تسعى ميليشيات "أنتي بالاكا" إلى دحض ومحو تلك الصورة التي ارتبطت بها منذ اندلاع الأزمة بافريقيا الوسطى، على خلفية مجمل الفظائع التي استهدفت المسلمين ونسبت إليها..

اليوم، تحاول هذه الحركة جاهدة التحاف عباءة الانضباط والمسؤولية، عسى أن تحظى بالرضا من قبل الأطراف الفاعلة في البلاد، وتتمكّن بالتالي من الحصول على تأشيرة العبور نحو طاولة المفاوضات، والدخول في الحكومة الجديدة المرتقبة.

غير بعيد من نقطة تفتيش للدرك الوطني بافريقيا الوسطى والجمارك بمنفذ بانغي، وعلى طريق "مبايكي" بالجنوب الغربي للعاصمة، يقف عدد من الرجال بأزياء عسكرية مختلفة، صانعين حاجزا من الأمشاط التي ترتفع وتنخفض بحركة من أياديهم.. ويقوم ذلك الجمع بتفتيش كلّ السيارات في الاتّجاهين، تحت إمرة إحدى الوجوه الأكثر شعبية لـ "أنتي بالاكا".. "رامبو" كان ذلك اسمه، أو على الأقلّ الاسم الذي عرف به.. كان يراقب الوضع عن كثب ويصدر أوامره من مكانه بمرآب يشرف على نقطة التفتيش التي يقيمها رجاله.

لم يكن الرجل مرتديا بزّة عسكرية، غير أنّ يده كانت تحكم بقبضتها على سلاح بدا ظاهرا للعيان من تحت قميصه.. قليل الكلام، ممتلئ الجسد، كان الرجل يتكفّل بمهمّة التنسيق بين أنشطة مجموعات "أنتي بالاكا" بمحافظات "لوباي" و"أومبيلا مبوكو" غربي العاصمة بانغي.. بدا المشهد برمّته خاضعا لنظام صارم شبيه بذاك الذي تطبّقه القوات النظامية..

وبدا واضحا أنّ هذا الرجل الذي خدم صلب القوات المسلّحة بافريقيا الوسطى كان يجاهد من أجل إعطاء مظهر العسكري المنضبط والمحترف والقطع مع سمعة "قطّاع الطرق" و"المجرمين الهمجيين" أو "العصابات المنبوذة التي لا قانون يحكمها"، والتي ما فتئت تلاحق "أنتي بالاكا" منذ بداية السنة الجارية، وقد تجلّى ذلك خصوصا من  خلال ما يفرضه على أتباعه من تصرّفات رسمية صارمة تقضي بالاحتفاظ بمسافة معه كلّما اقتضت الضرورة الرجوع إليه للحصول على التعليمات، قبل أن يعتدلوا في وقفة حازمة لأداء التحية العسكرية، هاتفين في الآن نفسه "سيدي الرئيس"..

تشكّلت ميليشيات "أنتي بالاكا" في البداية كمجموعات للدفاع الذاتي المتكوّنة من القرويين للدفاع عن أنفسهم ضدّ انتهاكات "سيليكا" (تحالف لمتمرّدين قدموا من شمالي افريقيا الوسطى، وهم أنفسهم من حمل "ميشيل دجوتوديا" (الرئيس السابق لافريقيا الوسطى) إلى الحكم في مارس/ آذار 2013.

في الخامس من ديسمبر/ كانون الأوّل، اقتحمت ميليشيات "أنتي بالاكا" العاصمة بانغي، وتسبّبت في ردّة فعل دامية من قبل تحالف "سيليكا". وبنزع سلاح بعض المجموعات التابعة لهنذه الاخيرة، وتجميع عناصرها  في مخيّمات عسكرية، تحوّل مقاتلو التحالف المسلم، وخصوصا التشاديين منهم والسودانيين، إلى هدف سهل المنال بالنسبة للميليشيات المسيحية. عقاب أو انتقام لم يقتصر على العناصر المقاتلة فحسب، وإنّما تعدّاها ليشمل كافة المسلمين بدون استثناء. ومع تصاعد أعمال العنف، اتّخذت الانتهاكات التي استهدفت المسلمين أشكال السحل والإعدام، وتدمير قرى وأحياء بأكملها، بالإضافة إلى النهب.. جرائم بالجملة نسبت أو ارتبطت بشكل أو بآخر بالميليشيات المسيحية، فكان أن اقترن اسمها في الخطابات الرسمية بأوصاف من قبيل "العصابات وقطّاع الطرق" و"أعداء السلام"، واعتبارها "غير مسيحية" من طرف السلطات لدينية..

