأن تونس رفضت مشروع الوحدة الذي كانت قد تقدمت به الجزائر في الكاف عام 1972.
الضغط على بورقيبة
من جهة أخرى، بين بلخوجة أن لقاء جمع بين بورقيبة و القذافي بجنيف بهدف الضغط على هذا الأخير لإتمام الاتفاق ملاحظا أن هذا اللقاء بين القائدين كان سلبيا و لم يسفر عن أية نتائج تذكر.
محاولة اغتيال الهادي نويرة وزرع ألغام بقابس
أما عن تداعيات قرار تراجع الجانب التونسي عن إبرام الوحدة مع ليبيا، فقال بلخوجة، إن القذافي سعى إلى تنظيم مسيرة كبرى تبدأ من ليبيا إلى قرطاج كان باطنها تهنئة الرئيس التونسي على الوحدة و باطنها الضغط عليه حتى لا يتراجع. و تابع بأنه تم إعلامه بتلك المسيرة ليلا و انه اضطر ولأول مرة الى اتخاذ احتياطات امنية صارمة منها زرع ألغام بمحول قابس جنوب البلاد لإيقاف مسيرة القذافي نحو قرطاج مؤكدا أنه تم التصدي لهذه المسيرة و أنه في آخر المطاف لم يدخل تونس سوى وفد ليبي قليل العدد.
و أعقب بأن تداعيات الأزمة لم تتوقف عند هذا الحد بل وصلت الى حد محاولة اغتيال الهادي نويرة و طرد العملة التونسيين من ليبيا و اندلاع احداث قفصة 1980 وخسارة تونس للجرف القاري المشترك مع ليبيا عام 1982. و شدد في الأثناء على أن القذافي اتجه الى تفعيل الوحدة مع تونس بعد فشله في المساعي الوحدوية مع مصر و سوريا. في حين أن بورقيبة كان يطمح الى أن يكون زعيما لقطر كبير يتكون من تونس و ليبيا إضافة إلى أنه كان يعتبر أن الفضاء الحيوي لتونس موجود في ليبيا و أن الوحدة بين البلدين ستعطي لكل قطر منهما وزن و ثقل أكبر. و نفى بلخوجة أن يكون بورقيبة وقتها يعاني من متاعب صحية مؤكدا أن صحة المجاهد الأكبر كانت عالية و أنه لم يكن يعاني من أية إشكاليات تذكر. مبينا أنه لم يقع فهم الأبعاد السياسية التي كان يريد بورقيبة، تكريسها من خلال هذه الوحدة، حسب تعبيره.
الهادي نويرة يلتقي هواري بومدين
و أضاف الطاهر بلخوجة، أنه في الثامن من فبراير 1974 تحول الوزير الأول الهادي نويرة الى الحدود التونسية الجزائرية للقاء الرئيس الجزائري هواري بومدين بطلب من هذا الأخير، الذي أراد أن يطمئن النظام التونسي على أمن تونس على الحدود المشتركة ، حيث أكد بومدين أن الجزائر ستكون حامية ظهر تونس في تلك الفترة. و أشار محدثنا في ذات الصدد الى أنه تحول صحبة نويرة بتاريخ العاشر من نفس الشهر، الى جنيف أين كان يستريح المجاهد الأكبر، لأن الوزير الأول أصر وقتها على أن يطلع بورقيبة على فحوى لقائه بالرئيس الجزائري ملاحظا أن سمات من الحزن و الصمت طغت على ملامح بورقيبة في هذا اللقاء، و ذلك نتيجة للوضع الذي وصلت إليه البلاد في ذلك الوقت حسب ما جاء في كلامه.