وحدها الأرقام والاحصائيات التي ترصد مختلف مجالات الحياة في افريقيا الوسطى من يمكنه أن يترجم عمق الهوّة التي تتردّى فيها ظروف الحياة اليومية للسكان ومستوى عيشهم، لتلقي الضوء على هذه الرقعة الجغرافية التي تسجّل أدنى مستويات العيش فيها رغم ما تزخر به من ثروات طبيعية هائلة.

 وفي قراءة حول الموضوع، يعود البروفيسور "باتريس غورديان"، وهو دكتور في التاريخ بمعهد الدراسات السياسية في جامعة "إيكس أون بروفانس" بفرنسا، إلى أعراض تدنّي مستوى العيش في افريقيا الوسطى، من ذلك ارتفاع نسبة الوفيات لدى الأطفال، والتي تبلغ أعلى المعدّلات المسجّلة على الصعيد العالمي. كما تطرّق إلى ضعف مؤشّرات التنمية البشرية،  وإلى التوزيع غير العادل للموارد الطبيعية بين مختلف الفصائل العرقية في البلاد. وبالرجوع إلى أصل المعضلة، أشار "غورديان" إلى أنّ الإرث الاستعماري الثقيل الذي توارثته افريقيا الوسطى عبر السنين هو ما أفرز  هذه الدولة المهتزّة والفاقدة لبوصلة التوازن على المستوى العرقي والايديولوجي.

(المعطيات التالية لا تلزم إلاّ السيد باتريس غورديان، نزولا عند طلبه)

تصنّف افريقيا الوسطى ضمن الدول الأكثر فقرا في العالم، بدخل اجمالي محلّي لم يتجاوز الـ 2.17 مليار دولار سنة 2012، وبدخل فردي سنوي لا يتعدّى الـ 446 دولار للساكن الواحد. وتضمّ تركيبتها السكانية  ( 4 ونصف مليون نسمة )  80 % من المسيحيين و10 % من المسلمين، أمّا الـ 10 % المتبقية فتشمل الوثنيين ممّن يعتقدون بسمات الروح لدى الحيوانات والجماد. ويبلغ مؤشّر التنمية البشرية 0.352، وهو ما يضعها في المرتبة 180 من جملة 187 دولة في العالم تخضع لاحتساب المؤشر المذكور، دون إغفال أنّ 82 % من السكان يعيشون بأقلّ من 2 دولار في اليوم الواحد، وفقا للبيانات الواردة في الطبعة الأخيرة من مجلة الدراسات الجيوستراتيجية الفرنسية لمعهد الدراسات السياسية بـ "إيكس أون بروفانس".

افريقيا الوسطى هي أيضا من الدول ذات الخصائص النادرة، فبعكس المتعارف عليه، يغلب سكان الأرياف (68 %) على سكان المدن (38 %). تركيبة من النادر أن تتوفّر في سياق السباق المحموم نحو المناطق الحضرية الذي تعيشه دول المعمورة قاطبة. ويتمركز أغلب السكان بالعاصمة بانغي. وتقدّر النفقات المخصّصة للصحة بـ 4.3 % من الناتج الاجمالي المحلّي، في حين لا يستأثر قطاع التعليم سوى بـ 1.2 %.

وبالإضافة إلى العوامل الطبيعية والتاريخية التي صنعت منها ملتقى بشريا غير متكافئ من حيث التركيبة، وغير متجانس من حيث الانتماء العرقي والايديولوجي، ساهم اندلاع الأزمة السياسية في افريقيا الوسطى (والتي سرعان ما تحولت إلى نزاع طائفي) في ارتفاع نسبة الوفيات في صفوف الأطفال لتبلغ 101 في الألف سنة 2010، ثمّ 97 في الألف سنة 20ّ12، وهي من أرفع النسب المسجّلة على الصعيد العالمي، خصوصا وأنّ 40 % من سكان افريقيا الوسطى هم دون الخامسة عشر. كما أنّ أمل الحياة عند الولادة لا يتجاوز الـ 46 سنة بالنسبة للذكور و49 سنة للإناث. ومع تفاقم أحداث العنف المسجلة مؤخّرا بالبلاد، وجد أكثر من مليون ساكن أنفسهم ممنوعين من التنقّل، في حين فرّعشرات الآلاف الآخرين إلى دول الجوار، خاصة بعد أن طالت المجاعة بعض المناطق.

ملامح التعقيد التي تغشى واقع البلاد تنضح من كلّ ركن فيها، بما في ذلك امتدادها الجغرافي، حيث تمسح افريقيا الوسطى 622 ألف و948 كم مربّع. ويعيش على أراضيها خليط من السكان يتحدّثون 60 لغة، من بينها لغة السونغاي (من اللغات النيلية الصحرواية لشعوب استقرّت بالأساس في غرب افريقيا). 70 % من سكّانها يعتمدون على القطاع الفلاحي، والذي يساهم بدوره بـ 56 % من الناتج الإجمالي المحلّي، والمقدّر سنة 2011 بـ 2.16 مليار دولار. ما يعني أنّ الفلاّح يمثّل "الواجهة المرجعية المحورية لمعظم السكان في افريقيا الوسطى" على حدّ تعبير البروفيسور "غوردان". ففي الوقت الراهن، يحصل سكان افريقيا الوسطى على غذائهم ممّا تنتجه أراضيها من الكسافا (679 ألف طن)، والبطاطا (346 ألف طن)، إضافة إلى الذرة (150 ألف طن) والفول السوداني (140 ألف طن)، إلى جانب منتجات أخرى على غرار الموز وغيره.