وبتحوّل أصابع  الاتّهام إليها بشكل متزامن، لم يجد كبار قادتها بدّا من السعي جاهدين نحو إستعادة صورة الوطنيين المسؤولين، والمنضبطين الذين تحرّكهم الرغبة في إحلال السلام ببلدهم.

وفي حديث للاناضول قال "رامبو" "نحن هنا نطبّق قواعد الانضباط العسكرية.. نحن ننتمي إلى أنتي بالاكا، لكنّنا على اتّصال مع قائد هيئة أركان القوات المسلّحة بافريقيا الوسطى، وأنا أرفع التقارير إلى وزارة الدفاع"، لافتا إلى أنّه ما يزال "يعمل ضمن القوات المسلّحة"، ويحصل منها على "راتبه العسكري".

وتحمل العناصر التي تحظى بالاعتراف بانتمائها إلى ميليشيات "أنتي بالاكا" شارة دوّنت عليها معطيات تبين وحدة الانتماء العسكرية والمعطيات اللازمة، ولا شيء يسمح بالتالي بالاستعراض أمام عدسات المصوّرين بالمديات وعمليات ذبح المسلمين..

"فيكتوريين باليزو" وهو أحد الرقباء المنتمين إلى "أنتي بالاكا"، كان يجلس بالقرب "الرئيس" (رامبو) مرهفا السمع إلى الحديث الدائر بين رئيسه ومراسل الأناضول، لم يتمالك نفسه من الانخراط في الموضوع بمجرّد أن انقطع عنه رئيسه.. قال "الحركة تتكوّن في معظمها من الشباب المدنيين، غير أنّه وقع تأطيرهم من قبل الجنود المحترفين"، قبل أن يضيف "ثلاثة أرباع عناصرنا تتحلّى بأخلاق جيدة".

وتعقيبا عن جملة الشكاوى التي تقدّمت بها النساء اللواتي يمارسن التجارة بسوق "بيتيفو" المجاورة بمخرج العاصمة بانغي، والمتعلّقة بتعرّضهن للمضايقات والتحرّش من قبل ميليشيات "أنتي بالاكا"، قال "باليزو" "لقد قمنا بمعاقبة العناصر التي ارتكبت هذه التجاوزات، وعلاوة على ذلك، فقد جرّدنا رجالنا من السلاح في المدينة تفاديا للمشاكل". أمّا "رامبو" فقال "فرضت الانضباط في المناطق الخاضعة لمسؤوليتي ولا مجال إذن للفوضى".

"رامبو" لم يكتف بذلك، وإنّما عبّر عن رغبته في التخفيف عن المسلمين ومساعدتهم "في أواخر يناير/ كانون الثاني، وبعد رحيل "سيليكا" من "بودا (بلدة تقع على بعد 140 كم غرب بانغي ويقيم فيها عدد كبير من المسلمين)، قمت بزيارتها، لأقف على حقيقة أنّ المسلمين أحرقوا منازل المسيحيين، ومع ذلك، طلبت من عناصرنا عدم استهداف المدنيين".. تعليمات من النادر أن تلقى طريقها نحو التفعيل، بما أنّ الحيثيات على الأرض تشي بغير ذلك.  رغم ذلك، يصرّ "رامبو" على موقفه قائلا "ليس لدينا مشاكل مع مسلمي افريقيا الوسطى.. فسائقو الشاحنات الذين يمرّون من هنا هم من المسلمين.. مشكلتنا مع المرتزقة التشادية والسودانية".