وإلى جانب المحاصيل الغذائية، تنتج البلاد القهوة وقصب السكر والتبغ، غير أنّ حصيلتها تبقى ضئيلة بسبب  ضعف البنية التحتية للبلاد، من ذلك شبكات النقل.

الموقع الجغرافي لعب هو الآخر دورا في إضفاء مسحة من التعقيد على واقع البلاد، حيث يقع ثلثي البلاد داخل أحواض نهر "أوبانغي" الذي يتدفّق جنوبا إلى الكونغو، في حين يقع الثلث المتبقّي في حوض "شاري"، الذي يتدفّق شمالا إلى بحيرة التشاد. وعلى طول الشمال الشرقي للبلاد، تمتدّ سلسلة من الجبال المتواضعة الارتفاع (حوالي ألف متر)، وتطلّ على حوض نهر النيل (سلسلة جبال "دار شالا" و"بونغو" على الحدود مع السودان وجنوب السودان (أعلى قمة بهذه السلسلة تعود إلى جبل "توسورو" بارتفاع قدره 1330 متر)، وغربا فوق حوض "بينوي- النيجر" (عبارة عن كتلة صخرية جرانيتية، تقع بمدينة "يادي" على الحدود مع الكاميرون، وتبلغ ذروتها في جبل "نغاوي" (1410 متر)). ويتّسم المشهد الجغرافي في افريقيا الوسطى بكثرة الوديان التي تتخلّلها تلال الجرانيت المستخدمة في الغالب من طرف السكان كمواقع دفاعية عند الحاجة، وفقا للدكتور "غارديان". 

الطبيعة إرتأت الفصل بين شمال البلاد وجنوبها، وهو ما مهّد الطريق في مرحلة موالية لبروز نوع من الانقسام شمل أيضا الجوانب التاريخية والثقافية. فبالإضافة إلى المعطى الجغرافي، لم يغفل البروفيسور الحيثيات التاريخية، والإرث الاستعماري على وجه الخصوص، والذي كان المحدّد الرئيسي – حسب رأيه- في رسم مصير البلاد، وطلاء واجهة تاريخها بلون أسود قاتم.

ولقد ظهرت أولى البوادر الاستعمارية بافريقيا الوسطى في العام 1884، بعد صراع وضع باريس في مواجهة ألمانيا وبلجيكا وبريطانيا العظمى في أعقاب المؤتمر الاستعماري ببرلين (نوفمبر/ تشرين الثاني 1884- فبراير/ شباط 1885)، لتنتهي بحصول فرنسا على منطقة "باوبانغي- شاري"، نسبة لموقعها في أحواض نهري "أوبانغي" و"شاري"، بمقتضى أمر مؤرّخ في الحادي عشر من فبراير/ شباط  1906. وفي سنة 1910، أصبحت جزء من افريقيا الاستوائية الفرنسية إلى غاية سنة 1960.

وقد بلغت "الوحشية الاستعمارية ذروتها في افريقيا الوسطى من خلال اعتماد المستعمر الفرنسي على "نظام استعماري مبني على الإكراه وإجبار الفئة النشيطة على العمل مقابل توزيع غير عادل للموارد"، وهذا ما تسبّب "في ظهور التوتّر بين الطوائف"، بحسب غورديان.

وعلاوة على ما تقدّم، كان للجانب العسكري دور في عدم الاستقرار الذي هزّ افريقيا الوسطى على مدى السنين. ففي العام 1960 (عقب الاستقلال عن فرنسا)، تشكّلت القوات المسلّحة بافريقيا الوسطى، وضمّت ما بين 5 آلاف إلى 8 آلاف جندي، وفقا لتقديرات مختلفة. غير أنّ الملاحظين يفتقدون في الجهاز العسكري - منذ نشأته- الولاء للرؤساء المتعاقبين على السلطة في البلاد. ضعف هذا الوازع كان وراء الانقلابات والإضطرابات التي هزّت افريقيا الوسطى منذ استقلالها، والتي من أبرزها تلك التي هزّت البلاد في سنتي 1996 و1997.. فهذه الدولة لم تشهد على امتداد تاريخها المعاصر تداولا سلسا للسلطة فيها، وهذا ما جعل القوات المسلّحة بافريقيا الوسطى مثارا دائما للنقد من طرف منظمة الأمم المتّحدة بسبب ما وصفته الأخيرة في تقاريرها بـ "ممارسات القتل والتعذيب والعنف الجنسي" التي ارتكبتها هذه القوات منذ تشكّلها.