الخطاب لم يتمكّن في مجمله من الافلات من ملامح الخبث والتضارب الكامن بين الأسطر، فـ"العرب" (أي جميع المسلمين) يصنّفون على أنّهم أعداء. بعض عناصر "أنتي بالاكا" يتنكّرون أحيانا بارتداء الكوفية أو الجلباب لتحديد أولئك الذين يودّون تصفيتهم أو طردهم من البلاد .

المتحدّث الوطني باسم "أنتي بالاكا" وهو أيضا أحد مؤسّسي الحركة "سيباستيان وينيزوي" انضمّ إلى حلقة النقاش التي يديرها مراسل الأناضول قائلا  "صحيح أنّ المستوى الفكري منخفض، غير أنه ينبغي توضيح حقيقة للشعب مفادها أنّ مسلمي افريقيا الوسطى هم إخوتنا".

"منذ الثلاثين من مارس/ آذار، أصدرنا أوامرنا بعدم ارتكاب أعمال عنف جديدة، واقتصرت ردود أفعالنا على الدفاع عن أنفسنا ضدّ انتهاكات المسلمين.. أنا أدعو كلّ أسبوع عبر الإذاعة إلى وقف العنف والانتقام، خصوصا بعد ما حدث خلال الأسابيع الماضية.. ففي جنوب "الكيلومتر5" (منطقة تقع ضمن نفوذ رامبو)، ما تزال هناك مجموعة منشقّة تواصل ارتكاب أعمال العنف. وقد تمكنا من تحديد المسؤول عن مقتل الشاب بشير (مسلم شاب من أم مسيحية تمّ تقطيع أوصاله في الثامن والعشرين من نيسان/ أبريل، وأثار مقتله مواجهات دامية)، وقدّمت اسمه إلى المشرفين على الاذاعة، وستتمّ محاكمة هؤلاء الناس".

تصريحات قادة الحركة في جلّ المناسبات والتي تعبّر عن رغبتهم في المساهمة في إحلال السلام بافريقيا الوسطى وتحقيق المصالحة الوطنية ووضع حدّ لأعمال العنف المنسوبة لأنتي بالاكا، جعلت من هذه الأهداف أولوية الحركة. "رامبو" قال في هذا السياق "معظم العمليات التي أقودها الآن تشمل طرد العناصر الوهمية من أنتي بالاكا ".

"سيباستيان وينيزوي" أضاف من جهته "بهدف رسم حدود بين الجريمة وبين حركة محترمة، اقترحنا على الرئيسة المؤقتة (كاترين سامبا بانزا) تشكيل شرطة عسكرية أنتي بالاكا، تقوم بتمشيط شوارع المدن والقبض على اللصوص، وذلك بدعم من الدولة، ويقع تمييزهم عبر شارات معيّنة"، مضيفا "يتمّ استقبالنا بشكل دوري في مؤسّسة الرئاسة. وعقب إعلان الرئيسة الأسبوع الماضي عن نيتها إجراء تعديل وزاري، طلب منا تقديم مقترحات أسماء للحقائب الوزارية والكبار المسؤولين".

وفي سياق متصل، أكّد "باليون زيلابو" الذي يقدّم نفسه كمستشار سياسي لأنتي بالاكا أنّ حركته عبارة عن "تمرّد شعبي قام ضدّ ظلم سيليكا، إلاّ أنها (الحركة) غير مرتبطة بأي حزب سياسي". فهذا المسؤول السابق بحزب الرئيس السابق "فرنسوا بوزيزيه" والذي أطيح به في مارس/ آذار 2013 من طرف ميشيل تجوتوديا، يبدو أحد مهندسي هذا التوجّه الجديد الذي تتبناه أنتي بالاكا، وذلك من منطلق النفوذ الذي يمتلكه الرجل حتى على قادة المناطق. والأيام القليلة القادمة هي وحدها من يمكنه الجزم ما إذا كان هذا التحولّ مجرّد مساحيق تجميل يراد من ورائها تلميع صورة الميليشيات المسيحية، أم أنّ تأثيراتها ستكون أعمق وستخلق تحوّلات في المشهد السياسي برمّته في افريقيا الوسطى